كانت مفاجأة وطرفة كبيرة أن تتقدم الحكومة الإسرائيلية بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي الخميس 28 أغسطس 2014 ضد حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، بادعاء استخدامها للمدنيين في غزة كـ"دروع بشرية" خلال التصعيد العسكري الأخير في القطاع، مستبقة بذلك دعاوى تطالب بمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين عن قتلهم حوالي 2139 شهيداً، بينهم 579 طفلاً و263 امرأة و102 مسناً، وجرح حوالي 11128، بينهم 3374 طفلاً و17 صحافياً.
وأطلق مغردون علي هذا الموقف الإسرائيلي المثل المصري الشهير الذي يقول: "ضربني وبكى وسبقني واشتكى" للتدليل على "الدهاء" الإسرائيلي، ومحاولة إبعاد اتهامات جرائم الحرب عنهم بعدما قتلوا هذه "الدروع البشرية" حسب زعمهم، وارتكبوا 49 مجزرة بحق 90 عائلة فلسطينية أبيدت بأكملها (530 شهيدا وشهيدة)، وهدموا أبراج سكنية فوق ساكنيها في اليوم الـ50 للحرب في أبشع انتقام وجرائم ضد السكان الأبرياء.
وارتكبت القوات الإسرائيلية العديد من الجرائم في غزة بخلاف قتل الأبرياء منها تدمير حوالي 2358 منزلا بشكل كلي و13644 بشكل جزئي وتدمير 60 مسجدا بشكل كلي و109 بشكل جزئي إضافة إلى تدمير مستشفيات وأبراج سكنية بأكملها.
وما تخشاه تل أبيب هو توقيع السلطة الفلسطينية على اتفاقية روما المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية بعد موافقة حماس وباقي الفصائل، بما يسمح لرام الله بعدما أصبحت هناك دولة فلسطينية ليست عضوا في الأمم المتحدة رسميا، ومن حقها بالتالي التقدم بشكاوى ضد جنرالات الحرب الصهاينة لمحاكمتهم بعدما كانت المحكمة تتعلل في جرائم أخري عامي 2009 و2011 بأن فلسطين ليست دولة.
ففي عدواني 2009 و2011، ارتكب الإسرائيليون نفس الجرائم، وطالبت لجنة الإغاثة والطوارئ باتحاد الأطباء العرب الجامعة العربية بتشكيل لجنة تحقيق دولية في الانتهاكات الصهيونية بحق المدنيين في غزة بوصفها جرائم حرب ضد الإنسانية بعدما كشف أطباء الاتحاد الذين ذهبوا لغزة عن أدلة فعلية على استخدام أسلحة محرمة دوليا تشكل جريمة حرب، وقدمت شكاوى ولكن رفضت المحكمة الجنائية التحقيق فيها.
واعترفت دول عديدة بجرائم إسرائيلية، خصوصا بعد توارد الأدلة عن استخدام إسرائيل أسلحة كيماوية محرمة دوليا وفسفور حارق، وأدلة طبية مثل تعرض المصابين بمرض الوكيميا (سرطان الدم) للنزيف الحاد بفعل الغازات السامة والمسرطنة المستخدمة وهو دليل طبي ملموس علي استخدام أسلحة محرمة ، فضلا عن التهابات الرئتين والحروق الكيماوية .
وكشف أطباء في مستشفيات غزة وصحف ومؤسسة طبية عالمية عن أن قوات الغزو الاسرائيلية في غزة استخدمت في عدوان 2009 بغزارة أسلحة محرمة دوليا بين التجمعات السكانية أخطرها "الفسفور الأبيض" White Phosphorus (WP) المعروف باسم «ويلي بيت» Willy Pete ، و"القنابل الحرارية الحارقة" Thermobaric weapon " المسماة بـ :"الميكروويف" التي تحرق وتدمر أجزاء الجسم الداخلية، مؤكدين ضرورة محاكمة مجرمي الحرب الصهاينة أمام محاكم جرائم الحرب الدولية.
وفي الحرب الحالية وردت تقارير عن غازات برائحة كريهة تقتل المدنيين، وقنابل الأعماق لاقتلاع أبراج سكنية من أماكنها، وحروق نتيجة أسلحة محرمة، وطلقات محرمة.
تهاون الحكومات يمنع محاكمة الإسرائيليين
ويقول خبراء قانون دولي إنه آن الآوان لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وأن هناك أدلة قانونية منذ عدوان 2008 حتى عدوان 2014 تسمح بمحاكمة القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، بل ضباطهم وجنودهم أمام المحاكم المحلية العربية أو الدولية أو الأمريكية والأوروبية، وأن هذه المحاكمة ممكنة ولكن "تهاون" الحكومات العربية وعدم توافر "الإرادة" يمنع ويعرقل هذه المحاكمة عن جرائم الحرب الصهيونية المختلفة وأخرها ما جرى في غزة.
ويرى الخبراء أنه لو توافرت هذه الرغبة الحكومية العربية لأمكن محاكمة الصهاينة أمام أكثر من محكمة محلية ودولية ولأحال هذا حياة القادة الإسرائيليين إلي جحيم وجعل مذكرات الاعتقال في انتظارهم في مطارات دول العالم منوهين لسبق إصدار محكمة بلجيكية قرارات بمحاكمة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شارون، والرئيس الأمريكي بوش ونائبه تشيني ووزير دفاعه رامسفيلد عام 2002، وإصدار محكمة بريطانية أمراً بإلقاء القبض على الجنرال دورون ألموغ القائد السابق للمنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي ضده لارتكابه جرائم حرب ضد الفلسطينيين في غزة عام 2002 أيضا.
ففي تصريح سابق قال د. عبد الله الأشعل الخبير وأستاذ القانون الدولي أن أركان جرائم الحرب -كما يوصفها نظام روما واتفاقية إبادة الجنس واتفاقيات جنيف الأربعة- متوافرة في القادة الصهاينة من قتل متعمد لأطفال ونساء وضرب منشات مدنية في غزة عمدا من قبل الطائرات الإسرائيلية مثل سيارات الإسعاف والطواقم الطبية والمساجد ومخازن الطعام والأدوية والوقود وكل موارد الحياة، وكل هذه محمية بالقانون الدولي الإنساني وتشكل أعمال بمثابة جرائم حرب.
وقال: إن إسرائيل غالبا ما تبادر بالتحرك قبل العرب، فقد قدمت أيضا عام 2008 مذكرة شكوى للأمين العام للأمم المتحدة ضد قادة حماس تزعم تهديدهم للسكان الإسرائيليين بصواريخهم "الإرهابية"، في حين لم تتحرك الدول العربية لا محليا أمام محاكم محلية أو محاكم دولية (الجنائية الدولي) أو حتي المحاكم الأمريكية والأوروبية العادية التي تقبل هذه القضايا وتهاونت في ذلك ، نافيا أن يكون ما تفعله حماس "جرائم حرب" وفق القانون الدولي كما يقول الصهاينة، ومؤكدا إنها مقاومة مشروعة لا ترقي لحد "الخربشة" للاحتلال وممارسة حق الدفاع الشرعي ورد فعل علي حمامات الدم الصهيونية.
ونوه "الأشعل" لأن الحكومات العربية كثيرا ما تعرقل هذه الدعاوي أمام محاكمها المحلية التي وصفها بأنها غير مستقلة تماما وخاضعة لسيطرة الحكومات، وذلك عبر الدفع بعدم الاختصاص أو بتجاهل نتائج هذه الدعاوي وحفظها وعدم التحرك للمطالبة بمثول المتهمين الإسرائيليين أمامها أو المطالبة بتسليمهم للمحاكمة أو القبض عليهم بعد الحكم عليهم.
وقال: إن المحاكم الأمريكية والأوروبية العادية مفتوحة أمام إدانة القادة الإسرائيليين على غرار ما حدث في محاكم بلجيكية وبريطانية في عام 2002، وأنه يمكن محاكمة القادة الصهاينة السياسيين والعسكريين وحتى الجنود لو تم معرفة أسماء بعض من يشاركون منهم في جرائم حرب غزة (لأن المحاكمة فردية) أمام هذه المحاكم بجرائم حرب، وأن تطلب المحكمة اعتقال هؤلاء القادة أو الجنود الإسرائيليين وتسلمهم كما حدث في محاكم بلجيكا ولندن مؤكدا أن هذا سيحول حياة هؤلاء المجرمين لجحيم لأنهم سيكونون مطلوبون في العديد من الدول لسجنهم وسيمنعهم من التحرك.
المحاكمة ممكنة لو تحرك العرب
ويقول الدكتور "السيد مصطفي أحمد أبو الخير" -الخبير في القانون الدولي والمنظمات والعلاقات الدولية، والذي أعد دراسة موثقة عن (محاكمة إسرائيل وقادتها في القانون الدولي)-: إن المسئولية الدولية لإسرائيل وفقا للقانون الدولي متوافرة في حقها ويمكن محاكمتها وقادتها.
ويقول: إن الجرائم الدولية في القانون الجنائي الدولي تتوافر فيما تفعله إسرائيل في غزة وكل فلسطين ومنه: جريمة الإبادة الجماعية (قتل الأفراد وإهلاك الجنس الفلسطيني كليا أو جزئيا) - والجرائم ضد الإنسانية (القتل الجماعي علي نطاق واسع)- وجرائم الحرب (استخدام أسلحة ممنوعة دولياً وضرب المستشفيات والتدمير المتعمد للمدن أو البلدات) - وجريمة العدوان (استعمال القوة المسلحة وغيرها ).
ويقول: إن "عدم توقيع إسرائيل علي اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية لا يسقط عنها مسئولية هذه الأعمال الجنائية لأنها أفعال مجرمة في ضوء بنود الاتفاقيات الدولية والقانون والعرف الدوليين وهو ما يعرف دوليا بمصطلح الاتفاق التعاهدي، خاصة أن مثل هذه الجرائم الدولية لا تسقط بالتقادم، ويظل مقترفو هذه الجرائم أو من يمثلهم مطلوب محاكمتهم وفقا لقواعد القانون الدولي مهما طال الزمن، بل ويحق لأي دولة معاقبتهم متي وجدوا علي أرضها، بغض النظر عن مكان ارتكاب هذه الجرائم أو جنسية من قاموا بها أو ضحاياها".
ويلفت د. أبو الخير النظر لأن إسرائيل استندت إلي ذلك عندما اختطفت القائد الألماني "أيخمن" وقدمته للمحاكمة وحكمت عليه بالإعدام عام 1962م، وقررت محكمتها في ذلك الوقت أن تحت يدها التبرير الكامل لوصف ما قام به المتهم والنظام الذي كان يعمل لخدمته لفترة محددة من جرائم ضد الإنسانية خاصة ما يوصف بأنه إبادة وتشريد للمدنيين من اليهود الأبرياء " .
وشدد د." أبو الخير" على أن المسئولية الجنائية الفردية التي أقرتها المادة (227) من معاهدة فرساي لعام 1919، وأرستها كمبدأ من مبادئ القانون الدولي محكمتا نورمبرج وطوكيو وطبقتها عمليًا بحق مجرمي الحرب الألمان واليابانيين "هي نفسها ما يّستند عليها كسوابق قضائية لإدانة الاحتلال الإسرائيلي غير المشروع دوليًا لجرائمه المستمرة بحق الشعب الفلسطيني ، لأن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي حوكم بموجبها مجرمو الحرب في نورمبرج وطوكيو هي نفس الجرائم التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني والتي تستوجب محاكمة القادة والمسئولين الإسرائيليين لمسئوليتهم الجنائية الفردية عن الجرائم التي يمارسونها".
وبدوره يؤكد د."السيد مصطفي أحمد أبو الخير" أن هناك عدة أسباب تعرقل محاكمة هؤلاء الصهاينة عن جرائم الحرب التي يقومون بها أبرزها:
1. عدم توافر الرغبة والإرادة الحقيقية فيمن يملكون استخدام هذا الحق قانونا.
2. التواطؤ العالمي والإقليمي والمحلي على عدم استعمال هذا الحق من الدول والمنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة.
3. الضغوط الدولية على من يملكون هذا الحق التي وصلت للتهديد العسكري.
4. النفوذ الصهيوني الهائل على المستوى الدولي وخاصة في وسائل الإعلام العالمية التي تظهر جرائم "إسرائيل" بأنها دفاع شرعي ضد ما يسمونه "الإرهاب الفلسطيني".
ويقول إن ممارسة هذا الحق أصبحت متاحة عن طريق الشعب الفلسطيني بعدما تم الاعتراف بفلسطين دولة غير عضو بالأمم المتحدة أو أحدي الدول العربية أو غيرها من الدول، وهناك طرق عديدة للمحاكمة خصوصا في أوروبا ، حيث صدر مثلا قانون في بلجيكا عام 1993 يسمح بمحاكمة كل مشبوه بارتكاب جرائم حرب سواء ارتكبت في بلجيكا أو خارجها حتى لو لم يكن بلجيكيا، وبموجبه جرت محاكمة أربعة من كبار العسكريين السابقين في رواندا، ورفعت دعوى ضد رئيس ساحل العاج، وفي عام 2001 رفعت دعوى ضد شارون من الناجين من مجزرة مخيم صبرا وشاتيلا سبتمبر 1982 أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان.
ومن الأمثلة الأخرى أنه في 24/2/2008م ببروكسل، عاصمة بلجيكا والاتحاد الأوروبي، حكمت "محكمة الضمير العالمية" على إسرائيل بارتكاب جرائم العدوان والحرب والإبادة وجرائم ضد الإنسانية، وهي المرة الأولى في تاريخ الصراع التي يكسب العرب في محكمةٍ عالمية ليس للدول، لا سيما الدول الكبرى، علاقة بها أو تأثير عليها.
وتساءل "أبو الخير أيضا عن سبب عدم إصدار الدول العربية مجتمعة عن طريق جامعة الدول العربية قانونا بشأن تشكيل محكمة جنائية لمحاكمة قادة وأفراد قوات الاحتلال الإسرائيلية علي جرائمهم في حق العرب، وفقا لما سبق من اختصاص عالمي، مؤكدا أنه يمكن لمنظمة المؤتمر الإسلامي أن تفعل ذلك، ويمكن للدول العربية والإسلامية فرادى أو جماعات أن تصدر قوانين تحاكم فيه قادة وأفراد قوات الاحتلال الإسرائيلي عما ارتكبه ويرتكبه من جرائم دولية في حقهم، "ولا يمكن أن يتم ذلك إلا إذا توافرت الإرادة الحقيقية والرغبة الصادقة لعمل ذلك" .
يذكر أن مجلس الجامعة العربية سبق أن طالب على مستوي وزراء الخارجية بذلك، في ختام أعمال دورته العادية رقم (116) سبتمبر 2001م، ودعا لتشكيل محكمة جنائية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين، ودعم المبادرات الهادفة إلى ذلك، وقد أكد المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العدل العرب عزمه على ملاحقة المسئولين بحق الاعتداءات والجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلية ضد سكان الأراضي العربية المحتلة في دورته السابعة والثلاثين بالقاهرة وطالب بإيجاد الآليات والوسائل القانونية لحماية الشعب الفلسطيني، بيد أن أيا من هذه المبادرات لم تجد طريقها للتنفيذ.