إذا كان قد أصبح للجمال علم، فهل استطاع هذا العلم أن يحدد طبيعة الجمال وخصائصه.. ومقاييسه..
إن الفكرة المهمة في هذا الصدد والتي التقت عليها آراء كثيرة هي أنه لا يمكن أن يكون لهذا العلم قواعد سابقة على وجود العمل الفني.
قال بريتملي :
إننا نستطيع التحدث - جوازًا - عن قواعد عامة جدًا، ولو أن هذه القواعد لا تستنتج من مذهب للجمال وُضعَ مقدمًا، بل تستنبط مؤخرًا من الأعمال التي تم تنفيذها فعلاً، كما تستنبط قواعد علم تقدير القيم العلمية من التجربة والنجاح والخطأ[1].
ثم أكد ذلك بقوله:
"ما من إنسان يستطيع اليوم أن يُعرِّف علم الجمال بأنه علم مقاييس الجمال، الذي يتطلب معرفة قواعد لا بد أن تؤخذ في الاعتبار مقدمًا عند إنتاج الأشياء الجميلة... ولقد أمكن القول في هذا المعنى بأن علم الجمال هو الشرعية غير المحددة النابعة من مجموع النتائج الموفقة. وذلك أن الجمال ليس بنموذج أبدي أو بقانون أمثل قائم قيامًا مسبقًا[2]".
ويتوجه "فلدمان" - وهو أحد علماء الجمال الفرنسيين - بالنصيحة إلى عالم الجمال فيقول: "ينبغي ألا يتدخل عالم الجمال في فرض القواعد التي ينبغي أن يلتزم بها الفنان لتحقيق الجمال في إنتاجه، أو أن يشترط للجمال شروطًا معينة، بل هو يبحث في أحكام الناس الجمالية شأنه في ذلك شأن عالم المنطق، لا يفرض على العلماء قواعد التفكير التي عليهم أن يسيروا عليها، بل هو يكتفي بتحليل خطوات تفكيرهم[3]".
ومع أهمية الفكرة السابقة، فإن بعض العلماء حاول أن يثبت بعض الخصائص التي يتصف بها الشيء الجميل ومنهم "ادموند بيرك" (1729 - 1797م) فهو يرى أن الشيء الجميل يتصف بخصائص أهمها: الضآلة، والرقة، والتنوع المتدرج بين أجزائه، وعدم اتصال هذه الأجزاء بعضها بالبعض الآخر على شكل زوايا، ونعومة المظهر، أو اختفاء كل مظهر للقوة. ووضوح اللون وبريقه دون أن يكون خاطفًا، والألوان الهادئة أي الفواتح هي أقرب إلى سمة الجمال من غيرها من الألوان القاتمة. ومن ناحية الأصوات نجد أن الصوت الناعم الرقيق هو الذي يوصف بالجمال، دون غيره من الأصوات الهادرة الخشنة، ومن ناحية الملمس - والملمس عنده أهم حواس إدراك الجمال - نجد أن الأجسام الصقيلة أقرب إلى الجمال من الأجسام الخشنة الملمس[4]".
ويرى "هوجارت"[5] أن أهم العوامل المؤثرة في التقدير الجمالي هي: التناسب، والتنوع، والاطراد، والبساطة، والتعقيد، والضخامة[6].
وإذا كان "بيرك" و"هوجارت" وغيرهم كثير قد اتجهوا إلى الحديث عن الخصائص الظاهرة للشيء الجميل، فإن فريقًا آخر اتجه إلى إعطاء الخصائص الباطنة أو المعنوية اعتبارها، ونثبت - على سبيل المثال
- رأي "كروتشه" في هذا الصدد حيث يرى:
1- ألا يكون الفن ظاهرة فيزيائية، أو واقعة طبيعية، ومعنى هذا نقد سائر النزعات التجريبية في علم الجمال. فالظاهرة الفنية واقعة لا تقبل القياس بل هي حقيقة روحية.
2- ألا يكون الفن فعلاً نفعيًا،.. وهذا رفض لمذهب "اللذة" أو "المنفعة".
3- ألا يكون الفن "فعلاً أخلاقيًا" فإذا كانت الإرادة الخيرة هي قوام الإنسان الفاضل، فإنها ليست قوام الإنسان الفنان، ومعنى هذا وضع الفن خارج نطاق الأخلاق، وهو بالتالي رفض لفكرة "الفن الموجه".
4- وهو يرفض أن يكون الفن مجرد معرفة تصورية، وبهذا يكون الفن في مقابل العلم... ويتقرر بناء عليه نفور الفن من العلوم الوضعية والرياضيات أشد من نفوره من الفلسفة والدين والتاريخ[7].
ونتساءل - بعد تقديم وجهتي النظر السابقتين - هل كان ما ذهب إليه كل من "بيرك" و"هوجارت" نتيجة لاستقراء قام به كل منهما، أم هو وجهة نظر خاصة؟ ومهما يكن من أمر فإن ما طرحاه لا يكون رأيًا عامًا بسبب اختلاف الأذواق لدى الناس، ثم هي مفاهيم عامة تنقصها الدقة، وما صح منها في مجال قد لا يكون كذلك في مجال آخر.
وما ذهب إليه "كروتشه" يمثل اتجاهًا له معارضوه في كل خاصية ذهب إليها.
كل هذا يؤكد عدم صلاحية الفن "الجمال" للانضواء تحت التقنين أو الخضوع إلى قواعد علمية، وهذا ما تنبه له "هيغل" حيث قال: يظهر أن الفن يتعذر عليه أن يصلح لدراسة علمية[8]...
مقاييس الجمال:
هل هناك مقاييس يمكن اعتمادها في تقدير الجمال؟
إن الإجابة على هذا السؤال متوقفة على النظرة إلى الجمال، فيما إذا كان من الممكن أن نطبق عليه معايير العلم، أم لا؟.
والذين ذهبوا إلى النفي، عللوا ذلك بتعليلات مختلفة، أما هيغل: فالجمال - في نظره - أمر عرضي، والعلم هو علم للضروري لا للعرضي، وبالتالي: فإنه يستحيل صوغ معيار للجمال، ذلك أن الأذواق تختلف إلى ما لا نهاية[9].
وذهب بعضهم إلى إمكانية القياس بالرجوع إلى واحد من الثلاثة التالية حيث يكون الحكم:
أ- إما بالاستناد إلى آراء علماء الجمال والفلاسفة.
ب- وإما بمقارنة الأعمال الفنية بعضها ببعض.
ج- وإما بالاعتماد على الطبيعة لأنها تبدو في بعض الأحيان المعيار الذي نقيس به العمل الفني الجميل[10].
ونظرة سريعة على هذه المقاييس، تجعلنا على يقين من عدم قدرتها على الوفاء بالمطلوب، إذ هي مقاييس رجراجة لا يمكن الاعتماد عليها.
فآراء العلماء تكون تبعًا لفلسفاتهم، التي تمتد على الساحة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مما يجعل تلك الأحكام مختلفة...
مقارنة الأعمال الفنية بعضها مع بعض.. يجعلنا نتساءل: أيها المقياس؟ المتقدم أم المتأخر؟ العمل الذي من صنع الرواد المشهورين، أم أي عمل ولو كان صانعه من المغمورين؟.. وفي هذه الحالة يكون الحكم لا على العمل الفني لذاته، وإنما من خلال صانعه..
وإذا اعتمدنا على الطبيعة، تصدى لنا الذين ينكرون أستذتها، وينكرون محاكاتها.. وبالتالي فلا يمكن اعتمادها.
إن الحكم الجمالي سيظل حكمًا فرديًا، ذلك أن هناك عوامل كثيرة تدخل في عملية الحكم، ترجع إلى شخصية المتأمل، سواء أكان هذا المتأمل فنانًا أم عالمًا أم ناقدًا.. أم مشاهدًا عاديًا.
فالذوق، والثقافة الفنية، والقيم التي يهتم بها، وأهمية الموضوع بالنسبة إليه، وحالته النفسية في تلك المرحلة.. إنها عوامل كثيرة... ومن غير المعقول أن يحصل الاتفاق عليها بين اثنين.. إذ الاختلاف في واحد منها، يعني تغيّر نتيجة المعادلة وتبقى المقاييس الشخصية هي المرجع..
المراجع :
[1] بحث في علم الجمال ص5.
[2] المصدر السابق ص 5 - 6.
[3] مقدمة في علم الجمال. مطر ص 6 - 7.
[4] فلسفة الجمال. أبو ريان ص 33 - 34.
[5] وليم هوجارت (1697 - 1764) عالم جمال إنكليزي اشتهر كمصور كما اشتهر بأعمال الحفر.
[6] المصدر السابق ص 28.
[7] فلسفة الفن. زكريا إبراهيم ص 43 - 48 ملخصاً.
[8] المدخل إلى علم الجمال. هيغل ص 17.
[9] المدخل إلى علم الجمال. هيغل ص 17.
[10] انظر: فصول في علم الجمال. برجاوي ص 31 - 32.