يُمكننا النظر إلى الأخلاق كصورة ومضمون. صورة الأخلاق هي الأمر والإملاء، فما هو أخلاقي بصرف النظر عن مضمونه، يتخذ صورة الأمر والإملاء. أما المضمون، وهو الشِّق المتغيِّر من الأخلاق، فهو يتجسد كفعل في الواقع، والصورة دائما هي التي تمنحه المعنى والدلالة والإطار الذي يكون الفعل بدونه مجرد حدث.
فعندما يقوم الإنسان بما يُمكن أن يُعتبر فعلا أخلاقيا، كالصدق مثلاً، فإن الصورة هنا، كما هي دائما في كل فعل أخلاقي، هي الأمر. فهناك أمرٌ أعلى على الإرادة، قد يمليه العقل أو الإيمان أو الاعتقاد أو المصلحة. والصدق كفعل متجسد في الواقع، أي واقع أن يكون الإنسان صادقا، لا يكتسب معناه إلا من الصورة، صورة الأمر التي تمنحه الإطار والمعنى وإلا فإن الصدق كفعل هو مجرد حدث.
ولنأخذ الآن مثالاً مناقضا، الكذب كفعل يُمكن أن يُعتبر فعلاً أخلاقيا بالمعنى الإيجابي للكلمة. هنا أيضاً تأتي الصورة لتضفي على الفعل المعنى والدلالة، وذلك حينما يكون الكذب امتثالاً لأمر أخلاقي أعلى. وهنا ستثور اعتراضات كثيرة: الكذب هو دائما فعل غير أخلاقي، وإذا أمكن للعقل أن يبرره، فلا يُمكن للإيمان أن يكون مبرراً للكذب، أما المصلحة فهي نقيض الأخلاق أساساً، فكيف يُمكن للمصلحة أن تكون مبرراً للكذب وأن يُعتبر ذلك أخلاقاً مع ذلك!
هل يمكن أن يكذب الإنسان لدواعي أخلاقية؟ وإذا كانت للأخلاق حدوداً لا يمكن أن تتخطاها، وإلا انقلبت إلى ضدها، فهل هناك ما يوجب تخطي الأخلاق نفسها وتجاوزها إلى غاية أعلى وأكثر سمواً؟
أو إذا كانت الأخلاق ستعجز عن استيعاب الأمر والإملاء الأعلى، فهل سيمتلك هذا الإملاء قيمة أعلى من الأخلاق؟
هذه الأسئلة تضعنا على أعتاب ما وراء الأخلاق، بالمعنى النيتشوي- نسبة إلى نيتشه، الفيلسوف الألماني. ما وراء الأخلاق هنا تعني تجاوز ما يُعرف بأنه أخلاق أو ما يتم تمجيده على أنه كذلك كما يقول نيتشه، إلى ما هو أعلى وأكثر نُبلا، من وجهة نظر معينة بالطبع. فهو إذن ليس تملُّصا من المسؤولية بل هو تحمُّل لمسؤولية قد تكون أكثر صعوبة ومشقة، مسؤولية انتهاك بعض القواعد، وامتلاك ما يُمكن تسميته تجاوزا "أخلاقا جديدة خاصة".
ما الذي يُمكن أن تخسره "أخلاقيا" بالولاء لقانون أو لمبادئ لا تنتمي إلى السياق الاجتماعي، أي ما هو "العيب والنقص وربما العار" الذي قد يلحق بك جراء امتلاك أخلاق مغايرة؟
لم يكن الغرض من إيراد الكذب كمثال محاولة التبرير أو خلق الذرائع له، وإنما الغرض هو تحليل ثنائية الصورة والمضمون التي تصوغ وجود الفعل الأخلاقي. وذلك لكي يتسنى لنا طرح السؤال الآتي:
بماذا يتحدد الفعل الأخلاقي، هل بالصورة أم بالمضمون؟ هل بالإملاء الذي يقف خلف الفعل أم بماهية الفعل نفسه. بعبارة أُخرى ما هو الجوهري أو الأساسي في الأخلاق، هل هو الصورة، الإملاء والاستجابة، أم هو مضمون وماهية الفعل.
وليكون السؤال أكثر تعيينا، وأكثر إشكالا أيضا، نعود إلى مثال الكذب. عندما يكذب الإنسان لا استجابة لهوى النفس أو طلباً لما هو سهل ومُريح، وإنما خضوعا لإملاء لا يُمكنه إلا أن يكون بحد ذاته إملاءً أخلاقيا حتى لو أدى لتجاوز ما يُعرف بأنه كذلك، أي عندما يكون تخطي ما يُعرف بأنه أخلاقي هو بحد ذاته شكل من أشكال التضحية، وذلك من أجل قيمة أسمى، إنقاذ حياة إنسان كمثال نموذجي. فما الذي يكون جوهريا في هذه الحالة، أهو صورة الإملاء والاستجابة والتضحية بالصدق، أم أن الجوهري هو دائما المضمون، والذي لا يُمكن للصورة أن تمنحه المعنى الإيجابي، مهما كانت نبيلة، ليظل في النهاية الكذب هو الكذب؟
ربما سيختلف البشر في الإجابة عن هذا السؤال. ولكنه اختلاف حول حدود الأخلاق، وإلى أي مدى يُمكن أن تكون واسعة بحيث يمكنها أن تستوعب نقيضها في الوقت نفسه، أم أن في ذلك تمييعٌ للأخلاق بإفقادها لمعناها ومضمونها. ولكن هذا ليس كل شيء، فهناك موقف آخر أكثر جذرية هو الموقف اللا-أخلاقي، والذي سيعمل على تخطي الأخلاق نفسها بوصفها عائقا في طريق غايات أكثر نبلا وسموا.
وراء كل هذه المواقف، والنقاش والجدل الذي يمكن أن تثيره، هناك "مبدأ التقييم"، يستخدمه الجميع. الأخلاقيون الذين يمنحون القيمة الأعلى للصورة، والأخلاقيون الذين يمنحونها للمضمون، أو اللا أخلاقيون الذين يمنحون القيمة لما يعتبرون أنه أسمى وأعلى من الأخلاق نفسها كشيء تواضع عليه البشر، مثل الحياة أو الحب أو الصداقة أو المصلحة العليا أو المعنى أو أي شيء آخر. جميعهم يمارسون الشيء نفسه، إعطاء القيمة للأفعال والمواقف.
هل يُمكنك أن تكذب لأجل مصلحة صديق، أو عزيز؟ أم أن استقامتك الأخلاقية وصورتك أمام نفسك أعلى من اعتبارات الصداقة والحُب. الأمر يتوقف بالطبع على الحالة المعينة، مثلا مدى الضرر الذي يمكن أن يلحق بهذا العزيز، أو حتى لو كان إنسانا بعيدا، إنسان ضعيف تقترح عليك مصلحته أن تنتهك ما يعرف بأنه أخلاقي. وكذلك يتوقف بالطبع على مدى الضرر الذي يُمكن أن يلحق بك أنت أيضاً، فنحن لا نفكِّر في الأخلاق بمعزل عن المصلحة وحسابات الربح والخسارة، مهما ادعينا عكس ذلك.
أيّا كانت الإجابة، فإن الذي يقف وراءها هو ذلك المبدأ الأكثر خطورة في يد الإنسان، مبدأ التقييم. فالإنسان هو الذي يمنح القيمة للأشياء والأفعال، يوازن بينها ويرفع ويخفض. ولكن ذلك لا يحدث في الفراغ، وإنما داخل سياق مادي واجتماعي وثقافي يوجد فيه الانسان دائما.
لا وجود للأخلاق الأُسطورية، لسبب بسيط وواضح هو أن الإنسان لا يعيش في العالم الأسطوري، بحيث يقف متعاليا على جميع الشروط التاريخية والاجتماعية والثقافية، هذا هو معنى أن التقييم لا يشتغل في الفراغ أو في السماء. عندما أقرر أن أعلي قيمة الالتزام بالقانون في مقابل التعاطُف والشهامة، فإن ذلك يتم في سياق ثقافي واجتماعي. مثلاً إذا كنت في مجتمع ريفي عشائري، فإن الالتزام بالقانون خصوصا قانون الدولة الحديثة لا يملك نفس قيمة الولاء للأهل والعشيرة. فقد يقع الإنسان في هذا الوضع تحت ضغط أنظمة مختلفة ومتعارضة من الأوامر والإملاءات "الأخلاقية". في أُطر كهذه يشتغل مبدأ التقييم. ما الذي يُمكن أن تخسره "أخلاقيا" بالولاء لقانون أو لمبادئ لا تنتمي إلى السياق الاجتماعي، أي ما هو "العيب والنقص وربما العار" الذي قد يلحق بك جراء امتلاك أخلاق مغايرة؟
قدرة الإنسان على التفكير بشكل مستقل عن اللحظة التاريخية التي يوجد فيها أو عن المجتمع والثقافة المحددة، هي التي تمنحه إمكانية ممارسة التقييم بشكل مستقل عن المجتمع المعين، ومع ذلك فهو يبقى داخل التاريخ الإنساني.
في مجتمع حديث تسود فيه القوانين ويتم تقديسها لا لأنها مقدسة في ذاتها، وإنما لأن مخالفتها تؤدي إلى خسائر اجتماعية مادية ومعنوية، يشتغل مبدأ التقييم في ظروف مختلفة. فقوة القانون تعمل على تشكيل الأخلاق والحس الأخلاقي لدى المجتمع والفرد بالتالي. حتى إن تأنيب الضمير قد يكون نوعاً من الخوف من العواقب أكثر منه شيئاً في ذاته. هذا يعني أن الإنسان الذي يعيش في مجتمع حديث كذلك لا يمارس التفكير والتقييم في الفراغ، كما أن الأخلاق نفسها لا توجد في فراغ.
إن صورة الفعل الأخلاقي يُمكن أن يمليها التاريخ والمجتمع والثقافة على الإنسان، فما هو أمرٌ وإملاءٌ أخلاقي يتحدد بالوعي والثقافة، وهذا لا يعني أن الأخلاق منتوج فكري وثقافي لا علاقة له بالواقع المادي، وإنما المقصود أنه يوجد في هذا المستوى، ويمارس تأثيره على الفرد من هذا المستوى، مستوى الوعي والثقافة، بغض النظر عن الظروف المادية التي أنتجت أو ساهمت في إنتاج وتشكيل هذا الوعي وهذه الثقافة. وهذا ينزع طابع التعالي والسمو عن هذه الصورة، فهي لا تحمل قيمة أكبر من تلك التي يمنحها لها الإنسان الفرد أو المجتمع أو الثقافة. ولكن لماذا علينا أن نبحث أصلا عن قيمة أعلى من تلك التي نمنحها نحن كأفراد أو يمنحها المجتمع والثقافة للأفعال والمواقف والأشياء؟
مع كل هذا الإملاء والإكراه التاريخي والاجتماعي والثقافي، تبقى للإنسان، أعني بعض الناس، القدرة على التفكير بواسطة معايير ومفاهيم من خارج السياق الاجتماعي المحدد، وممارسة التقييم الذي قد يفضي إلى التمرد، أو إلى ما يعتبره المجتمع كذلك. ومن ثم تحمُّل المسؤولية أمام الذات الفردية والجماعية.
إن قدرة الإنسان على التفكير بشكل مستقل، على الأقل عن اللحظة التاريخية التي يوجد فيها أو عن المجتمع والثقافة المحددة، هي التي تمنحه إمكانية ممارسة التقييم بشكل مستقل عن المجتمع المعين، ومع ذلك فهو يبقى داخل التاريخ الإنساني العام. ثمة مفارقة هنا، وهي أن الفرد يمكن أن يعيش داخل تاريخ أوسع من ذلك التاريخ الذي يعيش فيه المجتمع ككيان عضوي. أي أن الإنسان الفرد يُمكنه أن يحمل وعيا أكبر من وعي المجتمع، وهذا ما يمحنه القدرة على تجاوز المجتمع ولكن ليس التاريخ.
فالإنسان الفرد يبدو -بسبب ذلك- أنه يملك إرادة مستقلة وحرية ووعي وضمير مستقل، إذ يبدو كأنه يفكِّر بشكل متعال ومفارق للواقع وللثقافة السائدة ولما يُعرف بأنه الأخلاق. لكنه استقلالٌ نسبي، استقلال عن مجتمع محدود أو ثقافة محدودة، وليس استقلالاً عن مجمل تاريخ الانسان.