المرأة في عيون المنفلوطي -1- -2- المجلس الثقافي | المرأة في عيون المنفلوطي -1- -2-
تاريخ النشر: 16-12-2024

بقلم: من موقع الحضارة

كان من الكتاب المُميزين في عصره، ومن الأدباء المتفردين بأرقى العبارات وأكثرها سلاسة وأسرعها وصولا للقلوب..

تمتع بأدبه الفريد الكثيرون من محبي الأدب، وتأثر به الكثير منهم، ونهل من عذب كلماته قراءُ زمانه وما بعده.

غلب على كتاباته طابعُ الحزن والنظرة غير التفاؤلية إلى حد بعيد؛ فنراه قد برع في تصوير مواقف الحزن وتجسيدها للقارئ وكأنه يراها أمام عينيه، حتى في القصص التي ترجمها وهذبها نراه يتخير لها نهايات محزنة، فيزيدها حزنًا وبؤسًا بما أوتي من حسن تصوير وقدرة فائقة على تجسيد الأحزان وتمثيلها بأبرع الألفاظ وأجود العبارات، ونراه قد يغلب على أسلوبه النظرة السوداوية في بعض الأحيان!

هكذا عاش الكاتب المتميز والأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي..

وعلى عكس الكثيرين من كتاب عصره، فنادرًا ما نراه يتحامل على المرأة أو يصفها بالخبث، أو يتهمها بأبشع التُهَم، وأقبح الصفات، وقد يرجع ذلك إلى نشأته التي تختلف عن بعض كتاب زمانه؛ من حيث التمسك بالعادات والتقاليد والقيم الإسلامية الثابتة؛ فقد نشأ هذا الأديب في قرية (منفلوط) بصعيد مصر، وتلقى تعليمه في الأزهر الشريف بعد أن أتم حفظ القرآن الكريم، ونشأ في بيت عرف بالصلاح؛ إذ كان والده قاضيًا شرعيًًّا؛ كل ذلك غرس في نفسه النزعة الدينية والحرص على إكرام المرأة وإنصافها والبعد عن الجور والتأثر بأفكار الغرب.

فنراه يناشد الرجالَ، ويستعطف قلوبَهم، ويستدر الرحمةَ منها على النساء فيقول: "يا أقوياء القلوب من الرجال، رفقًا بضعفاء النفوس من النساء"!.

ونراه في موضع آخر ينصف المرأة، ومع ذلك فلا يحابيها؛ إذ نجده ينكر على أحد الكتاب –وهو جبران خليل جبران، ولم يشأ المنفلوطي أن يذكر اسمه- ما أيده من جريمة ارتكبتها إحدى الفتيات الساقطات وهي الهرب من بيت زوجها إلى عشيقها متعللةً بأن زوجها كبيرٌ وهي تقاسي معه الأمرّين، وإنه لمن الظلم أن تتزوج من يناهز أباها عمرًا! وما فعلت تلك الفعلة إلا لرفع الظلم عن نفسها!!

ويرد عليه المنفلوطي بأسلوبه المميز وعباراته البليغة في مقالة (الحب والزواج)، قائلا: "كل الأزواج ذلك الزوج إلا قليلًا، فإذا جاز لكل زوجةٍ أن تفر من زوجها إلى عشيقها كلما وقع في نفسها الضجرُ من معاشرة الأول، وبرقت لها بارقة الأنس من بين ثنايا الثاني، فويلٌ لجميع الرجال من جميع النساء، وعلى النظام البيتي والرابطة الزوجية بعد اليوم ألف سلام".

ويتابع –رحمه الله- رده الهادئ والمفحم على كاتب القصة، قائلا:

"أيها الكاتب! ليس في استطاعتي، ولا في استطاعتك، ولا في استطاعة أحد من الناس أن يقف دورةَ الفلك، ويصدّ كرّ الغداة ومرّ العشي حتى لا يبلغ الأربعين من عمره مخافة أن تراه زوجته غيرَ أهل لعشرتها إذا علمت أنَّ في الناس من هو أصغرُ منه سنًا وأكثر منه رونقًا وأنضر شبابًا.

إنَّ الضجر والسآمةَ من الشيء المتكرر المتردد طبيعةٌ من طبائع النوع الإنساني، فهو لا يصبر على ثوب واحد أو طعام واحد أو عشير واحد، وقد علم الله سبحانه وتعالى ذلك منه، وعلم أنَّ نظام الأسرة لا يتم إلا إذا بُني على رجل وامرأة تدوم عشرتُهما، ويطول ائتلافُهما، فوضع قاعدة الزواج الثابت ليهدم قاعدة الحب المضطرب، وأمر الزوجين أن يعتبرا هذا الرباطَ مقدسًا حتى يحول بينهما وبين رجوعهما إلى طبيعتهما، وذهابهما في أمر الزوجية مذهبهما في المطاعم والمشارب، من حيث الميل لكل جديد، والشغف بكل غريب.

هذا هو سر الزواج وهذه حكمته، فمن أراد أن يجعل الحب قاعدة العشرة بدلًا من الزواج، فقد خالف إرادة الله وحاول أن يهدم ما بناه ليهدم بهدمه السعادة البيتية" ا.هـ

ثم نجد عاطفة الأبوة تتحرك بداخله نحو الفتيات، فيستنكر على الآباء والأمهات ويحذرهم من سوء معاملة الفتاة، واستثقالها إذا ما بلغت سن الزواج ولم تتزوج، فيقول في مقالة (البائسات): "متى بلغت الفتاةُ سنَّ الزواج استثقلَ أهلُها ظلَّها، وبرِموا بها، وحاسبوها على المضغة والجرعة والقومة والقعدة، ورأوا أنها عالة عليهم، وأن لا حق لها في العيش في منزل لا يستفيد من عملها شيئًا، وودوا لو طلع عليهم وجه الخاطب، أي خاطب كان، يحمل في جبينه آية البشرى بالخلاص منها".

وهو يشير إلى عادة كانت سائدة في مجتمعه آنذاك، وهي إجبار الفتاة على الزواج بمن لا رغبة لها فيه، في قوله: "وإن قومًا هذا مبلغ عقولهم من الفهم، وقلوبهم من القسوة، وهذه منزلة فلذات أكبادهم من نفوسهم، لا يمكن بحال من الأحوال أن يفاوضوها في اختيار الزوج، أو يحسنوا الاختيار لها حين يختارون".

ثم يصور حال تلك المسكينة البائسة حين تدخل عالم الحياة الزوجية وما تقاسيه في ذلك البيت الجديد مع هذا القرين الغريب: "فإذا دخلت هذا المنزل الجديد، الذي لا تعرفه ولا تعرف شأنًا من شؤون أهله، دخلت في دور الجهاد العظيم بينها وبين قلب الرجل.

فإن كانت ذات جمال أو مال، فقد استوثقت لنفسها وأمنت آلام الهجر وفجائع التطليق، وإلا فهي تقاسي كل صباح ومساء في الحصول على الحسن المجلوب...". إلى آخر كلامه رحمه الله.

ثم يحكي بعض المواقف التي شاهدها وعايشها بنفسه، في مجال ظلم المرأة والتعدي عليها، فيحكي قصة إحدى النساء بكل ألم وتحسر قائلا: "لا أنسى ليلة زرت فيها صديقًا لي، فرأيت عند بابه امرأة بائسة ليس وراء ما بها من الهم غاية، وكأنما هي الخلال رقة وذبولا، ووراءها صبية ثلاث يدورون حولها ويجاذبونها طرف ردائها، فتسبل فضل مئزرها على مآقيها المقرحة رأفة بهم أن يلموا ببعض شأنها فيبكوا لبكائها، فسألتها عن شأنها، فأخبرتني أنها مطلقة من زوجها، وأن بيدها حكمًا من المحكمة الشرعية بالنفقة لأولادها، وقد مر عليها زمن طويل والإدارة تماطل في إنفاذه، فجاءت إلى هذا الصديق تستعين به على أمرها...".

ونرى إبداعه المعتاد في تجسيد الحزن وتضاعف العذاب على تلك المرأة، فقد جمعت بين شدة الحزن وشدة الحرص على إخفاء حالها عن الصبية شفقة ورفقًا بهم، وهذا من بلاغة المنفلوطي، وقدرته على تجسيد المواقف وحسن تصويرها، وإظهار تعاطفه مع المرأة المظلومة وتآزره معها.

ويختم مقالته (البائسات) بنداء عاجل لكل مُحسن ومن له قلب فيقول: "ويا أيها المحسنون، والله لا أعرف لكم بابًا في الإحسان تنفذون منه إلى عفو الله ورحمته أوسع من باب الإحسان إلى المرأة..

علموها لتجعلوا منها مدرسة يتعلم فيها أولادكم قبل المدرسة، وأدبوها لينشأ في حجرها المستقبل العظيم للوطن الكريم".

هكذا كان المنفلوطي.. يتحدث تارة بصوت الأخ، وتارة بصوت الأب، وتارة بصوت المربي، وتارة بصوت الصديق الناصح، وفي كل أحواله لا نراه يظن بالمرأة إلا خيرًا، ولا يقول عنها إلا جميلا؛ عملاً بالحديث النبوي الكريم: ((استوصوا بالنساء؛ فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء))، رواه البخاري.

ونكمل في المقال القادم إن شاء الله..

______________________________________________________________________________________________________

المراة في المنفلوطي -2-


في الحقيقة، لا يكاد يصدِّق مَن يقرأ لِهَذا الأديب المتميِّز أن هذه الكتاباتِ تعود إلى أكثرَ مِن قرْنٍ مضى!

فقد ظلَّ هذا الأديب المبدِع يستخدم براعتَه الأدبيَّةَ، وأساليبَه البليغة في الحضِّ على احترام المرأة، وإبراز اهتمام الدِّين الإسلامي بِها، ويُبَيِّن مكانتَها الرَّفيعة، وحقَّها الشرعيَّ الذي شرَعَه اللهُ لَها في تحصيل الخير، والانتفاع بالأجر - كما الرجل.

فيوصي في مقال "احترام المرأة" بِمَزيد من الاهتمام بِأَمر المرأة، وعدم بَخْسِها حقَّها، ويبيِّن استحالةَ الاستغناء عنها، فيقول في مقارَنةٍ سريعة بين الأَبِ والأُمِّ:

"لا يستطيع الأبُ أن يَحْمل بين جَناحَيْه لطفلِه الصَّغير عواطِفَ الأُمِّ؛ فهي التي تَحُوطه بعنايتها ورعايتها، وتبسط عليه جناحَ رَحْمتها ورأفَتِها، وتسكب قلبَها في قلبه، حتَّى يستحيلا إلى قلب واحد".

إلى آخِر كلماته الطيِّبة في حقِّ الأُمِّ، وإيضاحه المميَّز في تبْيين حقيقة شعورها الذي لا يُضاهيه شعور، وقلبها الذي لا يُكافِئُه قلب، فيقول في حقِّ الأم أيضًا:

"وأستطيع أن أقول، وأنا على ثقة مما أقول: إنَّ الأطفال الذين استطاعوا أن يعيشوا في هذا العالَم سُعَداء، مَعْنيًّا بِهم في تربيتهم، وتخْريجهم على أيدي أُمَّهاتهم بعد موت آبائهم، أضْعافُ الذين نالوا هذا الحظَّ على أيدي آبائهم بعد موت أمَّهاتِهم، ولِلرَّحْمة الأمِّيَّة الفضل العظيم في ذلك".

ثم يتطرَّق - في نفس المقال - من الحديث عن الأمِّ، إلى الحديث عن الزَّوجة، ويُبَيِّن أهَمِّية دورها، ويُبْرِز قدرتَها على تَسْيير الحياة، وإمداد الزَّوج بالتَّثْبيت والتشجيع والتَّصبير على بلايا الحياة؛ فيقول:

"لا يستطيع الرَّجل أن يكون رجلاً [أيْ: ناجحًا أو سعيدًا] حتَّى يَجِد بجانبه زوجةً تبعث في نفْسِه روح الشَّجاعة والْهمَّة، وتغرس في قلبه شعور التَّبِعة وعظمتها، وحَسْب المرء أن يَعْلم أنَّه سيِّد، وأنَّ رعيَّة كبيرة أو صغيرة ثقتها فيه، وتستظلَّ بظلِّ رعايته وحمايته، وتعتمد في شؤون حياتِها عليه، حتَّى يشعر بحاجته إلى استكمال جَميع صفات السيِّد، ومزاياه في نفسه".

وبعد هذا يأخذ الحديث مُنحنًى آخَر؛ حيث الفرقُ بين الابن والابنة؛ فيَقول: "ولا يستطيع الشيخ الفاني أن يَجِد في آخِر أيامه في قلب ولَدِه الفتَى من العطف والحنان، والحُبِّ والإيثار ما يَجِد في قلب ابنَتِه الفتاة؛ فهي التي تَمْنحه يدَها عُكَّازًا لشيخوخته، وقلبَها مستودعًا لأسراره وهواجِسِ نفسه، وهي الَّتي تَسْهَر بجانب سرير مرَضِه ليلَها كُلَّه، تتسمَّع أنفاسه، وتُصْغي إلى أنَّاتِه، وتَحْرص الحرص كلَّه على أن تَفْهم من حركات يدَيْه، ونظرات عينَيْه حاجاتِه وأغراضَه، فإذا نزل به قضاءُ الله كانت هي مِن دون ورثَتِه جميعًا تَعُدُّ موته نكبةً عُظْمى، لا يهوِّنُها عليها، ولا يخفِّفُ من لوعتها في نفسها ما ترَكَه من ميراث، وكثيرًا ما يَسْمع السَّامعون في بيت الميت قبل أن يَجِفَّ ترابُ قبْرِه أصواتَ أولاده يتجادلون ويَشْتجرون في السَّاعة التي يَجْتمع فيها بناتُه ونساؤه في حجراتِهنَّ نائحات باكيات".

وفي النهاية، مقارنة بين الرَّجل الفاسق والمرأة الفاسقة، يتعجَّب الكِتابُ من اختلاف نظرة المُجتمع إليهما، حيثُ يعدُّ المرأةَ أشدَّ فسقًا وأكثر ظُلْمًا مِمَّن شاركها الجريمة من الرِّجال، والشَّرع لم يُفَرِّق بينهما في العقوبة؛ فيقول الله: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا ﴾ [المائدة: 38]، وفي جريمة الزِّنا: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: 2]، فلم يُخَصِّص لها عقوبةً على ذنب واحد، ولم يُفَضِّل عليها الرَّجل بأجْر في نفس العبادة، فمن أين لهم هذا التَّمييز؟

يقول في مقاله "الرجل والمرأة":

"يَخْدع الرجلُ المرأةَ عن شرَفِها، فيَسْلبها إيَّاه، فإذا سقطَتْ هاج المُجتمع الإنسانِيُّ عليها، رجالُه ونساؤه، وملأَ قلْبَها هولاً ورعبًا، وأوسع نفْسَها تقريعًا وتأنيبًا من حيث لا تَصْبِر على شرارةٍ واحدة من هذه النَّار المتأجِّجة".

إلى أن يقول:

"وجُملة القول: إنَّ حكم المُجتمع الإنساني بإدانة المرأة الزَّانية وبراءة الرَّجل الزَّاني حكم ظالِم".

ويُتابع نُصْحَه للآباء وأولياء الأمور: "فلْيُحْسِن الآباء اختيارَ الأزواج لبناتِهم، ولْيُجمل الأزواجُ عِشْرَةَ نسائهم، وإلى النُّور والهواء تَبْرز إليهما، وتتمتَّع فيهما بنِعْمة الحياة، فلْيَأذن لها أولياؤُها بذلك، ولْيُرافقها رفيقٌ منهم في غَدواتِها وروحاتها، كما يُرافق الشاةَ راعيها؛ خوفًا عليها من الذِّئاب، فإنْ عجزنا عن أن نأخذ الآباءَ والإِخْوة والأزواج بذلك، فلْنَنْفض أيدينا من الأُمَّة جميعِها؛ نسائها ورجالِها، فليست المرأة بأَقْدرَ على إصلاح نفسها مِن الرَّجل على إصلاحها"؛ "الحجاب".

ورغم تعاطفه الشديد مع المرأة وعَدْلِه وإحسانه إليها، إلاَّ أنَّنا نَجِد له مع صفة الغَدْر شأنًا آخَر، فيَصِفُها بأبشع الصِّفات، ويصوِّرها بأَقْسى وأظلم الصُّوَر، وحَسْبُنا أنَّه يُورد قصَّةً من الأساطير اليونانيَّة القديمة التي عفا عليها الدَّهر، فلم تَعُد تسمَعُها الآذان إلاَّ على سبيل التَّسلية والتَّرويح عن النَّفس، ولعلَّه يورِدُها - رغم بشاعتها وما فيها من تصوُّرٍ لا يقبله عقل - من أَجْل تبشيع جريمة الغَدْر، وتبْيين قبيحها.

فيَحْكي عن أحَدِ الحكام اليونانيِّين، كان يحبُّ زوجته حُبًّا ملَكَ عليه قلبَه وعقله، وكذلك الحب كأيِّ عاطفة طيِّبة في أصلها عندما يزيد عن حدِّه لا يُصْبح إلاَّ مصدرًا للأحزان ومنبعًا للآلام، فكان هذا الحاكم، كلَّما ساوَرَه الشَّكُّ، يأخذ على زوجته العهودَ والمواثيق بأن تبقى وفيَّة له في حياته وبعد مَماته.

وتدور أحداث القصَّة، فيَمْرض الزَّوج مرضًا شديدًا، فيُسارع بتجديد العَهْد الذي أخذه على زوجته، وما كان منها إلاَّ أن أقسمَتْ له بِما يُرْضيه من وفائها بعد مَماته، وألاَّ تتزوَّج غيره، وفجأةً يُغْمِض عينيه، ويقضي الله فيه أمْرَه، فتبقى إلى جوارِه، وتَبْكيه ما شاء الله لها أن تفعل.

وتَدْخل عليها الخادِمُ وهي جالسة عند زوجِها على حالِها، فتخبِرُها بأنَّ هناك ضيفًا، من أصحاب زوجِها، قد أتى يَزُوره، ثُمَّ علم بِخَبَرِ موته، فخرَّ مغشيًّا عليه عند الباب، وأنَّ حالته سيِّئة، وأنَّها تَخْشى هلاكه، فأسرعَتْ إليه ودخلت عليه.

يُتابع كاتِبُنا الأحداث بأسلوبه الأدبِيِّ المتين، فيَقول:

"وصلَتْ إلى غرفة الضَّيف، فوجدَتْه مُسجًّى على سرير والمصباح عند رأسه، فنظرَتْ إليه، فخُيِّل إليها أنَّ المصباح الذي أمامها قد قبس من ذلك النُّور المتلألئ في ذلك الوَجْه المنير! وأنَّ أنينه المنبعث من صدْرِه نغمة مُحْزِنة ترنُّ في جوف اللَّيل، فأنساها الحزنُ على المريض الْمُشرفِ على الموت الحزنَ على الفقيد الهالك، وعَناها أمْرُه؛ فلم تترك وسيلة من وسائل العلاج إلاَّ توسَّلَت بِها إليه حتَّى استفاق، ونظر إلى طبيبته الرَّاكعة بجانب سريره نظرة الشُّكر والثناء، ثم أنشا يقصُّ عليها تاريخ حياته، فعرفَتْ من أمره كلَّ ما كان يهمُّها أن تَعْرفه، وعرفَتْ صِلَتَه بزوجها، وأنَّه لا أب له ولا أُمَّ، ولا زوج ولا ولَد، وهنا أطرقَتْ ساعةً عالَجَت فيها من هواجس النَّفْس ونوازعِها ما عالجَتْ، ثم قالت: إنَّك قد ثكلت أستاذك، وأنا قد ثكلت زوجي، فأصبح هَمُّنا واحدًا، فهل لك أن تكون عونًا لي وأكون عونًا لك على هذا الدَّهر؟

فألَمَّ بِخَبيئة نفْسِها، وابتسم ابتسامةَ الحزن والمضَض، وقال لها:

مَن لي يا سيِّدتي أن أَظْفر بِهذه الأمنية العظيمة، وهذا المرض الذي يساورني ولا يكاد يهدأ عنِّي قد نغَّص عليَّ عيشي، وأفسد عليَّ شأن حياتِي، وقد أنذرني الطَّبيب باقتراب ساعة أجَلِي إن لم تُدْرِكْني رحمةُ الله، فاطْلُبِي سعادتَكِ عند غيري، فأنتِ مِن بنات الحياة، وأنا من أبناء الموت.

فقالت: إنَّك ستعيش، وسأُعالِجُك، ولو كان دواؤك بين سَحْري ونَحْري.

فقال: لا تُصَدِّقي ما لا يكون، فأنا أعلم بدوائي، وعالِمٌ بأنِّي لا أجد السَّبيل إليه.

فقالت: وما دواؤك؟

قال: حدَّثَنِي طبيبي أنَّ شفائي في أَكْل دماغ ميِّت لِيَومه! وما دام ذلك يُعْجِزني فلا شفاء لي، ولا دواء.

فارتعدَتْ وشحب لونُها، وأطرقَتْ إطراقة طويلة لا يَعْلم إلاَّ اللهُ ماذا كانت تحدِّثُها نفسُها فيها، ثُمَّ رفعَتْ رأسها وقالت: كن مطمئنًّا؛ فدواؤك لا يعجزني!

ثُم خرجَتْ وتسلَّلَت حتَّى وصلَتْ إلى غرفة سلاح زوجها، فأخذَتْ منها فأسًا، ومشَتْ تَخْتلس خطواتِها اختلاسًا، حتَّى وصلت إلى غرفة الميت، وفتحَتِ الباب وتقدَّمَت إلى السرير، ورفعَتِ الفأس لِتَضرب بها رأسَ زوجها، ولم تكد تَهْوي بِها حتَّى رأَت الميِّت فاتحًا عينيه ينظر إليها، فسقطَت الفأسُ من يدها، وسَمِعت حركةً وراءها، فالتفتَتْ، ورأَتِ الضَّيف والخادم يَضْحكان، ففَهِمَت كلَّ شيء، وشهقت شَهْقة كان فيها نَفْسُها".

قصَّة غريبة، وفَعْلة الزوجة فيها قبيحة، لكن يَجْدر بِمَن يُحبُّ ألاَّ يعرِّض مَحْبوبه لتلك الفِتَن، ثُم ينتظر منه الولاء والإخلاص، وكَمْ من زوجٍ وزوجة يُخْطِئان أعظم الخطأ بتعريض الشَّريك لمثل هذه الفتن؛ لِمُجرَّد أن يَخْتبر ولاءَه!

مِن أقواله في المرأة:

"ما المرأة إلاَّ الأفق الذي تُشْرق منه شَمس السَّعادة على هذا الكون فتُنير ظلمته، والبَريد الذي يَحمل على يده نعمةَ الخالق إلى المخلوق، والهواءُ المتردِّد الذي يَهَبُ الإنسان حياته وقوَّتَه، والمعراج الذي تَعْرُج عليه النُّفوس من الملأ الأدْنَى إلى الملأ الأعلى"؛ "تحت ظلال الزيزفون".

"المرأة الشريفة لا تَغْدر بزوجها المنكوب".

ولِمَن يدَّعون رغبتهم في تحرير المرأة يقول:

"ما شكَتِ المرأةُ إليكم ظلمًا، ولا تقدَّمتْ إليكم في أن تَحُلُّوا قَيْدَها، وتُطْلِقوها من أَسْرِها، فما دخولُكم بينها وبين نفسها؟ وما تَمضُّغكم ليلَكم ونهاركم بِقَصَصِها وأحاديثها؟! إنَّها لا تشكو إلاَّ فضولَكم وإسفافكم ومُضايقتَكم لها، ووقوفَكم في وجهها حيثما سارت وأينما حلَّت، حتَّى ضاق بِها وجه الفضاء، فلم تَجِد لها سبيلاً إلاَّ أن تسجن نفسَها بنفسِها في بيتها فوق ما سجَنَها أهلُها، فأوصدت من دونِها بابَها، وأسبلت أستارها؛ تبَرُّمًا بكم وفرارًا من فضولكم، فواعجبًا لكم تسجنونها بأيديكم، ثم تَقِفون على باب سجنها تبكونها وتندبون شقاءها!"؛ "الحجاب".

ويُتابع خطابه لهم:

"عاشت المرأةُ المصريَّةُ حِقْبةً من دهرها مطمئِنَّة في بيتها، راضيةً عن نفسها وعن عَيْشها، ترى السعادة كلَّ السعادة في واجبٍ تؤدِّيه لنفسها، أو وقفةٍ تَقِفُها بين يدَيْ ربِّها، أو عطفة تَعْطفها على ولَدِها، أو جلسة تَجْلسها إلى جارتها تبثُّها ذات نفسها، وتستَبثُّها سريرة قلبِها، وترى الشرف كل الشَّرف في خضوعها لأبيها، وائْتِمارها بأمر زوجها، ونزولِها عند رضاهما، وكانت تفهم معنَى الحُبِّ، وتجهل معنى الغرام، فتحبُّ زوجها؛ لأنَّه زوجُها، كما تحبُّ ولدَها؛ لأنَّه ولَدُها، فإنْ رأى غيْرُها من النِّساء أن الحب أساسُ الزواج، رأَتْ هي أن الزواج أساس الحب، فقُلْتم لها: إنَّ هؤلاء الذين يستبِدُّون بأمرك من أهلك، ليسوا بأَوْفرَ منكِ عقلاً، ولا أفضل رأيًا، ولا أقدر على النظر لك من نظرك لنفسك، فلا حقَّ لهم في هذا السُّلطان الذي يزعمونه لأنفسهم عليك، فازدرَتْ أباها، وتمرَّدَت على زوجها، وأصبح البيتُ الذي كان بالأمس عرسًا من الأعراس الضاحكة، مناحةً قائمة، لا تَهْدأ نارُها، ولا يَخْبو أوارها"؛ "الحجاب".

وعن عاطفة المرأة وحاجتها إلى الْحُبِّ يقول:

"لا تعرف المرأة لها وجودًا إلاَّ في عيون الرجال وقلوبِهم، فلو خلَتْ رقعة الأرض من وجوه النَّاظرين، أو أقفرَتْ حنايا الضُّلوع من خوافق القلوب، لأَصْبَح الوجود والعدم في نظرِها سواء، ولو أنَّ وراءها ألْفَ عين تنظر إليها ثُم لَمحت في كوكبٍ من كواكب السماء نظرةَ حُبٍّ، أو سَمِعَت في زواية من زوايا الأرض أنَّةَ وجْد، لأعجبَها ذلك الغرامُ الجديد، وملأ قلبَها غِبْطَة وسرورًا".

ومن يُطالِعْ كتاباتِه يقِفْ على العديد من الحِكَم والبلاغة، التي لَم يستخدمها ذلك الأديب الفذُّ إلاَّ في الدفاع عن الفضيلة وإكرام المرأة المُسْلِمة؛ الدفاع عنها ضدَّ كلِّ طامع يريد أن يُحرِّرها من قيد أَسْرٍ وَهْمي لم يفرضه عليها غيْرُه!

فرَحِمَه الله، ورحم كلَّ مَن يقف على ثغرة، ويُعْمِل أدبه في نشر الأخلاق الحميدة، والذبِّ عن الرذائل.

من موقع الحضارة 

 


جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013