شهدت الأيام القليلة التي تلت اغتيال الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله واحدة من أكبر النكسات المعنوية للبيئة الحاضنة للمقاومة. إذ جاء الاغتيال في وقت كانت هذه البيئة ممزقة الأوصال، مشردة من قراها وبلداتها من أقصى الجنوب إلى أقصى البقاع، فيما يمعن العدو فيها قتلاً وتدميراً بحرب غير مسبوقة من حيث التكنولوجيا والقوة التدميرية. مشهد النازحين الذين خرجوا من سياراتهم إلى جانبي الطرق يبكون ويندبون، كما مشهد أولئك الذين كتموا الدموع في أماكن نزوحهم حتى لا يرى الآخرون «ضعفهم»، كانا بقساوة الاغتيال نفسه.
المؤكد أن الاسرائيليّ حين حسم قرار الاغتيال من مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، كان يفترض أنه يوجّه ضربة قاضية للحزب، لا بسبب مكانة السيد تنظيمياً أو إدارياً، وإنما لمكانته المعنوية. إذ لا يمكن لمن ينكسر معنوياً أن يواصل القتال. وقد ذهب الاسرائيلي أبعد من ذلك لتحقيق هذه الغاية عبر آلته الإعلامية الضخمة. لكن، منذ منتصف الأسبوع الماضي، كان يمكن تحديد مجموعة ملاحظات تعاكس النوايا الإسرائيلية،
أبرزها:
أولاً، ضخّ استشهاد الأمين العام دفعاً روحياً قتالياً كبيراً في أوساط المقاومين الذين ينطلقون أساساً في مقاومتهم من اعتبارات دينية وعقائدية، وهم يقولون اليوم بوسائلهم المختلفة إنهم لن يخذلوا السيّد أو يتركوه، وإن لا شيء في الدنيا أهم بالنسبة إليهم من الالتحاق به. ولا شك في هذا السياق أن الاسرائيلي، حين حسم قرار الاغتيال، كان يؤكّد مرة أخرى أنه لم يفهم بعد كل هذه السنوات تركيبة الحزب، ومعنى وأثر استشهاد القائد الأول في المعركة. وهو لم يتحسب على المدى البعيد لمحاولة تكرار واقعة كربلاء بعد كل هذه العقود من إحياء ذكرى عاشوراء جسداً وعقلاً وقلباً وروحاً. وقد أخذ رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو بقراره هذا الصراع من مكان إلى مكان آخر، أبعد من إسرائيل بكثير، طالما أمر بالاغتيال من مقر الأمم المتحدة في نيويورك. وإذا كان الموضوع يقتصر على المقاومين في الخط الأمامي اليوم، فإن المستقبل سيبين لنتنياهو والاسرائيليين في العالم حجم الحماقة، لأن الأمين العام لم يكن في الواقع أميناً عاماً لحزب فقط أو قائد مقاومة، إنما أكثر من ذلك بكثير.
ثانياً، لم تفسح النشوة الاسرائيلية المجال لألم المناصرين لأن يأخذ مداه إذ كثف الإسرائيليون العدوان والغارات بحيث شغل الناس عن مصابهم بتدبّر أمورهم اليومية.
تسرع الكيان الاسرائيلي في صرف الاغتيالات والضربات الجوية بتوغل بريّ سمح للحزب بأن يستعيد الثقة بالنفس
ثالثا، بتسرع أيضاً، حاول الكيان الاسرائيلي صرف الاغتيالات والضربات الجوية بتوغل بريّ سمح للحزب بأن يستعيد، في بضع ساعات، ما خسره في بضعة أسابيع لجهة الثقة بالنفس والقوة والقدرة على تسطير البطولات من جهة وإلحاق خسائر موجعة بالعدو من جهة أخرى. وبموازاة الحدث الرئيسي الأساسي المتمثل بصمود المقاتلين في الجبهة الأمامية بعد عام كامل من القصف اليومي بشتى أنواع القنابل الثقيلة، أثبت هؤلاء وجودهم على كامل الشريط الحدودي مع أسلحة خفيفة وثقيلة، وأكدوا القدرة على مواصلة رصد تحشدات العدو وتوجيه رشقات صاروخية مكثفة باتجاهها وإصابتها بدقة، مع الحفاظ على خطوط الاتصال الآمنة التي تتيح لهم إعلام القيادة المركزية فوراً لإصدار البيانات. وهو ما أدى إلى تركيز أنظار «البيئة» على هذه الجبهة الأساسية أكثر من أي شيء آخر، وباتت الضربات الجوية الإسرائيلية الكثيفة والعنيفة للضاحية والمناطق الأخرى مجرد تعويض بنظرهم عن تعثر الاقتحام البري.
رابعاً، في عنجهيته المتواصلة المتمثلة بمواصلة القصف اليومي للضاحية وفّر الإسرائيليّ ذريعة للحزب لتأجيل تشييع الأمين العام، وهو ما سمح للحزب وجمهوره بأن يؤجلوا العزاء بكل ما يتبعه من حزن حتى إشعار آخر.
وبالتالي، إذا كان الإسرائيلي قادراً فعلاً على الوصول إلى الأمين العام ساعة يشاء، فإن النقاش الجدي في بعض الدوائر الدبلوماسية الأمنية كان يركز على إيجابيات وسلبيات التوقيت الذي اختاره نتنياهو. ففي حالة الأنظمة الأحادية المرتبطة بشخص واحد، يمكن لاغتيال القائد الأوحد في بداية الحرب أن ينهيها قبل أن تبدأ. لكن في حالة حزب الله لا تبدو الأمور كذلك، أقله بعد الصمود الميداني في الجنوب، وعدم ترك الاسرائيلي أي شيء للمستقبل في بنك الأهداف، بعدما أغار بسرعة هائلة على كل ما حدده طوال سنوات من أهداف، من دون أن ينهي الحرب.