القانون منظومة قواعد تحدّد للناس واجباتهم وحقوقهم وتنظّم ممارستها على نحو إلزاميّ.فالناس يلتزمون في سلوكهم الاجتماعيّ قواعد سلوك، وعند إخلالهم بها يجب أن تتدخّل السلطة الرسميّة.وعندما نقول:"منظومة", نعني مؤسّسة تتمتّع بالاستقلال الذاتيّ Autonomie وبالتماسك المنطقيّ Cohérence وباللاتناقض Non contradiction.
أمّا القاعدة القانونيّة فتثير نقاشاً جدّياً في تحديدها, فمنهم من يرى أنها قاعدة سلوك اجتماعيّ الزاميّة تحت طائلة الجزاء المحدّد مسبقاً. ولكنّ الجزاء لا يطال خرق جميع القواعد القانونيّة, لا سيّما في القانون الدوليّ وحتّى في بعض قواعد القانون الداخليّ. ففي القانون الدوليّ, حتّى لو أثارت المخالفة ردّة فعل ما, فهي ليست محدّدة, بل متروكة, إمّا استنساب الدولة المتضرّرة, وإمّا لاستنساب الجهات الدوليّة, وخاصّة مجلس الأمن.وحتّى لو كنّا حيال قاعدة الزاميّة تحت طائلة الجزاء المحدّد مسبقاً, فقد تكون هذه القواعد موضوعة من قبل عصابة منظّمة كالمافيا.وإذا اشترط أن تكون, إلى ذلك, موضوعة من قبل الدولة, فإن التعريف لا ينطبق على الأعراف ولا على القانون الطبيعيّ, كما سنرى. من هنا يرى العلاّمة كلسن H. Kelsenأن القاعدة القانونيّة هي القاعدة التي تدخل في المنظومة القانونيّة في بلد معيّن. ونحن نؤيّد هذا الرأي على أساس أنّ القانون منظومة وبالتالي فإنّ أيّ قاعدة يجب أن تنسجم مع هذه المنظومة وإلاّ تفقد المنظومة وحدتها. هذه القواعد تضع السلطات بعضها وتكرّس بعضها الآخر بعد وجوده في الحياة الاجتماعيّة, وقد تعترف ببعضها الثالث ممّا قد يراه الناس قانوناً, أو لا تعترف.فكيف يتمّ ذلك؟ هل السلطة مخيّرة في تحديد محتواها, أم ملزمة بمحتوى معيّن؟ وهل وجودها في المجتمع إراديّ أم غير إراديّ؟
الاتّجاهات غير الإراديّة:
هذه الاتّجاهات تهتمّ بمضمون القواعد القانونيّة بشكل أساسيّ وترى أنّ القانون لا يفهم إلاّ إذا أخذنا مادّته بالحسبان, وهذا ما يؤكّده السيّد فنّيس John Michel FINNIS الذي يعتقد أننا لا نستطيع تعريف القانون بالاستقلال عن محتواه. وjتناول الاتجاهات غير الإراديّة القواعد التي تضعها السلطة, ولكن ليس بشكل حرّ, والقواعد التي تنوجد في الحياة الاجتماعيّة دونما تدخّل من قبل السلطة.القسم الذي تضعه السلطة العامّةفي هذا القسم هناك مدارس مختلفة تتناول أصل القواعد, وسنصنّفها في ثلاث فئات:
المدارس المثاليّة:
وهي تُخضِع إيجاد القواعد أو وجودها إلى مُثُلها: أي أنها تحدّد ما يجب أن يكون عليه القانون.
فالنظريّات الدينيّة السماويّة تربطها بالإرادة الإلهيّة، وهذا ينطبق على الشرائع السماويّة كالشريعة الإسلاميّة والشريعة اليهوديّة. والنظريّات الدينيّة الأخرى تربطها بما تعدّه إرادة آلهتها.ونحن لن نناقش هذه النظريّات الدينيّة, وسنركّز بحثنا على القوانين الوضعيّة وأصولها.
1-مدارس القانون الطبيعيّ:
تربط بعض المدارس القواعد القانونيّة بالقانون الطبيعيّ. والقانون الطبيعيّ هو القانون, الذي يفهم من آراء المؤمنين به, أنّه الذي يدركه الانسان بفطرته, وهو معروف منذ القدم في اليونان ثم في روما ومن قبل روّاده في المسيحية القديس توما الأكويني (1225-1274), وفي أنكلترا هوبس (1588-1679) ولوك (1622-1704)...فما هو القانون الطبيعيّ؟ يجيب بعضهم, ومنهم فرانسوا جيني , أنه النابع من "طبيعة الأشياء".ويرى بعضهم الآخر, وعلى رأسهم غروسيوس ومتابعوه, أنه ينبع من "الطبيعة البشريّة".ومنهم من يعيده إلى الله أو إلى فكرة العدالة. ولكنّهم جميعاً يعدّونه دائماً ثابتاً لا يتغيّر, بمرور الزمن.وهذه المدارس ترى أن أيّ قانون يعارض القانون الطبيعيّ, أو لا ينسجم معه على الأقلّ, هو باطل. " فرفض القانون الطبيعيّ يعني القول إنّ كلّ قانون هو وضعيّ, أي أنّ القانون هو فقط ما يحدّده مشرّعو البلدان المختلفة ومحاكمها, ولمّا كان أكيداً أنّ من المعقول تماماً, وحتّى من الضروريّ أحياناً, أن نتحدّث عن قوانين أو قرارات ظالمة, فإنّنا إذا أطلقنا أحكاماً كهذه, فهذا تأكيد أنّ هناك معياراً للعادل والظالم مستقلّ عن القانون الوضعيّ وأسمى منه: معياراً نحن قادرون بفضله أن نحاكم القانون الوضعيّ" .لكن تبقى المشكلة أن المرجعيّات التي تطرحها مدارس القانون الطبيعيّ هذه ليست محدّدة بدقّة، وهي أحياناً ميتافيزيقيّة. وإلى ذلك هناك تباين في تحديد مادّة القانون الطبيعيّ, وممن يتوقّفون عند ذلك نوبرتو بوبيو الذي يقول:" لنفكّر... في العدد الكبير من الآراء المختلفة حول محتوى القانون الطبيعيّ الأساسيّ, فهو عند هوبس السلم, وعند كومبرلاند البِرّ, وعند بوفّندورف القابليّة للاجتماع,, وعند توماسيوس السعادة, وعند وولف الكمال, وعند الفقه المدرسيّ )السكولاستيكيّ) هو... فعل الخير".
وهناك ملاحظة أخيرة تتمثّل بإنّ بعض محتويات القانون الطبيعيّ تتغيّر على الرغم من نفي مدارسه المختلفة، فمثلاً في ظلّ العبوديّة, التي كانت سائدة حتّى الأمس القريب، كانت حقوق السيّد على العبد تعدّ جزءاً من العدالة (أرسطو)! فهل بقيت اليوم كذلك؟..ومع كلّ ذلك, فإنه, وانسجاماً مع معطيات الواقع القانونيّ في مختلف الشرائع الوضعية لا يمكن إغفال االقانون الطبيعيّ, سواءً بصفة قانون تكميليّ , أو بصفة قانون أصيل, كما سنبيّنه لاحقاً.
2- المدارس الاجتماعيّة:
تربط القواعد القانونيّة بمعطيات الحياة الاجتماعيّة، من اقتصاد، وثقافة، أو غيرها:
من جهة لأنّ هذه المعطيات تشكّل البيئة التي يتحرّك فيها تفكير الإنسان، وهذا ما يؤكّد عليه مونتسيكو (1689-1755) الذي يرى أن القانون هو نتاج أسباب موضوعيّة تعود بشكل خاصّ إلى الوسط الاجتماعيّ (روح الشرائع).
ومن جهة ثانية لأنّها تطرح معضلات, على القانون أن يحلّها. وهكذا يكون المشرّع ملزماً بالاستجابة لهذه المعطيات.
ونحن نرى أنّ هذه المعطيات لا بدّ أن تساهم, بشكل أو بآخر, في تكوين تفكير مشرّع القانون الوضعيّ, فيكون لها تأثير ما غير مباشر على القانون الذي يسنّه.
3 -المدارس التاريخيّة:
ترى هذه المدارس أن القانون ينتج تلقائياً عبر التاريخ ويشدّدون على العرف ولا يؤمنون بأنّ الأنسان هو الذي يخلقه, إذ يقول بورتاليسPortalis مقدّم القانون المدنيّ الفرنسيّ:" إنّ مجموعات قوانين الشعوب تصنع مع الزمن, وإذا أردنا التعبير بدقّة فهي لا تصنع" ، ويوضح سافينيي أنّ:" القانون يتكوّن تلقائياً وحتى دون وعي أساساً عن طريق العرف, والحقوقيّ يتدخّل لتنظيمه" , إنّه مخلوق من روح الشعب .
ونحن لا ننكر إسهام التطوّر التاريخيّ في القانون, بحيث يأتي متّفقاً مع المستوى الذي وصله المجتمع, فيختلف في المجتمع القبليّ عنه في المجتمع الإقطاعيّ.
الاتجاه الإرادي:
يركّز هذا الاتّجاه على الشكل, أي طرائق وضع القواعد القانونيّة وعلاقتها بعضها ببعض, ويرى أنّ القاعدة القانونيّة تعود إلى إرادة واضعها، وهذا ما أكّده هوبس الذى آمن أنّ " القانون هو ... خلق إراديّ للمشرّع...هو لم يعد يقوم على الحلّ العادل, ولكن في مجموعة القوانين".
ونحن نرى أنّ المعطيات والمثل المذكورة أعلاه يمكن أن تؤثّر في هذه الإرادة بشكل ما أو بآخر وبقدر ما أو بآخر، ولكن ليس بطريقة واضحة، يمكن تحديدها, لذلك فالمعوّل عليه هو الإرادة وليس شيئاً آخر.
ويمكن أن ندرج هنا الاتّجاه المعياريّ الذي يؤكّد على إلزاميّة القواعد القانونيّة وانتماء بعضها إلى بعض, ومن أهمّ من يمثّله هانّس كلسن الحقوقي النمساويّ, الذي لا يناقش المضمون.
الاتجاه المهجّن:
هو الاتجاه الحديث الذي يجمع بين الاتّجاهات الإراديّة وغير الإراديّة, فقد تراجعت المدارس المثاليّة, لصالح الاتّجاهات الأخرى, إلاّ أنّها لا تزال تظهر هنا وهناك غالباً قواعد احتياطيّة تسدّ النواقص, وأحيانا قواعد أصليّة, ففي مجال الرجوع إلى القانون الطبيعيّ, نقرأ في "إعلان حقوق الانسان والمواطن" الصادر سنة 1789 (المادّة الثانية):"أن الهدف من كلّ تجمّع سياسيّ هو الحفاظ على حقوق الإنسان الطبيعيّة وغير القابلة للتقادم..."ويأتي في السياق نفسه حقّ الدفاع مثلاً الذي لا تنصّ بعض القوانين عليه ولكنّه يؤخذ به دائماً.وفي الاجتهاد صدرت قرارات حول الأبوّة الطبيعيّة والحمل الاصطناعيّ...
وفي مجال قوننة العدالة, يمكن الرجوع إلى المادّ38/2 من النظام الأساسيّ لمحكمة العدل الدوليّة, التي تنصّ على أنّه إذا وافق الأطراف, فإنّ المحكمة تقضي بناء على قواعد العدل والانصاف ex aequo et bono.كما يمكن أن نذكر "الإثراء غير المشروع", وكذلك الحقّ بدعوى عادلة الوارد في الكثير من قوانين الأصول وفي العهد الدولي للحقوق المدنيّة والسياسيّة, الذي ينصّ في المادّة 14 على أنّ "...من حقّ كلّ فرد لدى الفصل في أي تهمة جزائيّة توجّه إليه, أو في حقوقه والتزاماته في أيّ دعوى مدنيّة, أن تكون قضيّته محلّ نظر منصف وعلنيّ من قبل محكمة مختصّة... "
وفي الاجتهاد الدوليّ نرى الرجوع إلى العدالة كما في قضيّة الجرف القارّيّ بين تونس وليبيا , وقضيّة خليج مين Maine بين كندا والولايات المتحدة الأميركيّة وقضيّة الحدودالبحريّة بين ليبيا ومالطة, إذ عدّ القرار الأخير مسألة العدالة مسألة عامّة لا تقتصر على حالة دون حالة, فنصّ على أنّ:" مبادئ العدالة, التي يجب تطبيقها, ليست فقط وسائل لتحقيق نتيجة عادلة في دعوى خاصّة, (لكن يجب أن تتمتّع ب) صلاحيّة أكثر شموليّة, وبالتالي يعبّر عنها بصيغة العموم "
القسم الذي ينوجد في المجتمع (وتكرّسه السلطة): هذا القسم يتمثّل بالأعراف. فالأعراف تولد, حسب رأي بعضهم بشكل تلقائيّ، تنبع من أعماق المجتمع وتفرض نفسها، دون أن يحدّد طريقة ولادتها. وسنناقشها لاحقاً.
مصادر القانون:
من أين نستمدّ القانون؟ كيف نستمدّه؟ أو ماهي مصادره؟
هناك اتجاهان في هذا الصدد:
اتجاه يشبّه مصادر القانون بمصادر المياه، فيقول إنّ مصادر المياه هي المياه الجوفيّة، الخزانات الموجودة في باطن الأرض. من هنا يرى أن مصادر القانون موجودة في الحياة الاجتماعية، في الثقافة في الأوضاع الاقتصادية, في التاريخ ... وهذا اتجاه المصادر المادّيّة (مادّة القانون) أو الموضوعيّة (موضوع القانون) أو الحقيقيّة (حقيقة القانون).
وهناك اتّجاه يقول إنّ المصادر هي الينابيع، نقاط إنبجاس الماء, ويرى أن مصادر القانون هي المعطيات التي نُعمِل فيها تقنيّات التفسير والمقارنة لتحديد القواعد واجبة التطبيق في الحالات التي تستدعيها (المصادر الشكلية), وهي عامّة النصوص والأعراف والمبادئ العامّة للقانون والاجتهاد.
المصادر الماديّة: هذا الاتجاه يعيدنا إلى المدارس الاجتماعية والتاريخية...
المصادر الشكليّة:
يقول أنصار المصادر الماديّة عن المصادر الشكليّة إنّها هي القانون نفسه وليست مصادره، ويشبهون موقف أنصار المصادر الشكليّة بموقف من يقول إنّ الحصان هو مصدر الحصان والهرّ مصدر الهرّ.لكن الردّ هو أنّ المعطيات المذكورة هي معطيات أوليّة تجب معالجتها لاستخراج ، القانون منها.فالنصوص بحاجة إلى إيضاح والى مقارنة والى رفع التزاحم وإزالة الغموض وسدّ الثغرات...والأعراف، يجب إثباتها وتحديد محتواها ومقارنتها بعضها ببعض وبالنصوص...والمبادئ العامة للقانون بحاجة لمن يستخرجها من جملة نصوص.أمّا اجتهادات المحاكم فهي تطبيق للقانون، وسدٌّ لثغراته وإجلاء لغموضه.إذاً لا بدّ من تفسير هذه المصادر النصوص حتى يمكن استخدامها. فماهو التفسسير؟
التفسير:
بينّا أنّ القواعد القانونيّة بحاجة إلى التفسير, حتىّ أنّ بعضهم يرى أنّ التفسير هو الذي ينتج القاعدة القانونيّة.
فكلسن يعدّ القاعدة القانونيّة la norme juridique المعنى المعطى لنصّ، وليس النصّ نفسه. ويوافقه ميشيل تروبير على ذلك، لكن ليس أيّ تفسير بل تفسير جهة مكلّفة قانونيّاً بالتطبيق، إذ يكون تفسيرها عند ذلك تفسيراً رسمياً anthentique بخلاف التفسير الذي يقدّمه غير المختصّين بالتطبيق, كالفقهاء والأساتذة والمحامين, الذي يسمّى "التفسير العلميّ".
من هنا تكون القاعدة القانونيّة هي نفسها التفسير الذي تعطيه سلطة التطبيق للنصّ القانونيّ.
ولكن هذا الأمر يجعل التفاسير متباينة بين سلطة وسلطة, وحتّى داخل السلطة الواحدة. غير أنّ السّيد تروبير يؤكّد أنّ ما يقرّب التفاسير بعضها من بعض أنّ هناك جهات ذات نفوذ في مجالها, كمحكمة التمييز أو مجلس الشورى, تلتزم المحاكم الأخرى بتوجّهاتها خشية من نقض أحكامها.أمّا كيف يحصل التفسير عمليّاً فيذهب الفقهاء عموماً إلى أنّه يتمّ بواسطة القياس Syllogisme على النحو الآتي:
المقدّمة الكبرى: النصّ القانونيّ, "من يقتل... يحكم عليه بالأشغال الشاقّة..."
المقدّمة الصغرى: الواقعة, فلان ارتكب جريمة قتل,
النتيجة: الحكم: فلان يحكم عليه بالأشغال الشاقّة...
إلاّ أنّ للتفسير قواعد، قد يختلف اعتمادها بين سلطة وأخرى، لذلك لا بدّ من قياس ثانويّ يقضي بأن تكون المقدّمة الكبرى في القياس السابق مقدّمة صغرى:
المقدّمة الكبرى: قاعدة تفسير: في القانون يفسّر الفعل المضارع على أنّه إلزام أو تخيير
المقدّمة الصغرى: النصّ القانونيّ المطروح للتفسير: القاعدة الفلانيّة حملت فعلاً مضارعاً (يحكم عليه)
النتيجة: تفسير: القاعدة الفلانيّة هي قاعدة إلزاميّة أو تخييريّة.
ويمكن اللجؤ إلى قياس ثالث مثلاً:
الكبرى: في القانون لا تفسّر الألفاظ كما في اللغة العاديّة.
الصغرى: قاعدة قانونيّة
النتيجة: تفسّر القاعدة بخلاف النصوص العاديّة...
المصادر التي تحتاج التفسير:
إنّ المصادر التي تحتاج إلى التفسير هي النصوص والأعراف والاجتهاد. أمّا المبادئ العامّة للقانون فهي نوع من التفسير, لأنها تستخرج من جملة من النصوص القانونيّة المتعلّقة بموضوع معيّن, كعدم رجعيّة القواعد الحقوقيّة وحقّ الدفاع حين الاتّهام وموازاة الشكل التي تقضي بأن من يضع القاعدة يملك حقّ إلغائها....
النصوص:
في النصوص مشاكل لغويّة، وتطرح بخصوصها مسألة الإلزاميّة، والصلاحيّة، والفاعليّة.
المشاكل اللغويّة:
إنّ النصوص بحاجة إلى التفسير لأنّ اللغة الحقوقّيّة تختلف عن اللغة العاديّة, لا بالمصطلحات فقط, بل بأمور أخرى:
فالفعل المضارع فيها لا يعني دائماً آنيّة أو مستقبليّة حصول فعل، بل قد يعني:
وجوب أن يحصل الفعل: " من يقتل... يحكم عليه..."
أو صلاحيّة سلطة ما بالفعل أو عدمه: "عندما... تعلن الحكومة حالة الطوارئ."
وإلى هذا يبرز أحيناً غموض في العبارات, أو نقص, إمّا أنه حصل بصورة عفويّة, وإمّا أن المشرّع, وهو عادة جماعة (برلمان) لم يتفق على كلّ التفاصيل, فترك الأمر على هذا النحو.
الإلزاميّة:
ممّ تستمدّ النصوص إلزاميّتها؟
المثاليّون:
يؤسّسون الإلزاميّة على العدالة، فبما أنّها نابعة من العدالة، فهي ملزمة لأن الناس يؤمنون بالعدالة. لكنّ مسألة العدالة كما يدركها الناس ليست ثابتة بشكل مطلق في الزمان والمكان.
التلريخيّون والسوسيولوجيّون يؤسّسون على المعطيات التاريخيّة والاجتماعيّة: لأنّها تعبير عن الإرادة العامّة.
أو لأنّها ناجمة عن حقائق الحياة الاجتماعيّة. فدوغي Duguit يقول: "إذا خرق القانون من الضروريّ أن تتدخّل القوى الواعية في الجماعة لقمع الخرق"(2).أو لأنّها تجسيد للضمير الشعبيّ المكوّن تاريخيّاً.أو لانطباقها على العدالة بالمعنى الاجتماعيّ
السيكولوجيّون:
يعلّلون الإلزاميّة بكون الأفراد مقتنعين, لأسباب مختلفة, بوجوب إطاعة
القوانين على نحو عامّ. ويشرح السيّد آلف روسّ هذه الظاهرة بإعادتها إلى نظام الإكراه الذي تفرضه السلطة على من يخرق القانون, فيلتزم الناس ويتحوّل الأمر إلى عرف, إذ يقول:" إنّ نظام الإكراه يحدث بواسطة الخوف من الشرّ, بعض المواقف المهتمّة بالقانون, ولكن من جهة أخرى, وبفضل التثبيت العرفيّ, تحدث هذه المواقف بدورها دفعاً موازياً لا يمكن أن يكون غير مهتمّ" فيصبح الناس مقيّدين بالقانون, لا بسبب الخوف, لكن للشعور بأنّهم ملزمون به.
الأخلاقيّون:
يعلّلون :إلزاميّة القواعد بانسجامها مع الأخلاق: يقول Dupeyroux لأنّه "يخالطها خيط داخليّ من شانه أن يخلق الالتزام"(3).
المعياريّون:
يرون أن الطابع الإلزاميّ هو نفسه القاعدة التي تأمر بسلوك ما(4). ويرى أمسلك Amselek أنّ سبب الإلزاميّة يكمن في أنّ القاعدة تحوي أوامر، لكون هذا الطابع هو عنصر من بنيتها، من تكوينها، ممّا تصبو إليه، والسؤال: لماذا الأوامر القانونيّة إلزاميّة كالسؤال لماذا الدائرة مستديرة؟(5).
ونحن نرى أن التقيّد بأحكام القانون يعود إلى جملة أسباب منها:أنّ قسماً تغطّيه الأخلاق والدين, فيلتزم المتديّنون والمؤمنون بهذه الأخلاق بهذه الأحكام.وأنّ قسماً يقيم التوازن بين أشخاصه, فيلتزم كلّ حدوده كي لا يتسبّب بالمشاكل لنفسه.
والقسم الباقي تفرضه السلطة, ويلتزم به الناس عامّة طاعة للسلطة.
الصلاحيّة:
الصلاحيّة في القواعد القانونيّة تعني أن تكون صالحة للتطبيق، لم تلغَ أو تبطل أو لم تبلغ الأجل الذي حدّد لها الخ..
والصلاحيّة كما يقول كلسن هي في القواعد القانونيّة عين الوجود(6)، ويعرّفها Dupeyroux بأنّها انتماء القواعد القانونيّة إلى النظام القانونيّ(7), فالقواعد غير الصالحة لم تعد قواعد, كجواز السفر أو رخصة البناء اللذين انتهت مدة صلاحيّتهما، فلم يعودا إذن سفر أو إذن بناء. من أين تستمدّ القاعدة القانونية صلاحيتها.؟
ترى المدارس المثاليّة أنّ الصلاحيّة مستمدّة من أوامر الله تعالى أو من مثل العدالة أو طبيعة الأشياء...وتربطها المدارس السوسيولوجيّة والتاريخيّة بالمعطيات الاجتماعيّة والتاريخيّة.
والمدارس السيكولوجيّة، تعيدها إلى اقتناع الخاضعين للقانون بقانونيّة هذه القواعد وطابعها الإلزاميّ.
أمّا المدارس الشكلانيّة Formalistes ، فترى الصلاحيّة ناجمة عن الشكل، أي عن طريقة الإصدار، التي يؤمنون بها . كأن تصدر عن البرلمان, وهم يؤمنون أنّه السلطة التي يجب أن تناط بها سلطة التشريع.
وربما يعيدها بعضهم إلى اللغة التي تصاغ بها ...
أما المدارس المعياريّة فتعيدها إلى قواعد واعتبارات مختلفة:
كلسن: يعيد كلسن صلاحيّة القواعد القانونيّة إلى القاعدة التي تعلوها وصولاً إلى الدستور: فقرار الوزير يستمدّ صلاحيّته من المرسوم أو القانون، والمرسوم يستمدّ صلاحيّته من القانون أو من الدستور، والقانون يستمدّ صلاحيّته من الدستور.
أمّا كيف تُستمدّ هذه الصلاحيّة، فحسب طريقتين:
عندما تقضي قاعدة عليا(موضوعة من قبل جهاز أعلى) بوضع قاعدة أدنى منها(على يد جهاز أدنى)، فهي تؤسّس صلاحيّتها. وهذا ما يعدّه كلسن ارتباطاً حركيّاً (dynamique), لأنّه يخلق قواعد جديدة.
وعندما يضع جهاز أدنى قاعدة إنفاذاً لقاعدة ما، فالقاعدة الثانية تؤسّس صلاحيّة القاعدة الأولى. والارتباط هنا يعدّ ارتباطاً سكونيّاً (statique), لأنّه لا يخلق جديداً, بل يفرّع القديم.
أمّا الدستور فمن أين يستمدّ صلاحيّته؟
يجيب كلسن أنّه يستمدّها من القاعدة الأساسيّة La norme fondamentaleفما هي القاعدة الأساسية؟
هي قاعدة افتراضيّة غير حقوقيّة متجاوزة transcendente مؤدّاها أنّه يجب الالتزام بالنظام القانونيّ في البلد. دون أن تحدّد له أيّ محتوى.
هارت: يربط هارت الصلاحيّة بقاعدة الاعتراف Reconnaissance من قبل أشخاص القانون، التي تعني تسليمهم بأنّ القانون مقبول وذو قيمة valable.
تروبير: يعيدها تروبير إلى موقف سلطة التطبيق, فهي التي تقرّر العمل بالقاعدة, أوتعدها ساقطة caduque. يأخذ امسلك Amselek على نظريّة القاعدة الأساسيّة أنّها عودة إلى القانون الطبيعيّ الذي لا يميّز بين الفاعل والموضوع, فالجهة نفسها هي التي تفترض القاعدة الأساسيّة وتدرسها في الوقت نفسه.
كما يأخذ عليها كالينوسكي أنّها فرضيّة وبالتالي هي تجعل كلّ النظام القانونيّ فرضيّاً.
ونحن نرى أنّ الصلاحيّة تعود إلى أمرين معاً, فهي مشروطة بهما: إرادة السلطة, وقدرتها على تطبيقها, ويجب أن يتحقّق الشرطان معاَ. فقد يكون هناك نصّ يتمرّد عليه قطاع واسع من المعنيين به فتمتنع السلطة عن تطبيقه, حتى ولو كانت تريد ذلك. فقد ورد في قانون العقوبات اللبناني أحكام تمنع الإضراب والتجمّع تحت طائلة العقوبة .ولكنّ السلطة اضطرّت إلى الاعتراف بحقّ الإضراب والتظاهر تحت ضغط الشارع.ويأتي رفض القانون في هذه الحالات من اصطدامه بالمعتقدات الدينيّة أو الفكريّة... على نحو عامّ
الغائيّة والفاعليّة:
هل للقانون غاية؟لا بدّ لأيّ جهد إنسانيّ من غاية, والقانون ليس مختلفاً عن الجهود الإنسانيّة الأخرى، فما هي الغاية منه؟
هنا نعود إلى المدارس المختلفة ونراها تطرح غايات مختلفة.فمنها ما ترى الغاية في العدالة، فالقانون في نظرها يستهدف العدالة. لكن يطرح بخصوص موضوع العدالة:هل العدالة للأفراد أم للجماعة أي هل الأولويّة للفرد أم للمجتمع؟ثمّ ما هي العدالة, وهل هي أمر ثابت أزليّ ابديّ أم متحوّل؟
ومنها ما ترى الغاية في الانتظام والسلام الاجتماعيّ، فتأتي العدالة في مرتبة ثانية.
ومنها ما ترى العدالة في حريّة السوق، ومنها ما تراها في التدخليّة، ومنها ما تراها في النظام الاشتراكيّ أو الشيوعيّ الذي من المفترض أن يؤمّن الرفاه للجميع...والسؤال الواقعيّ هو هل المشرّع يسعى إلى هذه الاعتبارات؟
والجواب هو أن الغايات المطروحة هي ما يجب أن يسعى إليه القانون, وليس ما يسعى إليه واقعيّاً وبشكل دائم.لكن إذا اختلف المفكّرون حول هذه الغايات، فهل هذا يعني أنّه يمكن أن نطرح أن لا غاية للقانون؟ هذا أمر يجعل وضع القوانين مسألة عبثيّة، فالقوانين يراد من كلّ منها تحقيق أمر ما.فقانون العقوبات يستهدف, فيما يستهدف, منع الإجرام، والقانون المدنيّ تيسير التعامل وترشيده بين الناس، والقانون الدستوريّ انتظام عمل السلطات...فإذا نزلنا إلى القواعد القانونيّة الجزئيّة، فنجد أن لكلّ قاعدة غاية، فمثلاً عندما يشدّد قانون العقوبات جزاء جريمة ما, يكون القصد وضع حّد لتفشّيها، كما حصل عندما استفحلت ظاهرة القتل في لبنان, فقُرّرت عقوبة الإعدام لكلّ قاتل دون أن تؤخذ بالحسبان الأسباب والأعذار التخفيفيّة, وذلك بقصد إخافة من يمكن أن يقدم على القتل.
وعندما ينصّ الدستور على أنّه عندما تطرح الثقة بالحكومة فيجب ألاّ يصوَّت مباشرة، بل بعد بضعة أيّام, فيكون التوتّر قد خفّ. وقد تشترط أكثريّة موصوفة لنزع الثقة بحيث يصبح الأمر صعباً، وتكون الغاية هي إطالة عمر الحكومات...
لكنّ الغاية ترتبط بالجدوى Efficacité, فإذا أدّت القواعد الغرض, الذي وضعت من أجله, يكون النظام القانونيّ مجدياً efficace. أمّا إذا كنّا حيال قاعدة واحدة، فتكون فاعلة أي تنتج مفاعيل، وإذا كانت القاعدة غير فاعلة، فما الفائدة منها؟ وكذلك إذا كان النظام القانونيّ غير مجدٍ فهو عبثيّ.ويلاحظ العلاّمة تروبير في موضوع نتائج القواعد القانونيّة أنّها على ضربين:
الأول: النتائج المنشودة:
فالمشرّع الذي يضع شروطاً في موضوع الثقة بالحكومة، عليه أن يراقب ليرى هل أطالت عمر الحكومات أم لا. فإذا أطالته تكون حقّقت النتائج المرجوّة, وإلاّ فإنّها تكون غير فاعلة.
الثاني: النتائج الحاصلة دون قصد الشارع:
قد يتوخّى الشارع تحقيق نتيجة معيّنة، وقد تتحقّق أو لا تتحقّق، لكن قد يحصل أن يؤدّي الأمر إلى نتيجة لم تكن متوقّعة.
فمثلاً: كان في بريطانيا نظام يدعى نظام الاتّهام impeachment, وهو يسمح لممثّلي البلدات communes أن يتّهموا الوزراء إذا ارتكبوا في نظرهم مخالفات كبيرة, ما يؤدّي إلى أن تنزل بهم عقوبات مخيفة، وأخذ هؤلاء الممثّلون يسيئون استخدام هذه الصلاحيّة فيتّهمون الوزراء كلّما اختلفوا معهم سياسيّاً، الأمر الذي أخذ يدفع الوزير إلى الاستقالة إذا شعر أنّه سيتعرّض للاتّهام، ما أدّى إلى أن يعتمد البرلمان إعلان عدم ثقته بالوزير ليجبره على الاستقالة قبل اللجوء إلى الاتّهام، ثمّ أخذ البرلمان يطرح الثقة بالحكومة كلّها، ومن هنا نتجت مؤسّسة "المسؤوليّة السياسيّة للحكومة أمام البرلمان"، التي لم تكن مقصودة عندما وضع نظام الاتّهام.
العرف:
العرف قواعد لم تضعها أي سلطة في الدولة، بل نشأت في الأوساط المعنية بتطبيقها، ويعرّف الفقه القانوني العرف بطريقة نشوئه فيقول إنّه ممارسة متكرّرة تتّسم بالطابع الإلزاميّ.إلاّ أنّ بعضهم ينكر على العرف أن تكون مصدراً للقانون، على أساس أنه ما دام هناك مشترع فكيف يكون العرف مصدراً أو ذا طابع إلزاميّ دون موافقته العلنيّة أو الضمنيّة.
ويرى آخرون أنّه إذا أخذت بها سلطة ما، فإنّ هذه السلطة هي التي تجعلها مصدراً بقرارها، كان يعتمد عليها القاضي، فيكون حكمه هو: مصدر القانون لا العرف.
غير أنّ بعض المذاهب الاجتماعيّة والتاريخيّة تعدّ العرف المصدر الأساسيّ لأنّه نابع من أعماق المجتمع ومن التاريخ. ونحن نرى أنّ القاضي وسائر السلطات تعتمد العرف بعد التثبّت من وجوده فلا يمكن ان ننكر دوره في خلق القواعد القانونيّة.
إلا أن مشاكله تبقى بحاجة إلى حلول، وهي تتعلق بتعريف العرف وبتكونه.
مشاكل التعريف:
يؤمن الفقه التقليديّ, كما رأينا في التعريف الذي ورد أعلاه, أنّ العرف يتكوّن من عنصرين:
عنصر ماديّ يتمثّل بالممارسة.
وعنصر معنويّ يتمثّل بالإيمان بالطابع القانونيّ.
وهذا يؤدّي إلى طرح الأسئلة الآتية: كم مرة يجب أن تتكرّر الممارسة؟.ومن الذي يجب أن يقتنع بالطابع الإلزاميّ؟
كما يمكن أن يثار هنا قانون هيوم الذي يقضي بأنه لا يمكن أن نستنتج "ما يجب أن يكون" (sein بالألمانيّة) الذي تنتمي إليه العلاقة المعبّر عنها ب" الإسناد Imputation, ممّا هو "كائن" sollen) بالألمانيّة), أي الطبيعيّ حيث يسود مبدأ السببيّة. والإسناد يعني أنه عند حصول "أ"(جريمة مثلاً) يجب أن يحصل "ب"(عقاب), وليس اذا حصل "أ" يحصل "ب" بالضرورة, فقد لا يحصل. في حين أنّه في الطبيعة إذا حصل "أ" (سبب) سيحصل "ب" (نتيجة) بالضرورة. . ومن هنا فإنّ التعريف يصبح من وجهة النظر هذه غير معقول.ثمّ إنّ العلاّمة تروبير يرى أنه هذات التعريف لا يستقيم, لأنّه تعريف بالعناصر المكوّنة, وهذا يمكن أن يصحّ في الأجسام الماديّة، كأن نعرّف الدائرة بأنّها خطّ منحنٍ مغلق تبعد كلّ نقاطه البعد نفسه عن نقطة في وسطه تدعى المركز, لكن لا يعتمد في الأمور المجرّدة.ويعتمد الفقيه المذكور التعريف بالجنس الأقرب والعرض العام، فيفكّك عناصر التعريف التقليديّ ويقول:نحن نستطيع ملاحظة ممارسة: رئيس جمهوريّة في الجمهوريّة الثالثة الفرنسيّة (وفي لبنان قبل الطائف), الذي يعطيه الدستور صلاحيّة تعيين الوزراء وتسمية رئيس من بينهم، يعمد إلى إجراء استشارات نيابية ليختار بعدها الشخص الذي يكلّفه بتأليف الحكومة ثمّ يتوافق معه على إصدار مراسيم التشكيل.
وحتى يُميّز هذا الصنف من الممارسة من أصناف الممارسات الأخرى، يُبحث عن الميزات الخاصّة بها، فيُطرح السؤال: هل هي متكرّرة؟
والجواب: نعم هي ممارسة تتّسم بالتكرار.
لكن هل تكفي سمة التكرار؟إن مجرّد التكرار يمكن ألاّ يقنع أصحاب العلاقة بقانونيّته, يمكن أن يعدّ تكرار مخالفات في ظلّ ظروف خاصّة. إذاً لا بدّ من البحث عن ميزات أخرى, فيُسال: أليس من الواجب أن يسلّم المعنيّون بهذه الممارسة بالتزاميّتها؟
والجواب: إن هذا ضروريّ، وإلاّ لا نكون أمام مصدر للقانون.
وبهذا يصبح التعريف: العرف ممارسة تتميّز بالتكرار وبالطابع الإلزاميّ.
ونرى نحن أن الميزة الرئيسيّة هي الطابع الإلزاميّ وليس التكرار بحدّ ذاته، لأنّ التكرار غير محدّد، من جهة، وهو مربوط بالطابع الإلزاميّ, أي يجب أن تتكرّر الممارسة حتّى يقتنع المعنيّون بها أنّها إلزاميّة، وقد يحصل أن يقتنع المعنيّون بالزاميّتها بعد ممارستها مرّة واحدة. وعند القناعة بالإلزاميّة, نكون أمام عرف.
تكوين العرف:
هناك من يرى أنّ العرف ينشأ تلقائيّاً في المجتمع, فبواتيل Boistel يقول: إن الأعراف تتكوّن كما تتكوّن الدروب في الأرض، كما بين بيت وبيت، إذا ينطلق شخص من هذا البيت إلى ذلك ويعود، وينطلق الآخر... ويتكرّر الأمر، فإذا بنا نرى درباً قد ظهر. لكنّ هذا الأمر يدلّ على أنّ الأساس قد نسي, لا على أنّه لم يوجد، بل هو وجد.فإذا أخذنا عرفاً يمارس في حرفة من الحرف, كالنجارة مثلاً، يلزم صاحب العمل بأن يدفع للصبيّ المتعلّم مبلغ خمسين ألف ليرة أسبوعيّاً، وأنّ عليه أن يعلّمه في السنة الأولى بعض المعلومات المحدّدة. فإذا بحثنا طريقة نشوء هذا العرف, سنجد أنّ نجّاراً, ما في زمن ما, اتّفق مع وليّ أمر صبيّ على مقدار الأجر وعلى مقدار التعلّم, ووافقه نجّار ثانٍ وثالث على نفس الالتزام وهكذا... واستقرّ الأمر على هذا النحو إلى أن أخذ المتعلّمون وأصحاب الحرف يطبّقونه على أنّه إلزاميّ.وفي مجال القانون العامّ, يقول السيّد تروبير إن الأعراف تنشأ بطريقتين:
الأولى: بأن تعمد سلطة مخوّلة صلاحيّة القيام بعمل بطرق مختلفة، فتختار طريقة معيّنة باستمرار، وبذا تصبح هذه الطريقة عرفاً. فرئيس الجمهوريّة في الجمهوريّة الثالثة الفرنسيّة, الذي لا يستطيع أن يغامر بتشكيل حكومة لا تحوز على تأييد الغالبيّة البرلمانيّة فيحجب البرلمان عنها الثقة ويسقطها، اختار الطريقة الأسلم، فاخذ يعتمد على استشارة أعضاء البرلمان ليقف على آرائهم ثمّ يكلّف من ترضى عنه غالبيّة البرلمانيّين ليشكّل الحكومة نيابة عنه. وهكذا نشأ عرف إجراء الاستشارات وتكليف شخص على أساس ما تسفر عنه.
الثانية: أن تفسّر سلطة ما نصّاً, يخوّلها صلاحيّة ما, ويحتمل تفسيرات عدّة, فتعطيه التفسير نفسه باستمرار، فتختفي كلّ معاني النصّ الأخرى ويبقى المعنى المطبّق باستمرار, ويتحوّل إلى عرف.
ضرورة العرف:
كانت القوانين عرفيّة في الغالب. إلاّ أنّه بدأ تدوينها أوائل القرن التاسع عشر على نحو عامّ- قوانين نابليون- لكن برغم التدوين, كانت تنشأ أعراف على هامش النصوص. لتفسّر نصّاً غامضاً أو لتسدّ نقصاً، وهكذا فنكاد لا نجد اليوم قانوناً إلاّ ونجد أعرافاً تصاحبه.
صلاحيّة العرف:
يمكن أن نعدّ العرف صالحاً لأنّه ممارس, لا عن طريق فرضه من سلطة ما، لكن لأنّه معمول به من قبل المعنيّين به لاقتناعهم بضرورته وبإلزاميّته. إلاّ أنّ كلسن يؤسّس صلاحيّة العرف على القاعدة الأساسيّة؟ التي يؤسّس عليها صلاحيّة كلّ النظام القانونيّ. إلاّ أنّ النقد الموجّه إلى القاعدة الأساسيّة، والذي ذكرنا بعضه سابقاً، بوجّه أيضاً في هذه الحالة.
أمّا المدارس الأخرى، فتردّ صلاحيّة القاعدة، كلّ بحسب مرجعيّاتها: إلى انسجامها مع المعطيات الاجتماعيّة الاقتصاديّة أو التاريخيّة، أو إلى موافقتها لروح العدالة...ونحن نرى أن صلاحيّة العرف، يمكن فهمها إذا رجعنا إلى طريقة تكوّنه، فإذا كان أساسه صلاحيّات أعطيت إلى سلطات معيّنة ومورست باستمرار بشكل محدّد، فصلاحيّتها من صلاحيّة تلك الصلاحيّات.
وإذا كان العرف أصلاً اتّفاقاً صريحاً أو ضمنيّاً، جرى التعامل معه على أنّه إلزاميّ، فصلاحيّته من صلاحيّة الحالة العقديّة، أي أنّها تعود إلى إرادة الذين التزموا به في بداياته.
الاجتهاد:
هو قرارات المحاكم. والسؤال المطروح بخصوصه هو: إذا كان تطبيقاً لما يعدّ القواعد الواردة في النصّ أو العرف أو المبادئ العامّة للقانون، على حالات فرديّة، فكيف يكون مصدراً للقانون؟
إنّ الاجتهاد وهو قرارات تصدر عن المحاكم، لكن يعود إليها القضاة ورجال القانون عامّة للتفسير، لذلك نرى الاهتمام بمجموعات الاجتهاد. ثمّ أنّ الاجتهاد يسير في هذه المسألة أو تلك على نهج معيّن, ثمّ قد يتمّ تحوّله بعد مدّة من الزمن، فيرسو اجتهاد جديد تسير المحاكم على هديه، فهذا الاجتهاد المفصليّ يكون مولّداً للقانون في الحالات المتعدّدة التي يطبّق فيها.
ومن ناحية ثالثة فإنّ القاضي, عندما يفسّر نصّاً، وكما ترى نظريّة "التفسير" التي نظّر لها العلاّمة تروبير، يخلق قواعد عدّة في كلّ قرار.فالقاضي ملزم بتعليل حكمه، وفي هذا التعليل يلجأ إلى تفسير قواعد من مستويات مختلفة.فهو يطبّق القانون على الحالات الواقعيّة، فيفسّر القانون: إذاً يخلق قواعد بمستوى تشريعيّ. وقد يطبّق المرسوم، فيخلق قواعد من مستوى المرسوم: المستوى اللائحيّ.وقد يفسّر الدستور، فيخلق قواعد من مستوى دستوريّ...أمّا الطريقة التي يعمل بها القاضي فيرى الفقه أنّها طريقة القياس المنطقيّ.
هذا ومن المعروف أنّ الاجتهاد ابتكر أو اقتبس قواعد عديدة في القانون الإداريّ. أما في القان ن المدنيّ الفرنسيّ فقد وضع نظريّة المخاطر, التي تقضي بأنّ من يضع جهازاً خطيراً في مكان معرّض للجمهور عليه أن يتحمّل المسؤولية في ما يحدثه من أضرار, وفي هذه الحالة ينقلب عبء الاثبات فيصبح البيّنة على المدّعى عليه, بدلاً من أن تكون على المدّعي, وقد أُخذ بهذه النظريّة في البلدان الأخرى.
التراتبيّة:
من المسلّم به أن القواعد القانونيّة ليست من مرتبة واحدة، بل هي تتّخذ شكل الهرم, في أعلاه الدستور وفي أسفله العمل التنفيذيّ, كإلقاء الشرطة القبض على إنسان مخالف أو مطلوب.
إلا أن هذا الموقف الرسميّ بحاجة إلى نقاش.فالمبدأ هو أن القاعدة العليا تتحكّم بالقاعدة الدنيا, أمّا السموّ فيتمثّل:
بوجود قاعدة تسمح لجهاز معيّن بأن يضع قواعد معيّنة، فتكون القاعدة المخوِّلة أسمى من الصادرة نتيجة التخويل، وهذه العلاقة هي العلاقة الديناميكيّة، لأنّها تسمح بوضع قواعد جديدة أصليّة.
بوجود قاعدة يفرض محتواها على جهاز معيّن وضع قواعد لتفصيلها وتفريعها أو لمجرّد تطبيقها. فتكون القاعدة الأولى أسمى من القواعد التي تصدر إنفاذاً لها.
والتراتبيّة هي تراتبيّة قواعد وهي في الوقت نفسه تراتبيّة أجهزة. فالجهاز الذي يضع القاعدة العليا هو جهاز أسمى من الذي يضع القاعدة الأدنى.
والقاعدة تقضي بأنه يجب أن تنسجم القاعدة الدنيا مع القاعدة العليا, أو أن لا تتناقض معها على الأقلّ, وذلك تحت طائلة البطلان.فإذا لم تكن هناك وسيلة لإبطال الدنيا إذا خالفت العليا، فهل يتحقّق سموّ القاعدة العليا واقعيّاً؟
أنّه يبقى أمراً اعتقاديّاً لا أكثر ولا أقّل. والمثال على ذلك أن مؤسّسة مراقبة دستوريّة القوانين لم تكن قائمة، وهي اليوم ليست قائمة في كلّ بلدان العالم، لذلك لا وسيلة لإبطال القوانين التي تصدر مخالفة للدستور. في حين أنّ ما دون القانون، المرسوم، القرار، يمكن للقاضي الإداريّ إلغاءه في جميع الأنظمة القانونيّة.
إذاً حتّى تضمن التراتبيّة، لا بدّ من وجود جهاز يبطل القاعدة الدنيا عندما تتناقض مع العليا.
نسبيّة التراتبيّة:
هذا أمر يعالجه السيّد تروبير، فيرى أنّه:عندما يصدر جهاز (كالقاضي مثلاً) قراراً ما، فهو ينفّذ قاعدة ويصدر قاعدة، والقاعدة الأولى وضعها جهاز ما والقاعدة الثانية تطبق على جهة ما.فمن حيث المبدأ، القاعدة المخوّلة هي أسمى من المخوّل بها.أمّا الصادرة عن الجهة المنفّذة لها- القاضي كما اشرنا، فهي أسمى من الجهة التي ستطبّق عليها, ونتيجة لذلك فالجهاز الذي وضع القاعدة المخوّلة أسمى من القاضي في هذه الحالة المحدّدة، والقاضي أسمى من الجهة التي سيطبّق عليها قراره.
فإذا طبّق القاضي قاعدة دستوريّة على نصّ تشريعيّ, فالقاعدة الدستوريّة تكون أسمى من قراره, والقانون أدنى من قراره، وبذا يكون قراراه في مرتبة فوق التشريعيّة وتحت الدستوريّة. وإذا طبّق القاضي قاعدة تشريعيّة لإلغاء مرسوم حكوميّ، يكون قراراه أسمى من المرسوم وأدنى من القانون.وإذا طبّق قاعدة من مستوى مرسوم على قرار إداريّ، فيكون قرار القاضي أسمى من القرار الإداريّ وأدنى من المرسوم.
وهكذا نرى أن القرار القضائيّ، أو التنفيذيّ على نحو عامّ, يخلق عدداً من القواعد الحقوقيّة حسبما تناوله في تعليله. كما يخلق بقراراته قواعد من مستويات مختلفة بحسب ما يكون استخدم من القواعد: الدستور لإبطال قانون أو القانون لإبطال مرسوم أو المرسوم لإبطال قرار.