مصر هي الدولة العربية الوحيدة ضمن مجموعة القبائل العربية التي عاشت وتعيش تحت مسميات سياسية مختلفة من ممالك وإمارات ومشيخات ودويلات ....إلخ. والدولة المصرية بحجمها وبجذورها الضاربة في التاريخ وتـَجَانس مُجْـتـَمَعِها جَعَلا منها الدولة العربية المحورية الأهم وجعلا من تقسيمها أمراً مستحيلاً . وإستحالة خيار التقسيم دفع أعداء الأمة إلى العمل على خلق بدائل له مثل الإضعاف ثم القضم . إن سياسة القضم كبديل للتقسيم تعطي مفهوم الإعتداء على قدسية الوطن ووحدة أراضيه شرعية تنقل ذلك الإعتداء من خانة المحرﱠمات إلى خانة المُمْـكِنات.
إضعاف الدولة المصرية ثم تفتيتها كانا هدفاً دائماً للصهيونية وإسرائيل . فمصر العربية القوية كانت بإستمرار العقبة أمام الأطماع الصهيونية ، والعمل على إضعافها أو خلق الظروف التي تؤدي إلى ذلك كانا في صلب التفكير الإستراتيجي الصهيوني طوال الوقت إلى أن قـَدﱠم السادات البديل المتمثل في سحب مصر من حلبة الصراع العربي – الإسرائيلي وتوقيع معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل . ولكن ذلك لم يكن كافياً بالنسبة لإسرائيل التي إستمرت في العمل على إضعاف مصر ومحاولة تقسيمها كون نظرتها لمصر كعدو لم تتغير بفعل معاهدة السلام . وأهم تلك المحاولات كانت تتمثل في مخطط تشجيع ومساعدة أثيوبيا على بناء سد النهضة والمساهمة مع دول عربية نفطية في تمويله بهدف تقليل حصة مصر من مياه نهر النيل وتعطيشها وتحويل المزيد من أراضيها إلى أراضٍ قاحلة . فإنسحاب مصر من أفريقيا الذي جعل ذلك المخطط ممكناً والذي أخذ مداه الأكبر خلال حكم حسني مبارك قـَاَبلَه هجمة إسرائيلية شرسه تهدف لإعادة بناء النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا بعد أن قضى عبد الناصر عليه وجعل من أفريقيا حليفاً للقضايا العربية .
الخطوات التنفيذية الأخيرة على طريق محاولة تقسيم مصر إبتدأت مع تولي الإخوان المسلمين الحكم في مصر وإبتداء عملية تغيير هوية مصر من العروبة إلى الإسلام . فالإسلاميون لا يعترفون بالوطنية السياسية وهويتها وهم بالتالي لا يحترمون السيادة الوطنية من منطلق أن "أرض الإسلام للمسلمين" مقاربة مع القول السائد بأن "أرض مصر للمصريين" . وهكذا إبتدأ السماح بإستباحة أرض سيناء المصرية في عهد الأخوان المسلمين ليس من منطلق الخيانة بقدر ما كان من منطلق إيمانهم العقائدي كما أسلفنا . ولكن ذلك تـَنـَاقـَضَ بشكل كبير مع القـَسَمْ الدستوري بحماية وِحـْدة أراضِيِ مِصِر مما جعل ذلك الفعل سياسياً وعملياً أقرب إلى الخيانة في نظر الكثيرين ، خصوصاً أن الإخوان المسلمين لم يعلنوا في برنامجهم الإنتخابي عن نواياهم تلك . وهكذا إبتدأ برنامج الأسلمة في سيناء من خلال السماح لكل ما هب ودب من المسلمين أن يستعمروا أجزاء من صحراء سيناء وأن يحولوها بالنتيجة إلى مُـجَمَّع للإرهاب الإسلامي الدولي ونقطة الإنطلاق لتدمير إستقرار مصر . وهذا قد يفسر الرغبة الأمريكية الواضحة في بقاء نظام محمد مرسي في حينه .
الإنفلات الأمني في صحراء سيناء المصرية وسيطرة العديد من التنظيمات الإسلامية المسلحة على أجزاء مختلفة منها كان دائماً مصدراً للتساؤل عمن يكون له مصلحة في ذلك ؟ تسليم سيناء المصرية للإرهاب الديني العالمي لم تكن مصادفة أو أمراً منعزلاً عن مجرى الأمور في المنطقة . ومع أن بدايات الأمور إرتبطت بحقبة الحكم الإخواني لمصر ، إلا أنها لم تقف عند ذلك .
من الواضح أن فشل الحل العسكري في سيناء في القضاء الحاسم على التنظيمات الإسلامية الجهادية الأصولية قد وضع الجميع أمام مأزق خصوصاً مصر والسعودية . وأصبح الحل التنموي بالتالي هو الخيار المُرافـِق للحل العسكري كوسيلة للقضاء على التنظيمات الجهادية التي إستوطنت سيناء .
لا أحد يريد بيان الأسباب لضرورة التنازل عن السيادة على جزيرتي تيران وصنافير للسعودية في هذا الوقت تحديداً وفيما إذا كان ذلك تمهيداً للولوج في مخطط جديد لتنمية سيناء وخلق ممر بري يربط آسيا وأفريقيا أو إذا ما كان تمهيداً لمعادلة إقليمية جديدة . ولكن حَقـِيـقـَةَ أن الإسرائيليين قد تمت إستشارتهم مبكراً وأُخذت موافقتهم يعني أن وراء الأكمة ما ورائها. والحصول على موافقة الإسرائيليين المبكرة على موضوع غير عاجل مثل التنازل عن السيادة على تلك الجزيرتين تم تبريرها بإعتبار أن ذلك التنازل سوف يُخـِلّْ بتعهدات والتزامات كامب ديفيد . وبحديث آخر فإن هذا التفسير/التبرير يهدف في الحقيقة إلى فتح الطريق أمام السعودية للدخول في علاقة تعاقدية مع إسرائيل تكون شبيهة بكامب ديفيد يتم من خلالها إستبدال الطرف المصري بالطرف السعودي وتكون السعودية قد حصلت بذلك على الفتوى التي تبرر سلاماً مُعْلـَناً بينها وبين إسرائيل وتكون إسرائيل قد حصلت على العذر لمطالبة السعودية بالتوقيع على إتفاقية سلام .
إن الجسر البري المزمع إقامته فوق تلك الجزر هو جسر إستراتيجي يعتمد في بقاءه وإستمراريته وفعاليته على رضى إسرائيل وقبولها . ومن هنا ، فإن المشروع برمته قد يكون مدخلاً جديداً لعلاقة سلام تربط إسرائيل ومصر والسعودية والأردن وتصبح المنطقة بذلك مهيأة لتكون نواة لحلف جديد ضد إيران تتحول بموجبه إسرائيل من عدو ودولة غاصبة لأرض فلسطين إلى حليف إستراتيجي في معركة السعودية ضد إيران لقيادة العالم الإسلامي السني و إسرائيل لحمايته من التفوق العسكري الإيراني .
ماهي الفائدة لدولة مثل السعودية في مطالبة دولة عربية قائدة مثل مصر بالسيادة على أراضي قد تـُرْغـِمْ السعودية على إقامة علاقة سلام مع إسرائيل ؟ ولماذا الآن ؟ ما هي قيمة وأهمية العامل الزمني في إختيار هذا الوقت بالذات للمطالبة بهذه الجزر ؟ وهل القرار العربي بالطلب والقبول السريعين قراراً عربياً مستقلاً أم هو إستجابة لرغبات وضغوط خارجية . وحتى لو كانت مطالبة السعودية بجزر تيران وصنافير صحيحة ، فما هي المصلحة من المطالبة بتلك السيادة الآن إذا كان الثمن السلام والتطبيع مع إسرائيل اللهم إلا إذا كان الهدف الحقيقي هو فعلاً السلام مع إسرائيل أكثر من السيادة على تلك الجزر ؟ ولماذا قرر السودان أيضاً أن يفتح الآن ملف "حلايب" ويطالب بنقلها من السيادة المصرية إلى السودانية ؟ هل التوقيت صدفة أم أنه يجئ في سياق أمور مخطط لها ؟ أسئلة هامة والإجابة عليها قد يشكل مدخلاً لفهم وإستيعاب ما يجري .
من الخطأ التعامل مع مشاكل المنطقة بشكل منفصل وبإعتبارها غير مترابطة مع بعضها البعض . وعدم الربط هذا قد يؤدي إلى التوصل لنتائج خاطئة . وإسرائيل التي تسعى إلى تفتيت العالم العربي وتفسيخ دوله تتعامل معه كوحدة واحدة فقط بإعتباره عدواً لها وبخلاف ذلك تتعامل معه بالقطعة . وحالة العداء هذه هي أمر إستراتيجي وليس سياسي بالنسبة لإسرائيل التي تعتبر السلام محطة على طريق الإنتصار الإسرائيلي والوصول إلى الأهداف الصهيونية المنشوده وليس هدفاً أو وسيلة لحل مشاكل المنطقة وللوصول إلى تسوية ما للصراع مع الفلسطينيين والعرب .
الطريق التي تسير بها الأمور الإسرائيلية والعربية والسلطوية الفلسطينية تشير إلى أن إسرائيل في طريقها لأن تصبح القوة الإقليمية الأهم في قيادة السنة العرب وفي حماية وضعهم الإقليمي خصوصاً وأنهم قـَبـِلوا من خلال الأنظمة الحاكمة بتقليص مـَطـَالِبـِهمْ وتحويلها إلى فـُتـَاتٍ تقبل القسمة على أي شئ حتى التحالف مع الأعداء بعد أن تم القبول بمبدأ التلاعب بالثوابت والأولويات بإعتبارهما أمراً ثانوياً لا يحظى بأي قـُدْسِيـَّة أو إحترام .
إن بناء علاقة إستراتيجية بين السنة العرب وإسرائيل في ظل حالة الضعف العربي العام خصوصاً في أوساط الدول العربية المؤهلة لقيادة المعسكر العربي السني يتطلب من وجهة النظر الإسرائيلية مزيداً من الأضعاف لتلك الدول المؤهلة بشكل طبيعي لقيادة ذلك المعسكر حتى يصبح الدور الإسرائيلي أكثر أهمية وبروزاً . ومصر هي الدولة العربية الأهم ذات الأغلبية السنية الواضحة وهي بذلك تكون مستهدفة بشكل أساسي من إسرائيل وحلفائها . ولكن بما أن محاولات تقسيم مصر لم يُكتب لها النجاح فإن المحاولات الإسرائيلية المتكررة لتقديم بدائل هي التي تدفع إلى القلق ومحاولات فهم وإستيعاب أبعاد بعض القرارات التي قد تصب في النهاية في صالح إسرائيل .
إن إنتقال السيادة على أي أرض عربية من دولة عربية إلى أخرى قد لا تكون مشكلة من منطلق أن "بلاد العرب أوطاني" مقارنة بالطرح الإسلامي "أرض الإسلام للمسلمين" . المشكلة الحقيقية في هذه الحالة تكمن في عواقب ذلك الإنتقال وفيما إذا كانت ستؤدي إلى تطورات سلبية أو تـُهَئْ لها أو تسهل أمورها . فالمنطقة قيد الحديث هي جزر تيران وصنافير القابعتين على عنق البحر الأحمر . ولو لم تحتل إسرائيل موقع أم الرشراش الذي أصبح يعرف فيما بعد بمدينة "إيلات" لما كان لهذه الجزر أو المضائق أي قيمة إستراتيجية أو دولية كونها تقع على عنق البحر الأحمر المطل على ثلاثة دول عربية شقيقة .
إتفاقية كامب ديفيد تعترف بالسيادة المصرية على هذه المضائق والجزر . ولكن يبقى السؤال فيما إذا كانت هذه الجزر حقيقة سعودية ؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا الإصرار السعودي على إستعادة السيادة عليها الآن خصوصاً وأنه من المستبعد أن تدخل قوات سعودية إليها ؟ ولماذا القبول المصري السهل بحدوث ذلك التنازل عن السيادة ؟ هل كانت مصر مستعجلة للخلاص من هذا الوضع الدقـيـق أو هذا الحمل الثقـيل ؟ أم أن هنالك مخططاً سعودياً لخلق الظروف التي ستؤدي إلى حالة سلام بينها وبين إسرائيل خصوصاً في ظل وجود خط تماس جديد بين السعودية وإسرائيل في المضائق والجزر التي أصبحت سعودية ! أم أن هنالك ضغوطاً خارجية تـُطالب كلا من مصر والسعودية بفعل ذلك ؟
وأخيراً يبدو أن هنالك ثقة سعودية متزايدة بإسرائيل وإستعداداً للتحالف معها ضد إيران في الصراع حول النفوذ الإسلامي والإقليمي في المنطقة. ولكن هل يعقل أن يكون مثل هذا المخطط صائباً في ظل عداء إسرائيل الإستراتيجي والدائم للعرب ؟