منذ 1948 تشنّ "اسرائيل" حرباً متواصلة على الشعب الفلسطيني . آخر فصولها حرب إبادة وتهجير ضد الفلسطينيين في قطاع غزة ، وها هي اليوم تمدد بشكل هجمة تقتيل وترحيل للفلسطينيين سكان المخيمات في طولكرم وجنين ونابلس وطوباس وقلنديا والخليل بالضفة الغربية . ويبدو ان حكومة نتنياهو الفاشية في صدد تعميم هجمتها الضارية على سائر مناطق الضفة بلا هوادة .
لا ردة فعل رادعة في عالم العرب ولا في عالم الغرب الأطلسي . العرب من أهل السلطة منشغلون عن فلسطين بهموم ومشاكل أقطارهم او منتظرون موقف صديقتهم ، الولايات المتحدة ، التي إعتادت ان تكرر امام العالم معزوفة واحدة : حق "اسرائيل" بالدفاع عن نفسها .
في المقابل ، تبدو "اسرائيل" عالقة في حمأة أزمة سياسية وإقتصادية وإجتماعية تهدد إنعكاساتها كيان الإحتلال بالتفكك . لعل أفضل مَن يعبّر عن أبعاد هذه الأزمة وخطورتها هم الإسرائيليون انفسهم . واحد من هؤلاء ، عوفر شيلح ، باحث رفيع في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي ، يقول (وفق موقع ,N 12 26/8/2024) "إن الضرر الحقيقي والمستمر سببه ان رئيس الوزراء (بنيامين نتنياهو) له مصلحة واضحة في إستمرار الحرب ، وحكومته تتعامل بفظاظة ، ويهدّد بعض إعضائها بتفكيكها اذا ما تمّ التوصل الى أيّ حل ديبلوماسي ، في الوقت الذي تُظهر المؤسسة الأمنية ضيق أفقها ، وعندما ادركت هذه المؤسسة ذلك ، لم تملك ما يكفي من الشجاعة لإبداء رأيها بصراحة وهو ان "اسرائيل" تواصل التحرك من عملية تكتيكية الى اخرى ، وتخاطر بوقوع عواقب غير مرغوب فيها ، وتفقد الموارد ( على غرار شرعيتها وكفاءتها العسكرية) ، والمهم أنها لا تتقدم نحو أيّ هدف . صحيح أن محور المقاومة يتكبّد خسائر ، لكنه يعزّز موقفه إستراتيجياً . والأهم ان جنودنا يسقطون صرعى ، وسكان الشمال يفقدون الأمل ، وما تبقّى من أسرى على قيد الحياة يواصلون التعفّن في الأسر".
نعم ، أطراف محور المقاومة وحدهم يندّدون ويهدّدون ويتجهون الى مزيدٍ من تفعيل جبهات الإسناد . لكن ، هل هذا يكفي ؟
ثمة ظروف إستثنائية تكتنف معظم دول العالم في الوقت الحاضر ، وهي تنطوي على تحوّلات ستنعكس علينا عاجلاً او آجلاً ، فهل نبقى متفرجين او غير معنيين ؟
العرب كلهم مطالّبون بأن يعوا ما يحيق بهم من أخطار ، لكن المعنيين أكثر من غيرهم ، أي أطراف محور المقاومة ، مدعوون الى المبادرة لإعادة تقييم الظروف الإستثنائية الراهنة بغية الخروج بإستراتيجيا متكاملة لمواجهة تحديات الحاضر كما تلك الماثلة او التي تلوح في المستقبل القريب أو البعيد .
من اين نبدأ ؟
نبدأ بتحديد الواقعات والمعطيات ، ولعل اهمها خمس :
أولاها ان كل فلسطين ، من نهرها الى بحرها ، باتت تحت الإحتلال الإسرائيلي.
ثانيتها ان كل اتفاقات اوسلو قد سقطت ولا مفاعيل لها قانونية او عملية .
ثالثتها ان لا وجود مؤثراً لدولة فلسطين في رام الله ، ولا وجود حتّى لحكمٍ ذاتي تمارسه "سلطة" محمود عباس.
رابعتها ان مستعمرات (مستوطنات) صهيونية باتت قائمة ومتجذرة في معظم مناطق فلسطين ، وان حملة توسيع الإستيطان ناشطة الآن بدعمٍ سافر من حكومة نتنياهو وصمت لافت من دول الغرب .
خامستها ان الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) أصدر قانوناً يقضي برفض اقامة دولة فلسطينية ، وما لبث ان اصدر قانوناً آخر يقضي بالإحتفاظ بوجود عسكري اسرائيلي في منطقة فيلادلفيا على الحدود بين فلسطين ومصر ما يشير الى تمسّك "اسرائيل" بإستمرار إحتلالها لقطاع غزة .
سادستها ان الولايات المتحدة تدعم "اسرائيل" مباشرةً او مداورةً في تنفيذ مخططها التوسعي وذلك في إطار دعوة ملغومة تسميها حق "اسرائيل" في الدفاع عن نفسها .
أرى ان قيام أطراف محور المقاومة بإعادة تقييم الظروف الإستثنائية المستجدة سيقودها ، على الأرجح ، الى تطوير إستراتيجيتها بإتجاه ثلاث مهام عملانية :
الاولى ، الإنتقال تدريجياً بجبهات الإسناد الحاليّة من مستوى المساندة الى رفعة المشاركة في جهاد المقاومة الفلسطينية ما يؤدي الى تصعيد حرب الإستنزاف في عمق فلسطين واستهداف مواقع عسكرية وإقتصادية بالغة الأهمية .
الثانية ، قيام ايران بتعزيز تسليح تنظيمات المقاومة العراقية بصواريخ باليستية متطورة وقادرة على إلحاق أضرار فادحة بالمرافق الإقتصادية الإسرائيلية الكبرى لا سيما في منطقة حيفا .
الثالثة ، قيام أنصار الله في اليمن بتوسيع نطاق عملياتهم الحربية ضد البواخر المتجهة الى "اسرائيل" خلال مرورها في البحر الأحمر وبحر العرب وخليج عمان.
الرابعة ، تنظيم حملة شعبية واسعة لمقاطعة منتجات وبضائع دول الغرب الأطلسي الداعمة لكيان الإحتلال والمعادية لحق الشعب الفلسطيني بتحرير وطنه السليب والعودة اليه .
الخامسة ، التعاون مع مختلف الهيئات العربية السياسية والشعبية لتنظيم حملة واسعة هدفها تثوير الجماهير العربية وتوعيتها بما يحيق بها من مخاطر وتحديات وتعبئتها للضغط على الدول العربية والإسلامية بغية التخلّص من القواعد والقوات العسكرية الاميركية التي ما زالت جاثمة في مناطق تحتوي مرافق ومؤسسات اقتصادية واستراتيجية بالغة الأهمية .
في سياق العمل الدؤوب لإنجاز هذه المهام العملانية والإستراتيجية يجب إيلاء الإعلام والثقافة الإهتمام والعناية اللازمين وذلك بالنظر الى الدور المركزي الذي تلعبه وسائل التواصل الإجتماعي والسياسي في حياتنا المعاصرة . ولعلني لا أغالي في القول إن الجهد الإعلامي والثقافي لا يقلّ أهمية ًعن الجهاد القتالي . فالكلمة الصادقة والمترعة بالقيم والمعاني والمطامح الاخلاقية والوطنية تشكّل حافزاً حاراً للمجاهدين لبذل المزيد من العمل والنضال بغية تحقيق الأهداف العليا .