فشلت إدارة الرئيس الأميركي "جو بايدن" في مساعيها وضغوطها التي مارستها خلال الأشهر الأخيرة لتطويع رئيس الوزراء الصهيوني "بنيامين نتنياهو" والدفع به للتوصل إلى صفقة لوقف إطلاق النار في غزة بعدما نجح الأخير في التملّص من كلّ تلك المحاولات والضغوط عبر التسويف والمراوغة السياسية ومواجهة تلك الضغوط بضغوط معاكسة، سواء عبر اللوبي اليهودي في واشنطن أو من خلال التحالف مع اليمين الأميركي المتمثل بالجمهوريين، مستغلاً حالة الاضطراب التي أصابت الحزب الديمقراطي، والتي انتهت بإعلان الرئيس بايدن تنحيه عن السباق الرئاسي وتسمية نائبته "كامالا هاريس" كمرشح إنقاذي بديل للحزب، وما رافق تلك الأحداث من انقسام حاد في المجتمع الأميركي.
بمعنى آخر، فإنّ فشل إدارة بايدن في استراتيجيتها لوقف إطلاق النار وتمرير التطبيع السعودي-الإسرائيلي يعني بالضرورة أن نتنياهو نجح في خطته المعاكسة في تطويع إدارة بايدن التي وجدت نفسها مضطرةً، وبفعل العامل الانتخابي، إلى تظهير المزيد من الدعم اللامحدود للكيان الإسرائيلي، في محاولة منها لتعويض خسائرها السياسية والانتخابية وترميم الصدع داخل الحزب الديمقراطي، وهو ما نتجت منه بالضرورة العودة إلى المربع الأول من الصراع في الشرق الأوسط، والذي تمت ترجمته من خلال حالة التصعيد الشامل الذي قام به الكيان الإسرائيلي بالتنسيق مع الولايات المتحدة خلال وبعيد الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الصهيوني "نتنياهو" إلى واشنطن، والتي شكّلت دليلاً واضحاً على هذا التحوّل من خلال الدعم المطلق الذي حصل عليه خلالها من قبل الجمهوريين والديمقراطيين معاً.
بدأت خطة التصعيد الأميركية-الإسرائيلية من المجزرة التي ارتكبها الكيان الصهيوني في مجدل شمس في الجولان السوري المحتل خلال وجود نتنياهو في واشنطن، وأريد لهذه المجزرة أن تكون منطلقاً وسبباً تضليلياً للانتقال إلى الخطوة اللاحقة التي تمثلت بالعدوان على الضاحية الجنوبية في بيروت واغتيال القائد العسكري البارز في حزب الله "الشهيد فؤاد شكر"، ثم تبع ذلك الاعتداء على قوات الحشد الشعبي في جرف النصر العراقية قبل أن ينال الغدر الإسرائيلي من رئيس المكتب السياسي لحركة حماس "إسماعيل هنية" خلال وجوده في طهران بعيد حضوره مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد "مسعود بزشكيان".
الأهداف الأميركية الإسرائيلية من التصعيد الشامل؟
عند تحليل الأهداف والغايات التي سعت واشنطن وتل أبيب لتحقيقها من هذا التصعيد الشامل، فإنه لا بدّ من التأكيد على التناغم الاستراتيجي والتباين التكتيكي بين الجانبين حول ذلك.
يمكن إرجاع الأهداف التكتيكية إلى أسباب داخلية وسياسية بشكل رئيسي، إذ تعتقد إدارة بايدن الديمقراطية أن ذلك سيسهم في تعزيز حظوظ الديمقراطيين في السباق الرئاسي والحصول على المزيد من تبرعات كبار المانحين اليهود المؤيدين لإسرائيل. وعلى الصعيد السياسي، سيسهم ذلك في إعادة ترميم هيبة واشنطن في نظر حلفائها الإقليمين في الشرق الأوسط. أما الكيان الإسرائيلي، فإن نتنياهو الباحث عن صورة إنجاز ما بعد سلسلة الهزائم والفشل التي مني بها منذ انطلاقة طوفان الأقصى يرى في تلك الاغتيالات ما يرضي هوسه الإجرامي الذي يمكنه من تسويق وتعويم نفسه داخلياً على حساب خصومه في المعارضة، وحتى شركائه في الحكومة، في ظل الخلافات والانقسامات التي تعصف بالجبهة الداخلية للكيان الصهيوني.
أما الأهداف الاستراتيجية التي يتفق عليها الطرفان الأميركي والإسرائيلي، فيمكن اختصارها بهدفين رئيسيين:
الهدف الأول: يتعلق بإعادة الانتشار والتموضع العسكري الأميركي في المنطقة وفي الدول الحليفة لواشنطن، وضخ المزيد من السلاح النوعي للكيان الصهيوني تحت ذريعة التهويل من حرب شاملة في المنطقة في محاولة لاستعادة السيطرة والنفوذ المتآكل، وفي ظل الاختراق الذي شهدته المنطقة من قبل خصوم الولايات المتحدة، وتحديداً الصين وروسيا وإيران، وفي ظل استمرار محور المقاومة في حرب الاستنزاف وتثبيته قواعد اشتباك ومعادلات ردع جديدة.
الهدف الثاني: يتعلق بحالة الانسداد الحاصل بوجه واشنطن و"تل أبيب" في السياسة والميدان والفشل في الوصول إلى مخرج يعيد إلى "إسرائيل" صورة الردع، ولواشنطن هيبتها المتآكلة إقليمياً ودولياً، فعلى مدى 300 يوم حاولوا بالسياسة والميدان، وبالاغتيالات والاعتداءات، وبالجرائم والتهديدات، أن يعيدوا عقارب الساعة إلى الوراء، وأن يغيروا نتائج الصراع، وأن يبدلوا قواعد الاشتباك، وأن يعيدوا لإسرائيل شيئاً من قوة الردع المهدورة، وللولايات المتحدة بعضاً من هيبتها المهدورة. وفي كل مرة، كان الرد من محور المقاومة لهم بالمرصاد بحكمة وبأس وثبات، ما يسهم في مراكمة نتائج الانتصار.
لذلك، فإن واشنطن و"تل أبيب" تعتقدان بأن التصعيد الشامل سيدفع بالنهاية إلى حل شامل أو تسوية شاملة أو وقف شامل لإطلاق النار يشكل ملاذاً لهما من حالة الاستنزاف المستمرة، وخروجاً من المأزق العميق، ووقفاً للتدحرج المخزي. وعلى هذا الأساس، وضعت الخطط وجرى التنسيق.
الردّ المنتظر لمحور المقاومة واحتمالات الحرب الشاملة
وبالرغم من شدة الصراع، فإن دقة المرحلة جعلت الصبر والهدوء والحكمة هي السمات التي أظهرها محور المقاومة حتى هذه اللحظة. وربما على عكس ما يتمناه جمهور المحور، فإن قادة المحور لم يتعاملوا بردود الفعل غير المحسوبة التي يمكن أن تحقق للمخطط المعادي أهدافه. وبلا شكّ، فإن المحور اتخذ قراراً بالرد القاسي والمؤلم والمؤثر الذي يرقى إلى مستوى الأحداث.
ولا شك في أن هذا الرد سيحمل طابع الانتقام أولاً، والردع ثانياً، لكن ما هو أهم من كل ذلك هو أن هذا الرد سيكون حكيماً، وسيكون جزءاً من الصراع لا منفصلاً عنه، ويسهم في مراكمة الانتصارات، ويكون منطلقاً لما بعده، بحيث يزيد من عمق المأزق الأميركي الإسرائيلي ويضيق الخناق على الأعداء. بمعنى آخر، في مرحلة ما بعد الرد يجب أن يبقى المحور ما بين الاستمرار في الاستنزاف والاستعداد للانفجار الشامل.
أما لجهة المحور الصهيوأميركي، فعلى الرغم من أجواء التهديد والتحشيد والتهويل من اندلاع حرب شاملة، والتي يحاول إشاعتها على الصعيد السياسي والإعلامي، فإن حالة من الإرباك وعدم اليقين تسيطر على قادة ومؤسسات القرار الأميركيين والإسرائيليين تحسباً من الرد الحتمي لمحور المقاومة وطبيعته وحجمه وجغرافيته وتوقيته، وحتى نتائجه، وتحاول واشنطن وعبر قنوات عدة سياسية وإعلامية مقايضة ذلك الرد بوقف شامل لإطلاق النار على كل الجبهات، وهو ما أشارت إليه مصادر عدة، من بينها صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، غير أن الرغبة الأميركية، ومن خلفها الإسرائيلية، تصطدم بحتمية القرار الإيراني وقرار محور المقاومة بالرد والانتقام وفرض الردع وتفريغ التصعيد الإسرائيلي الأميركي من أهدافه التي سعى لتحقيقها. وبناء عليه، فإن الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي وجدا نفسيهما في مأزق أشد عمقاً مما كانا عليه قبل التصعيد الشامل الأخير.
إن الولايات المتحدة، ومعها الكيان الإسرائيلي، تدركان أن محور المقاومة ما زال يحتفظ بمعظم أوراق القوة في جعبته ولم يزجّ بها في المعركة، لقناعته بأن الصراع قد يتطور في أي مرحلة من مراحله لما هو أوسع، ولإدراكه بأن الاحتفاظ بأوراق القوة يشكل واحداً من عوامل الردع الأكثر أهمية.
وتتنوع أوراق القوة التي يمتلكها محور المقاومة بين الجيوسياسية والجيواقتصادية والعسكرية والتكتيكية والاستراتيجية، ويمكن لنا أن نذكر بعض تلك الأوراق على سبيل المثال لا الحصر، والتي يشكّل بعضها أو كلّها مجتمعةً أسباباً كافية تجعل الأميركي والإسرائيلي يحسبان ألف حساب قبل التفكير في الحرب الشاملة والمفتوحة. ومن تلك الأوراق وعوامل القوة التي يحتفظ بها محور المقاومة، والتي يمكن أن يلجأ إليها:
* إعلان المعركة على الوجود الأميركي في العراق.
* إعلان المعركة على الوجود الأميركي في شرق الفرات.
* إدخال الوجود الأميركي في الأردن على خط الاستهداف.
* العبور إلى الجليل.
* دخول سوريا على خط المواجهة العسكرية المباشر.
* إغلاق شرق المتوسط بوجه الأميركي الإسرائيلي خصوصاً.
* التلويح بامتلاك إيران السلاح النووي، وخصوصاً في حال تعرضها لعدوان خارجي مباشر.
* دخول الصواريخ الفرط صوتية على خط استهداف الأسطول الأميركي.
* قطع إمدادات النفط والغاز نهائياً عن أوروبا من المنطقة.
* الإعلان عن إنشاء فصائل مقاومة جديدة في ميادين جديدة ومناطق جيوسياسية مؤثرة.
في الختام، نقول إن العدو "الأميركي الإسرائيلي" الذي توهّم أن باستطاعته تغيير قواعد الردع سيكتشف قريباً أنه أمام قواعد ردع جديدة بالفعل، لكنها أشد قسوة وأكثر تضييقاً للخناق عليه، وأنه سيكون مجبراً على ابتلاع الرد الحتمي، لأن الخيارات البديلة بالنسبة إليه ستعني بالضرورة انتحاراً جيوسياسياً سينعكس على موقعه في توازنات الصراع الإقليمي أولاً، والعالمي ثانياً.