| في كلّ مرة يظنّ متابعو الشأن السوري ومنه الشأن الإقليمي كله أنّ الأمور تتجه إلى خواتيمها ويوضع حد للعدوان الخارجي على المنطقة وللإجرام الإقليمي الذي تديره السعودية وتركيا بإشراف وقيادة أميركية. في كلّ مرة يتشكّل فيها مثل هذا الظنّ، تعود أميركا وتفاجئ المتابعين بخطة عدوان جديدة أو بانحراف عن تعهّدات أو التزامات سابقة كان يعوّل عليها لتكون جزئيات من الحلّ النهائي لأزمات المنطقة.
فعندما اعتمد القرار 2254 وقبله القرار 2253 وبعده القرار 2268، القرارات المتعلقة بالأزمة السورية على مساريْها السياسي والعسكري، وبعد أن أبدت أميركا والغرب خاصة فرنسا وبريطانيا حماسة لتلك القرارات كان ظنّ بأنّ الطريق فتحت أمام الحلّ في سورية، حلّ يفصل مواجهة الإرهاب والإرهابيين عن السياسة والتسوية السياسية التي تحفظ لسورية وحدتها الحقيقية وللشعب السوري قراره المستقلّ وسيادته الفعلية.
لكن التطبيق والميدان كذّب هذه الظنون، حيث قامت أميركا وكعادتها بالانقلاب على جوهر تلك القرارات بشكل يشي بأنّ العدوان الذي تقوده سيستمرّ وفقاً لخطة جديدة معقدة ومركبة فيها من الخبث والدهاء ما يفوق خطورة الخطط الأربع السابقة التي نفّذتها أميركا في الميدان السوري بدءاً بخطة «الإخوان» وانتهاء بخطة حرب الاستنزاف.
ومظهر الخبث والخطورة في الخطة الجديدة يتجلى في كونها تستند ظاهراً إلى قرارات مجلس الأمن المنوّه عنها أعلاه وتلتفّ عليها وتنحرف عن روحها وجوهرها، حيث تجلى الخبث والانحراف ذاك في السياسة وما عبّر عنه دي ميستورا في ورقته التي اقترح أن تكون الورقة الخلفية للحوار السوري السوري، وفي العسكر والميدان وما أفصحت عنه أميركا من نيتها وبدأت بالفعل- تزويد المسلحين الذي يقاتلون الحكومة السورية وينتهكون الأمن السوري، تزويدهم بأحدث الأسلحة وأفعلها من أجل منع الجيش العربي السوري من متابعة حربه الدفاعية ضدّ الإرهاب، واستعادة المناطق التي خرجت عن سيطرة الدولة إلى كنف الشرعية القائمة.
فعلى صعيد ورقة دي ميستورا نجد أنّ جوهرها يتطابق إلى حدّ بعيد مع شروط وزير خارجية أميركا كولن باول التي حملها باسم أميركا إلى الرئيس بشار الأسد في العام 2003، والتي رفضها الرئيس، لأنه وجدها تمسّ بسيادة سورية وحقها الوطني في استعادة وتحرير أرضها، كما وتمس بالتزاماتها القومية والوطنية على حدّ سواء.
واليوم يأتي دي ميستورا ليكرّر الشيء نفسه ويحاول أن يمرّره على أساس أنه خيار السوريين، معوّلاً على تبعية وارتهان الفريق السوري الآخر المفاوض لوفد الحكومة السورية في جنيف. وهو فريق جاهر بصداقته لـ«إسرائيل» ولا يجد غضاضة في التنازل لها عن الجولان أو الخضوع لمطالبها من أيّ نوع كانت. ودي ميستورا الذي يعرف أنّ إسرائيل لا تتنازل ولا تعطي حبة تراب استولت عليها مهما كان الضغط السياسي عليها، وهي لا تتراجع إلا إذا أجبرت على التراجع في الميدان وبالقوة، وما حصل في لبنان والتعامل مع تنفيذ القرار 425 شاهد على ذلك. رفضت إسرائيل الانسحاب بموجبه حتى طردتها المقاومة قسراً من الأرض اللبنانية ومع هذا فإنّ دي ميستورا يرى أن تلتزم سورية باسترجاع الجولان بالسياسة، أيّ بعبارة أخرى أنه يدفع السوريين إلى التنازل عن الجولان لأنّ السياسة مع «إسرائيل» لا تحرّر أرضاً.
أما المسألة الثانية التي كان طلبها كولن باول، فتتعلق باحتضان سورية للمقاومة وإخراجها من أراضيها، وهنا نجد أنّ ورقة دي ميستورا أشدّ وطأة من المطلب الأميركي السابق، حيث تطالب سورية بمحاربة الإرهاب طبعاً بالتوصيف الأميركي ومع دخول أتباع أميركا إلى السلطة التي يعوّلون عليها في ما يسمّونه انتقالاً سياسياً، فسيكون هناك التزام سوري يدفع إليه دي ميستورا بإيحاء أميركي، لإضرام حرب بين سورية والمقاومة التي يعتبرها الفريق الأميركي عدواً له ويصنّفها بلسان أميركي سعودي بأنها إرهاب.
أما المسألة الثالثة، وهي الأخطر وتتصل بشكل سورية الجديدة، حيث إنّ ورقة دي ميستورا تخاطب السوريين بوصفهم تجمّعاً من أديان ومذاهب وقوميات وإثنيات متعدّدة تتعهّد بالمحافظة عليها كما هي، ما يُخفي نية خبيثة بمنع تشكل الشعب الواحد الذي يتساوى فيه الجميع بالمواطنية، وترسي مقولة انتماء الفرد إلى الدولة على درجتين درجة انتمائه إلى الطائفة أو الجماعة، وهي الأساس، ثم درجة انتماء الجماعة إلى الدولة مع المحافظة على خصوصياتها ومنع ذوبانها في شعب تصهره وحدة وطنية، وهذا تطبيق مباشر للمقولة الأميركية بشرق أوسط جديد تعاد صياغته وفقاً للقوميات والإثنيات والأديان والطوائف وتسقط فيه الوحدة الوطنية الجامعة للشعب، وتبعاً لذلك تسقط فيه الدولة الوطنية.
ولأجل ذلك ومن أجل تمرير هذا الشق من الخطة الأميركية تصرّ أميركا على الترويج لفكرة الانتقال السياسي، وترفض الاعتراف بشرعية السلطات الوطنية السورية القائمة، كما ترفض العودة إلى الشعب من أجل إعادة تشكيل السلطة وفقاً لقراره المستقلّ، وهي كما رفضت الانتخابات الرئاسية في العام 2014 ورفضت الاعتراف بما نجم عنها من اختيار شعبي للرئيس الأسد رئيساً للجمهورية، ترفض اليوم الانتخابات النيابية وتطعن بشرعيتها لعلة واهية هي أنّ قسماً من السوريين في المناطق التي يسيطر عليها الإرهابيون لن يشاركوا في الانتخاب. والرفض الأميركي لإعادة تشكيل السلطة بالعودة إلى الشعب مردّه أو قائم على قرار أميركي بإفراغ سورية من سلطات دستورية شرعية تنتجها إرادة شعبية حقيقية ما يسهّل على أميركا بعد ذلك ومن أجل ملء الفراغ وتحت شعار المرحلة الانتقالية، يسهّل على أميركا فرض النظام الذي تريد وتقييد سورية بالدستور الذي تضع، تماماً كما فعلت في العراق بعد احتلاله.
اما في العسكر والميدان، فإنّ الأخطر هو ما تقوم به اميركا في الشمال السوري من تجهيز لفصائل مسلحة وتزويدها بأسلحة حديثة متطورة ضدّ الدروع وأيضاً ضدّ الطائرات، لتمكينها من السيطرة على المنطقة الواقعة بين شمال حلب والحدود التركية وعلى جبهة تمتدّ من جرابلس شرقاً إلى اعزاز غرباً، وتعتبر أميركا أنّ وجود هذه الفصائل في تلك المنطقة ومع التمسك بقرار وقف العمليات القتالية سيحول دون الجيش العربي السوري من دخولها أو مواجهة تلك الفصائل المنتقاة التي لم توصف بالإرهابية والتي وافقت على قرار وقف الأعمال القتالية والتي تريدها أميركا في محاربة الإرهاب موازية بل نداً للجيش العربي السوري. الأمر الذي يرضي تركيا ويحقق لها رغبة طالما سعت إليها وهي إقامة منطقة على حدودها تصل إلى حلب يحظّر على الجيش العربي السوري دخولها.
هذه هي الخطة الأميركية الجديدة والتي تعتبر الخامسة في سياق العدوان على سورية والمنطقة، وهي خطة كما يبدو من سياقها أكثر خبثاً وخداعاً من كلّ ما مضى وما سقط من خطط، ورغم الثقة الكاملة بأنّ هذه الخطة لن تلقى مصيراً أفضل من سابقتها، فإننا وبموضوعية نرى أنّ خطرها كبير لدرجة لا يسمح معه بالاستهانة بها، لأنّ أيّ تساهل في شأنها أو شأن أيّ جزئية منها قد يفتح الباب أمام اندفاع أميركا لحرمان سورية وحلفائها من ذاك الكمّ التراكمي من الانتصارات التي تحققت عبر السنوات الخمس، ولا نرى المواجهة الفعلية والحقيقية الناجعة لإسقاط تلك الخطة إلا تلك التي تقوم في السياسة والميدان على حدّ سواء.
من هنا تأتي أهمية الانتخابات النيابية السورية التي جرت بالأمس وأكدت على احترام الدستور وحالت دون أيّ فراغ في السلطة وأهمية التمسك بكلّ تفصيل من أحكام الدستور السوري الذي يرعى تشكيل السلطات وأهمية الموقف السوري بالدخول في حوارات جنيف من غير شروط مسبقة من أيّ جهة أتت، وهنا لا يبقى لما اقترحه دي ميستورا على المتحاورين أيّ أهمية، كذلك أهمية الاستعداد لمعركة حلب الكبرى وخوضها في الوقت المناسب من غير استعجال أو تأخير من أجل إجهاض خطة المنطقة التركية الآمنة.