تجتاح الغرب موجة عطش للتعرف إلى تنظيم «أنصار الله». لا يقتصر الأمر على مهتمين بالمجالين السياسي والعسكري، بل يشمل أكاديميين يُصابون بالإحراج عندما يُسألون عن ماهية هذا التنظيم. الدعايات التي بثّها النظامان السعودي والإماراتي، خلال مرحلة العدوان على اليمن، جرفها «طوفان الأقصى». وسؤال العالم عن «أنصار الله» اليوم يشبه، إلى حد بعيد، سؤال العالم نفسه عن حزب الله نهاية تسعينيات القرن الماضي. انخراط اليمنيين في دعم المقاومة في غزة، واندلاع المواجهة المباشرة بين «أنصار الله» والجيشين الأميركي والبريطاني في البحر، أجبرا أعتى خصوم الحوثيين داخل اليمن على تعديل مواقفهم. صحيح أن هؤلاء لم يغادروا بعد موقع الفريق المعادي للمقاومة، لكن، لم يعد من السهل إقناع قوى وقبائل وجماعات بعينها باستئناف الحرب ضد «أنصار الله».
وكل ما يُعمل عليه اليوم، هو محاولة تجديد القوة العسكرية لمجاميع من المرتزقة، بقيادة طارق صالح من جهة، وقيادات سلفية تديرها السعودية والإمارات من جهة ثانية.
حاجة أصحاب القرار في الغرب لا تقتصر على المعلومات الاستخباراتية التقليدية، بل يريدون التعرف إلى الخلفية الفكرية لهذا الفريق، ومحاولة تلمّس آليات التفكير لدى قيادته، وكيفية اتخاذ القرار. وجاءت أولى الخلاصات من القادة العسكريين المتورطين في الحرب ممن باتوا يطلبون الإذن لاستخدام أسلحة معينة، أو أنهم يحثّون دوائر القرار السياسي في الغرب على سلوك الطريق الدبلوماسي لأن ما يجري الآن لا يعالج المشكلة!
ومع أن إسرائيل تعرف المنطقة أفضل بكثير من الأميركيين، وهي تعرّفت أكثر إلى أبناء اليمن من خلال برامج خاصة ساعد فيها يهود يمنيون ممن هاجروا إلى الكيان خلال العقود الماضية، إلا أنها لا تزال تتصرف على أساس أن «أنصار الله» مجرد تنظيم يعمل بإمرة إيران، وهو ما يناسب سردية العدو حول «التنظيم الوكيل»، وهي السردية نفسها تجاه حماس وحزب الله. وفي اعتقاد العدو أن هذه السردية من شأنها إقناع الغرب بأن العلاج الفعلي يكون بضرب المركز، أي إيران.
وهناك أيضاً حاجة إلى معرفة مواقف أطراف تعرّفت أكثر إلى «أنصار الله» خلال العقد الأخير. والمقصود، هنا، السعودية والإمارات على وجه التحديد، لأن الحرب التي خاضتها الدولتان واستخدمتا فيها كل أنواع الأسلحة، بما في ذلك الحروب الأهلية والقبلية، لم تنتج إلا الخسائر. وهو ما جعل محمد بن سلمان يكلف شقيقه خالد بإدارة عملية التسوية الشاملة مع «أنصار الله». لكن قادة السعودية والإمارات يقرون هذه الأيام بأنهم ليسوا أحراراً في أي خطوة يقدمون عليها تجاه اليمن. وبعضهم يصرّح في جلسات تفاوض، تجري في عواصم إقليمية، بأن الولايات المتحدة لا تسمح لهم بعقد اتفاق لإعلان انتهاء الحرب في اليمن، ولا تقبل أن تنطلق عملية التطبيع في العلاقات بين اليمن ودول الخليج العربية، علماً أن الجانب السعودي هو أقل طرف فوجئ بفشل عمليات واشنطن ولندن تحت عنوان «حارس الازدهار» في البحرين الأحمر والعربي. ويتندّر أحد الوسطاء برواية تقول إنه «عندما قرّر الأميركيون إقامة حلف ضد «أنصار الله»، اجتمعوا مع قيادات سعودية لإقناعها بالدخول في التحالف. لكنّ خالد بن سلمان، بعدما أنهى المندوب الأميركي مداخلته، قال له: خذ مني هذه النصيحة، لا تتورطوا في معركة مع «أنصار الله»، فلن تقدروا عليهم». غير أن المندوب الأميركي ردّ بابتسامة صفراء فيها ما فيها من فوقية، على قاعدة أنه لا يمكن للسعودية أن تقارن نفسها بأميركا، وأن فشل السعودية في القضاء على «أنصار الله» سببه الإدارة السعودية للحرب وليس قدرة «أنصار الله» على الصمود.
والرواية لا تنتهي هنا، بل تتحدث عن اجتماع آخر عُقد بعد فترة، عندما كان الأميركيون يطالبون السعودية بأن تسمح لمدمراتهم بأن ترتاح قليلاً في مرافئها، وهو أمر ترفضه الرياض، بعدما تلقّت تحذيرات واضحة من «أنصار الله» بأن أي خطوة من هذا القبيل، ستواجه بقصف يمني لهذه الموانئ. وخلال هذا الاجتماع، سأل خالد بن سلمان المندوب الأميركي نفسه عن مجريات الحرب، من دون أن ينتظر منه الجواب.
في الواقع، يمكن مراجعة تعليقات صادرة عن القادة الأميركيين الميدانيين الذين يتولون إدارة الحرب ضد «أنصار الله»، وتوصيات قيادتهم المركزية إلى وزارة الدفاع أو البيت الأبيض، وهي كلها تقول باستحالة معالجة الأمر، وبضرورة بدء مساعٍ سياسية لاحتواء الموقف. لكن بين الأميركيين الداعمين لإسرائيل من يعتقد بأنه يجب رفع سقف الضربات الموجّهة إلى «أنصار الله»، ويحث هؤلاء إدارة بايدن على الانتقال إلى مرحلة التصفيات الجسدية لقيادات «أنصار الله». وثمة معطيات جدية حول هذا الأمر، وهو ما دفع صنعاء إلى اتخاذ إجراءات احترازية، علماً أن الفريق الأميركي نفسه يطالب بإعطاء الجيش الإذن باستخدام أسلحة غير تقليدية لمواجهة ترسانة «أنصار الله»، بعدما أيقنت الاستخبارات العسكرية الأميركية والبريطانية بأن لدى «أنصار الله» تحصينات يصعب الوصول إليها من خلال الغارات الجوية. وهم يقصدون هنا المواقع التي حفرها الحوثيون في قلب جبال اليمن خلال السنوات الماضية.
وبينما ينشغل الغرب وإسرائيل في البحث عن وسائل عسكرية وأمنية لضرب «أنصار الله»، يعمل فريق آخر من داخل الإدارة الأميركية، بالتعاون مع السعودية والإمارات على خط الترغيب، إذ تلقّى «أنصار الله» خلال الأشهر القليلة الماضية الكثير من المغريات مقابل وقف حملتهم في البحر، ووقف إسناد غزة. وقال الأميركيون إنهم مستعدون لجعل اليمن كله تحت سلطة الحوثي، وإطلاق برنامج دعم اقتصادي كبير. وأكد السعوديون استعدادهم للسير باتفاقات كبيرة منذ الآن، وأبلغوا «أنصار الله» ما مفاده: قوموا بما ترغبون القيام به، واستخدموا المطار كما تريدون، وسافروا إلى أي وجهة ترغبون، ولن تسمح الرياض بإجراءات تضر المؤسسات المالية والمصرفية اليمنية... قبل أن تبادر الإمارات، بالأمس، إلى زيادة المغريات، وتعرض إعادة إعمار ميناء الحديدة وكثير من المواقع اليمنية إذا وافق «أنصار الله» على وقف الحرب.
ولكون كل هؤلاء يعرفون الجواب، فإن الولايات المتحدة كانت الطرف الأكثر وضوحا بالتهديد: إذا رفضتم العروض، فسنمنع السعودية والإمارات من السير في أي اتفاق معكم، وسنعيد إشعال الحرب الأهلية ضدكم، وسنضربكم بعنف أكبر، وسنقتل قياداتكم!.
لم تتورط السعودية والإمارات في تهديدات مماثلة، لكن الرياض أشارت بوضوح إلى أنها لن تكون قادرة على السير في اتفاق من دون موافقة أميركية، فيما تبرر الإمارات سلوكها في بعض المراكز الحيوية في اليمن بأنه استجابة لضغوط أميركية كبيرة. ويصر الجانبان على إبلاغ الوسطاء في إيران وسلطنة عمان بأنهما ليسا منخرطين في الحرب القائمة الآن، ولكن ليس باليد حيلة، علماً أن الجميع يعرف أن السعودية والإمارات تخشيان جدية توجيه صنعاء ضربات عسكرية قاسية ضد منشآت في البلدين إذا ثبت تورطهما في أي عمل تقوم به الولايات المتحدة، أو حتى في حال قام مرتزقة يمنيون بإشعال الحرب الأهلية من جديد.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى ما هو أخطر بالنسبة إلى الجانبين الأميركي والبريطاني، وحتى الأوروبي، إذ تبيّن أن واشنطن بعثت برسائل عاجلة إلى روسيا، من خلال جهات إقليمية، تحذرها من مغبة تسليم «أنصار الله» أسلحة «كاسرة للتوازن». وهو تحذير يستند إلى معلومات استخباراتية غربية تفيد بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يدرس هذا الخيار كجزء من رده على قرار الولايات المتحدة وأوروبا تزويد أوكرانيا بأسلحة لاستهداف قلب روسيا. ويبدو أن الاستخبارات الغربية تلقّت معطيات عن اتصالات روسية - يمنية قد يكون هذا هو الهدف منها.
وفي هذه النقطة، يعود القلق من جديد، ليس إلى الأميركيين فقط، بل إلى الإسرائيليين انفسهم، حيال القدرات العسكرية الموجودة لدى «أنصار الله». فإعلان جيش الاحتلال أن المُسيّرة التي انفجرت في أحد أحياء تل أبيب صناعة إيرانية، يبقى إعلاناً في الفضاء الإعلامي. فيما الجهات الفاعلة باتت على يقين بأن الأمر ليس على هذه الصورة، وأكد قائد «أنصار الله» السيد عبد الملك الحوثي أمس أن المُسيّرة صناعة يمنية. مع ذلك، فإن استعلاء الغرب وعجز حلفائه في المنطقة، يجعلانهم لا يصدقون بأن صنعاء باتت تملك القدرات اللازمة لإنتاج هذا النوع من المُسيّرات والصواريخ، بل باتت لديها القدرات الإنتاجية لتطوير كل النماذج المعمول بها عالمياً، سواء الموجودة لدى إيران وحزب الله، أو الموجودة لدى جيوش غربية. والقدرة الإنتاجية هي ثمرة الاستراتيجية الفعّالة التي قادها اللواء قاسم سليماني، عندما قال إن إيران ستقدّم الخبرات العلمية والتقنية، وستساعد قوى محور المقاومة على إقامة المصانع الخاصة بها للإنتاج، وهو أمر تحقق في أكثر من منطقة من مناطق عمل قوى محور المقاومة، علماً أن اليمنيين أظهروا قدرة عالية جداً على التعلم السريع، حتى إن مدربين شاركوا في تقديم دروس علمية لكوادر من «أنصار الله» عبّروا عن دهشتهم من قدرتهم على ابتداع الحلول بما يتلاءم مع الوقائع الميدانية والجغرافية واللوجستية والبشرية في اليمن. كما يعمل خبراء «أنصار الله» وفق قواعد خاصة بهم، ولا يقفون عند أي اعتبار، عندما يعملون على تطوير سلاح معين، سواء بما خصّ المديات أو القوة التدميرية أو هامش المناورة التقني المطلوب.
ومجريات المعارك القائمة بين «أنصار الله» والجيشين الأميركي والبريطاني تظهر قدرة يمنية كبيرة على المناورة، وإيقاع الأعداء في كمائن لا يمكنهم الهروب منها، وتصيبهم بالتوتر، مثل حال قوات الرصد التابعة للبحرية الأميركية التي لا تعرف الإجابة عن سؤال حول مكان تموضع منظومات الرادار الخاصة باليمنيين. ففيما يفترض أن الغارات المكثّفة أجهزت عليها، إلا أنها سرعان ما تعود للظهور في مكان آخر، علماً أن الجانب السعودي كان قد اكتشف في العام الثالث للحرب أن مقاتلي «أنصار الله» نجحوا في إعادة تدوير أسلحة خاصة ضربها العدوان في الأيام الأولى للحرب، وأظهروا قدرة على جعلها أسلحة فعّالة، في الجو والبر والبحر أيضاً.
عملياً، أوقعت إسرائيل نفسها في مأزق جديد، والعدوان الذي أراده العدو «درساً» لكل من يساند غزة، سيكون له ما بعده. والمشهد الذي دعا يؤاف غالانت إلى أن «ينظر إليه في كل الشرق الأوسط»، هو مشهد من زاوية واحدة. أما بقيته، فهي رهن ما سيقوم به محور المقاومة، بالتنسيق والتعاون، وبمعزل عن الجهة المنفّذة، وستعرف إسرائيل قريباً معنى أن ينتقل «أنصار الله» من مرحلة رفع شعار الموت لإسرائيل إلى مرحلة تحويله إلى أمر عمليات.