| أحاذرُ اللجوء الى التعميم ما لم تكن الواقعة المراد التأكيد عليها قد جرى التثبّت من صدقيتها بالإستطلاعات والإستقصاءات والإحصاءات الدقيقة، ومع ذلك أجازفُ بالقول، استناداً إلى شواهد من لبنان وأوروبا واميركا، إن الناس عموماً فقدوا الثقة بالسياسة والسياسيين، نعم، ما عادت السياسة وسيلة ناجعة للتدبير والتغيير، ولا السياسيون أهلاً للثقة بنياتهم وقدراتهم ووفائهم بالوعود.
لعل لبنان، بتركيبته التعددية وتنوعه الثقافي ومجموعات النازحين المتدفقين عليه من كل حدب وصوب ودين ، نموذج ومختبر لإستخلاص عيّنة وشاهد على ما أدّعيه. فقد قامت في مدنه ومجتمعاته ، عقب "ثورات" الربيع العربي حراكات شعبية عدة ، كان آخرها واقواها الحراك المتعلق بفضيحة النفايات والمسؤولين عنها والمشاركين فيها. ومع ان القضية تتعلق بصحة الناس جميعاً وبصحة المجتمع بصرف النظر عن المشارب السياسية والمذاهب الدينية ، فقد اخفق الحراك وقادته في تحقيق أهدافه .
صحيح ان الشبكة الحاكمة لم تتأخر في قمع الحراك وقادته بأساليب شتى ، لكن فشله لم يكن بسبب القمع الحكومي بالدرجة الاولى ، بل نتيجة قلّة صبر "الحراكيين" ونَفَسهم القصير الناجم بدوره عن شعورهم ، كما غالبية الناس ، بعدم جدوى السياسة وفقْدان الثقة بالسياسيين .
وليد جنبلاط ، المعروف بجرأته وصراحته، أعطى اخيراً شهادةً في الموضوع على طريقة "شهد شاهد من أهله"، فجاءت شهادته قاطعة ساطعة.
قال بلا مواربة لصحيفة "السفير": "انا ادرك ان مصداقيتنا كسياسيين ضُربت ، خصوصاً بعد ازمة النفايات ، واعرف ان بعض الناس لم يعد يصدقني عندما اتكلم حول الملفات التي تفوح منها الشبهات . لكن لا خيار امامي سوى ان استمر في المحاولة لعلني اساهم قدر الإمكان في الحدّ من خسائر الفساد المستشري مع علمي بأزمة الثقة المستفحلة بين الناس والطبقة السياسية التي انا جزء منها".
أهمية شهادة جنبلاط انه جزء من الطبقة السياسية . لكن فقدان الثقة لا تتناول السياسيين ولا تقتصر عليهم بل تتناول السياسة نفسها ايضاً . ليس ادل على ذلك من ان فضائح وكوارث واحداثاً عظيمة وقعت ونالت من لبنان ، دولةً وشعباً ، ومع ذلك لم يحرك الناس ساكناً. هل يعقل ان يبقى البلد اكثر من عشر سنوات بلا موازنة ، ونحو سنتين بلا رئيس جمهورية ، ونحو ثلاث سنوات من دون انتخابات برلمانية ، وان يمتنع مجلس النواب الممدد لنفسه عن الإجتماع وبالتالي عن التشريع ، وان تبقى النفايات في الشوارع وبين المنازل اكثر من ثمانية اشهر... ومع ذلك لا يثور الناس ولا يلجأون الى اي تدبير "سياسي" لإنهاء الوضع الفاسد ؟
في فرنسا ، ولعلها مصغّر نموذجي لاوروبا ، قال رئيس حكومتها مانويل فانس في منتدى حول "الإسلاموية وتقدمها الشعبوي في اوروبا" : " يفترض ألاّ يمثل السلفيون إلاّ نسبة واحد في المئة من المسلمين (عددهم الاجمالي 5 ملايين) في فرنسا اليوم ، لكنهم يكادون يكسبون المعركة الايديولوجية والثقافية والاعلامية ، اذ ان رسالتهم هي الوحيدة التي نسمعها على مواقع التواصل الإجتماعي ، وتعكس معرفتهم كيفية ايصالها الى الشبان اليافعين".
منسق الإتحاد الأوروبي لمكافحة الإرهاب جيل دي كيرشوف شاطر فانس رأيه بقوله إن "الايديولوجية مصدر مهم للتطرف الجهادي في اوروبا، ولا بد من ان نعمل على قيام اسلام اوروبي".
حسناً ، فَهِمنا ان التطرف الجهادي مصدره ايديولوجي ، اي ديني ، لكن لماذا رسالة السلفيين والجهاديين هي "الوحيدة التي نسمعها على مواقع التواصل الإجتماعي"، كما يقول فانس؟ بل لماذا هذا الصعود المتواصل لقوى اليمين المتطرف في فرنسا بشخص زعيمة الجبهة الوطنية مارلين لوبن وامثالها؟
الجواب : انه فقدان الثقة بالسياسة والسياسيين عموماً ولاسيما ، في حالة فرنسا، بالإشتراكيين والليبراليين وامثالهم.
في الولايات المتحدة ، يبدو ان المشكلة هي نفسها: فقدان الثقة بالسياسة والسياسيين مع فارق لافت هو ان فقدان الثقة ينصبّ ، بالدرجة الاولى ، على قيادتيّ Establishment الحزبين الجمهوري والديمقراطي ، وبالتالي على المرشحين الذين "يتمتعون" بتأييد كلٍّ منهما.
بحسب العديد من الكتّاب والمعلّقين السياسيين ، ابتعدت قيادتا الحزبين الجمهوري والديمقراطي عن قواعدها الشعبية ، اي عن الناس عموماً ، وتحجرت اراؤها فما عادت تعبّر عن مواقف هؤلاء ومصالحهم . اكثر من ذلك : ارتكب مرشحو تلك القيادات ، ولاسيما الجمهورية منها ، اخطاء فادحة بتأييدها مرشحين جلبوا على اميركا الكوارث ، ومنهم على سبيل المثال جورج بوش الابن ،"بطل" الحرب الكارثية على العراق. ولأن قيادتي الحزبين ما زالتا تناديان بأفكار ومشاريع من الماضي وتؤيدان مرشحين يمثلون اراءها ، فإن ذلك ادى الى نشؤ ردات فعل متطرفة عند الناخبين عموماً. لذلك فإن اتساع قاعدة مَن يؤيدون المرشح الجمهوري اليميني المتطرف دونالد ترامب مردّه الى نفور الناخبين الجمهوريين من قيادتهم وقيامهم بالتصويت له كتعبير صارخ عن رفضهم لها. كذلك الامر في الحزب الديمقراطي ، اذ ان اتساع التأييد للسناتور بيرني ساندرز مرده الى النفور من قيادة الحزب التي تؤيد مرشحتها التقليدية هيلاري كلينتون.
ثمة اسباب متعددة لظاهرة اتساع قاعدة نفور الناس من السياسة والسياسيين، لعل ابرزها ثلاثة :
الاول ، استشراء سلوكية النفاق والكذب لدى السياسيين وعدم وفائهم بوعودهم وبرامجهم ما يؤكد ، تالياً ، عدم جدواهم.
الثاني ، انكشاف السياسيين امام الناس وقدرة هؤلاء عبر اجهزة التواصل الاجتاعي على ادراك فشلهم ودجلهم وقيامهم ، تالياً ، بتعميم انفضاحهم على نحوٍ واسع ومؤذٍ الامر الذي ادى الى تدني ثقة الناس بالسياسة والسياسيين.
الثالث، مع انكشاف السياسيين وتدني جدوى السياسة ، برز الدين والايديولوجيا كبديلين جاهزين لسد الفجوة الناشئة عن فشل السياسيين.
اذْ تتضح اسباب العودة الى التدين والى التفكير اليميني المتطرفَين ، يبقى سؤال: كيف يمكن مواجهة هذا التحدي المتعاظم التأثير؟
قد يقول قائل : المواجهة تكون بالعودة الى تمسّك السياسيين بقيم الصدق والوفاء والعدل والمساواة امام القانون .
هذا صحيح ، لكن كم من الوقت تتطلبه حملة العودة الى هذه القيم وممارستها قبل ان يتمكّن"الجهاديون" المتطرفون واليمينيون الثائرون على السياسة الفاسدة والسياسيين الكَذَبة من الإستيلاء على السلطة وادارة المشهد العام الذي نرى ، ونعاني، مظاهره الدموية والكارثية في الكثير من انحاء العالم؟