القرار الأممي رقم 2728 الصادر يوم 25 آذار /مارس 2024 عن مجلس الأمن الدولي، طالب بالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن، والوقف الفوري لإطلاق النار في رمضان تحترمه الأطراف ويؤدّي إلى وقف ثابت ومستدام، والتزام الأطراف بموجب القانون الدولي بشأن جميع الأشخاص المحتجزين. هذا القرار وضع بالشكل نتنياهو أمام الأمر الواقع الدولي. لكن في الجوهر، هل سيلتزم جزار غزة بقرار مجلس الأمن ويقوم بتنفيذه نصاً وروحاً؟! صحيح أنّ القرار مُلزم، ولكن عدم احترام تطبيقه يستدعي إجراءات أخرى أكثر فعالية من قبل المجلس لتطبيقه بموجب الفصل السابع. لكن هل الولايات المتحدة على استعداد للذهاب بعيداً في هذا المجال؟
وإذا كانت واشنطن قد امتنعت عن التصويت، ولم تطرح الفيتو كالعادة، لتسهيل مرور القرار الأممي، بعد أن أصبحت صورتها الدولية ملطخة، وفي حرج شديد، بسبب الدعم الكامل لـ «إسرائيل» في حروبها على غزة على مدار سنوات طويلة، وارتكابها الجرائم الوحشية ضد الفلسطينيين، التي لم يشهد العالم مثيلاً لها. إلا أنّ واشنطن لم ولن تفكّ الارتباط والتخلي عن الحلف «المقدس» الذي يربطها بتل أبيب. ها هو جون كيربي منسق مجلس الأمن القومي الأميركي للاتصالات الاستراتيجيّة في البيت الأبيض، ومساعد الرئيس الأميركي جو بايدن، بعد امتناع واشنطن عن التصويت على قرار مجلس الأمن أوضح صراحة «أنّ امتناع واشنطن عن التصويت لا يمثل تحوّلاً في سياستنا».
لا يتصوّرَنّ أحد أنّ العلاقات الأميركية «الإسرائيلية» وصلت الى حدّ الشرخ او القطيعة او التصادم، فالحلف بين الدولتين أكبر بكثير من الفتور الحاصل بسبب وجهات النظر التكتيكيّة بين بايدن ونتنياهو، إذ إنّ الموقف الأميركي والإسرائيلي في العمق حيال القضية الفلسطينية، والمقاومات في المنطقة، والعمل المشترك على ترويض الأنظمة الوطنيّة المعارضة للسياسات الأميركية ومصالحها ومصالح «إسرائيل» وحلفائها في المنطقة المشرقيّة، لم يتغيّر وهو أكثر اهتماماً واندفاعاً من ذي قبل.
نتنياهو لن يلتزم بقرار مجلس الأمن، لأنّ التزامه به، إقرار صريح بهزيمته في غزة، لأنّ قرار مجلس الأمن إذا ما طُبّق بحذافيره رغم الثغرات فيه، يحدّ من اندفاعه في إزالة المقاومة من القطاع والقضاء عليها، وهو الذي صرّح قبل أيام قليلة، أنّ إزالة حماس من غزة، قرار لا رجوع عنه، وهو ردّ على تحذير نائبة الرئيس الأميركيّ كامالا هاريس من أنّ دخول رفح ستكون له عواقب من جانب الولايات المتحدة على «إسرائيل».
ما كانت واشنطن يوماً ضدّ «إسرائيل» في حروبها على غزة، بل على العكس، كانت منذ اليوم الأول لطوفان الأقصى الى جانبها، حيث هرول رئيسها بايدن بإطلالته الصهيونية الى «إسرائيل»، ليقدّم لنتنياهو «واجب» الدعم المطلق، حيث لا يزال بايدن الداعم الأول لها مالياً وعسكرياً، ولوجستياً وإعلامياً، واستخبارياً، ليلحق به في ما بعد، ويسير على نهجه زعماء دول بعقليّة الاستعمار القديم، سوناك بريطانيا، وماكرون فرنسا، وشولتز ألمانيا…
موقف الولايات المتحدة لم ولن يتبدّل حيال «إسرائيل». فهي لا تمانع ولا تعارض مطلقاً القضاء على المقاومة الفلسطينية، لكنها تريد إخراجاً هادئاً للعدوان العسكري، يضمن في نهاية المطاف سيطرتها العسكرية والأمنية على قطاع غزة، مع تجنّب «إسرائيل» المجازر والإبادة الجماعية، والقتل العشوائيّ الذي ينفذه جيش الاحتلال.
نتنياهو أكد على عزمه الدخول الى رفح وقال إنه «لا يمكنك هزيمة الشر المطلق من خلال ترك رفح، وسوف ندخل رفح، ونتعهّد بتصفية زعيم حماس يحيى السنوار… لقد قضينا على هامان وسنقضي على السنوار»!.
كم من القرارات الدوليّة صدرت عن مجلس الأمن منذ عام 1948 ذات الصلة بالقضيّة الفلسطينية والصراع العربي «الإسرائيلي»، لم تلتزم بها «إسرائيل» ولم تطبّقها! فما الذي فعلته واشنطن ولندن وباريس أمام التمرّد «الإسرائيلي» واستخفاف تل أبيب بالقرارات الأمميّة؟! بل على العكس، نرى الولايات المتحدة تتجاوز القرارات الأمميّة إرضاء لـ «إسرائيل»، باعترافها بسيادة الاحتلال على الجولان السوري، وعلى القدس الشرقية، والاعتراف بالقدس عاصمة لـ «إسرائيل».
لا يراهننّ أحد على تغيير سياسة واشنطن إزاء تل أبيب، إذ تبقى «إسرائيل» القاعدة الاستراتيجية المتقدمة لمصالح واشنطن في غربي آسيا، رغم الخلاف العابر في وجهات النظر حول قضايا جوهرية مشتركة بين الحليفين.
نتنياهو سيستمر في جنونه ليضع الولايات المتحدة والعالم أمام الأمر الواقع، لأنه إذا ما أوقف الحرب، فإنه سيسجل نهاية وخيمة لحياته السياسيّة، فيما تنتظره الملفات الساخنة المشبعة بالفساد والتي ستؤدي به لا محالة الى السجن. لذلك يريد انتزاع نصر بأيّ ثمن وبأيّ شكل من الأشكال، ليعوّم رصيده الشعبي، ويخرج من الميدان بطلاً يثبته على سدة الحكم، وإنْ كانت التكلفة التي ستدفعها دولة الاحتلال باهظة.
بعد القرار الأمميّ، يظلّ موقف أميركا على المحكّ، به سيتبيّن للعالم مدى صدقيتها بعد تمرير قرار مجلس الأمن، ومدى استعدادها على حمل تل أبيب على تنفيذه ووقف الحرب وإنقاذ شعب غزة من الإبادة، حتى لا يكون تمريرها للقرار غايته البعيدة امتصاص النقمة العالميّة على الولايات المتحدة و»إسرائيل» والدول الداعمة لها!
إنّ قرار مجلس الأمن لن يردع «إسرائيل» وإنْ كان ملزماً لها، ولن يكون أفضل من القرارات الدوليّة السابقة التي لم تلتزم بها كالقرارات الأمميّة 194، و242 و338، و425، و1701، لأنها تعرف مسبقاً أنها محصّنة ومحميّة جداً من قبل الإمبراطورية المستبدة.
«إسرائيل» رغم «الإشكال» الحاصل بينها وواشنطن، يبقى للوبياتها اليهودية في الداخل الأميركي التي يتجاوز عددها المئتين، وعلى رأسها الأيباك، دورُها الصاغط والمؤثر، ما يطوّق ويشلّ أيّ قرار تتخذه الإدارة الأميركية، لا يتماشى مع المصالح العليا لدولة الاحتلال المؤقتة.
رغم صدور القرار الأمميّ، عمد نتنياهو المحبط، وزمرته العسكرية إلى الذهاب بعيداً وحتى النهاية في حربه الشرسة، متحدياً مجلس الأمن، والمجتمع الدولي غير عابئ بهما، مطيحاً بكلّ المحظوراتِ، لا يترك متنفساً لحياة ولو في مستشفى إلا ويخنقه، وموجّهاً صفعة ما بعدها صفعة للحكام العرب الذين ما زالوا يراهنون على السلام المستحيل، وعلى التطبيع الذليل مع العدو، وهم الصامتون، الشامتون، المتخاذلون، المتآمرون، المتواطئون، المشاهدون للمجازر الفظيعة التي يرتكبها جيش دولة الإرهاب بحق بني جلدتهم، دون أن يوخزهم ضمير إنساني أو ذرة شرف، إو إحساس أخويّ.
غزة اليوم تنادي «أشقاءها» وهي تُصلب أمام الأشهاد والعالم كله، على صليب صنع بأيادٍ صهيونية إسرائيلية، وصهيونية عربية على السواء!
بعض العرب ما كانت مهمتُهم يوماً إلا لقتل أشقائهم، وتدمير بلدانهم، وكانوا على الدوام عوناً وسنداً لـ «إسرائيل» في احتلالها وعدوانها وجرائمها منذ عام 1948 وحتى اليوم!
لو وقف العرب وقفتهم الواحدة ضدّ «إسرائيل»، واتخذوا الإجراءات الرادعة ضدها، لما تمادت بعربدتها وجرائمها. لكن «إسرائيل» تعرف جيداً مَن يقاومها، وتعرف أكثر من يدعمها سراً وعلانية، ويعزز من فجورها وعدوانها!
فيا أيها التاريخ العربي اشهد وسجل! ذرية أبي لهب، وأبي جهل، وأبي زغال، والسلطان الكامل الأيوبيّ لا زالت متجذّرة، تعربد وتفتك في ديار العرب…