ما معيار كسب الحرب او خسارتها ؟ الجواب : تحقيق أهدافها او الإخفاق في ذلك . "اسرائيل" اعلنت عندما شنّت حربها الإبادية براً وجواً وبحراً على قطاع غزة ان اهدافها ثلاثة : القضاء على "حماس" ؛ إستعادة الرهائن (الأسرى) ؛ منع فصائل المقاومة الفلسطينية من العودة الى القطاع. فوق ذلك ، أضمرت وحاولت تنفيذ هدف رابع : تهجير سكان القطاع الى صحراء سيناء المصرية.
"اسرائيل" أخفقت في تحقيق جميع أهدافها. "حماس" ما زالت صامدة فوق الأرض في جميع مدن القطاع وتحت الأرض في الأنفاق الممتدة مئات الكيلومترات. كما اخفقت في إستعادة الأسرى وفي منع فصائل المقاومة من الصمود والقتال في مختلف مدن القطاع وقراه . صحيح انها تمكّنت من تهجير مئات الآف الفلسطينيين من شمال القطاع ووسطه الى جنوبه ، إلاّ أن السكان المهجّرين صامدون في العراء ويقاومون محاولات تهجيرهم الى سيناء ويتحمّلون كل صنوف التقتيل والتجويع والتنكيل والتشريد.
أقسى من خسارتها الحرب ، خسرت "اسرائيل" "شرعيتها" الدولية وسمعتها ومكانتها حتى بين حلفائها في الغرب الأطلسي ، وباتت في عزلةٍ اُممية خانقة . وفي اميركا ، اندلعت ضدها تظاهرات إحتجاج وتنديد في جميع مدن ولاياتها الخمسين والعاصمة واشنطن ، كما في مختلف الجامعات ، اساتذةً وطلاباً . الأمر اللافت كذلك ان زعيم الغالبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ السناتور اليهودي تشاك شومر دعا الى إجراء إنتخابات جديدة في "اسرائيل" "لأن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بات يشكّل "عقبة امام السلام" ، ولأن الإئتلاف الحاكم الذي يقوده "لم يعد يلبي حاجات الكيان بعد 7 اكتوبر 2023 ، تاريخ إندلاع حربه ضد قطاع غزة .
الرئيس جو بايدن أظهر امتعاضه مراراً من نتنياهو ، لكنه ما زال يدعم "اسرائيل" بالمال والسلاح بدعوى "أنها تدافع عن نفسها" ! صحيفة "واشنطن بوست" الاميركية كشفت ان إدارة بايدن وافقت على اكثر من 100 صفقة بيع أسلحة الى "اسرائيل" بعد 7 اكتوبر 2023 بحسب ما أبلغ مسؤولون اميركيون الكونغرس اخيراً في إحاطةٍ سرية ، وان هذه الصفقات لم تكن في حاجة الى موافقة الكونغرس لكون تكلفة كلٍّ منها أقل من الحدّ الأدنى الذي يتطلّب موافقته !
نتنياهو ما زال يكابر ويتمسك بمواقفه الداعية الى مواصلة الحرب لغاية تحقيق أهدافها . فوق ذلك ، يبدو كأن منافسةً تدور بين الكتّاب والصحافيين الإسرائيليين على التساؤل : الى أين يتجه الكيان المنقسم على نفسه سياسياً والمنهَك عسكرياً ؟
عاموس هرئيل ، كبير المحللين السياسيين في صحيفة "هآرتس" (2024/3/8) يقول "إن التشاؤم تعمّق بشأن إمكانات التوصل الى صفقة تبادل أسرى ، وان الفجوات بين مواقف "اسرائيل" و"حماس" ما زالت كبيرة ، وأشكُّ اذا كان لدى الطرفين إرادة حقيقية للوصول الى إتفاق ".
إيال عوض، الباحث المتخصص في إقتصاد غزة (موقع N12 ، 2024/3/12) يرى "أن الإنشغال المهووس بإحتلال رفح يمنع الجيش من التوصل الى أهداف لا تقل أهميةً في الشهر القادم. غزة ليست سباقاً إنما ماراثون لم تحقِّق فيه "اسرائيل" اهدافها الإستراتيجية . النتيجة : انتصار تكتيكي يمكن أن يتحوّل الى هزيمة إستراتيجية ".
يائير شيلغ ، المحلل السياسي والباحث في معهد هرتمان للسلام "مكور ريشون" (2024/3/13) يرى "أن إحتمال عودة "حماس" الى السيطرة على القطاع ، إذا أخفقت "اسرائيل" في ضغطها ، ما زال موجوداً ".
في هذه الأثناء بدأ الجيش الاميركي عملية تركيب رصيف بحري لربطه بشاطيء غزة . العملية تستغرق 60 يوماً على الأقل ، ومن المتوقع ان تصل اليه سفن مساعدات من أساطيل اميركية واخرى من سائر الدول . هذا المشروع تموّله الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة ، ويتطلّب اكثر من 1000 جندي اميركي للعمل في مجالات التركيب والتشغيل والصيانة ، وتزعم واشنطن انهم لن يكونوا موجودين على أرض غزة . لكن تسفي برئيل ، المحلل السياسي في صحيفة "هآرتس" (2024/3/11) يؤكد ان غاية ادارة بايدن من إقامة الرصيف هي "إحباط سياسة نتنياهو التي تهدف الى تحويل المساعدات الإنسانية الى أداة ضغط إستراتيجية ضد "حماس" واداة في اللعبة السياسية الداخلية"، وأن "اسرائيل" "ستجد نفسها في وضع لا تستطيع فيه إغلاق طرق الوصول الى القطاع طالما حليفتها الأهم (اميركا) تقوم بإرسال اساطيل الى غزة ، وبذلك تفكك الرؤية الإستراتيجية الإسرائيلية بأن للحصار على غزة وظيفة مركزية."
الى هنا يبدو الرصيف البحري مبادرةً إنسانية اميركية ، لكن تفحّص المشروع يكشف اغراضاً اخرى شديدة السؤ ، اهمها خمسة :
• الاول تغطية دعم اميركا السافر ، مالياً وعسكرياً ، لعدوانية الكيان الصهيوني ومحاولة لبلسمة الآم الفلسطينيين الجرحى والجوعى المشردين في العراء نتيجةَ حرب الإبادة الإسرائيلية بأسلحة ثقيلة اميركية أدّت الى استشهاد اكثر من ثلاثين الفاً ، معظمهم من الأطفال والنساء ، وجرح وإعاقة اكثر من سبعين الفاً .
• الثاني حرمان "حماس" من الظهور كجهة حريصة على تزويد سكان قطاع غزة بالغذاء والدواء والكساء.
• الثالث إستبدال منظمة الأنروا التي قطعت عنها الولايات المتحدة ودول اطلسية اخرى معوناتها المالية ، وقامت "اسرائيل" اخيراً بقصف مستودعاتها في غزة بمنظومة اخرى تكون مسؤولة عن توزيع الغذاء والمساعدات الإنسانية .
• الرابع إبدال القوات الأميركية العاملة في إدارة وتوزيع الغذاء وسائر المساعدات الإنسانية على السكان ، بقوات وأجهزة إسرائيلية لدرجة حملت اوساطاً إسرائيلية على الإشارة الى ان تشغيل الجيش الإسرائيلي في إدارة وتوزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة ستحوّله الى جيش إحتلال وقوة شرطة في القطاع ("صحيفة هآرتس" بتاريخ 2024/3/11).
• الخامس تحويل الجسر البحري الأميركي الى ميناء عائم ودائم ليصبح منفذاً لتهجير الفلسطينيين الذين يعانون ويلات الحرب والحصار . وفي هذه الحالة يُخشى ان يكون الاردن هو وجهة التهجير ومنتهى توطين المهجرين الجّدد ، سيما وأن دولاً نفطية عربية ستتقبّل ، بضغطٍ من واشنطن ، مهمة مساعدة عمّان على إستيعابهم ودعمهم مالياً بسخاءٍ واسع ومصحوب بدعم مالي وتقني رديف من المنظومة التي تحاول الولايات المتحدة إحلالها محل الأونروا.
كيف يواجه الفسلطينيون وحلفاؤهم هذا التحدّي المستجد ؟
بمواصلة المقاومة بلا كلل ولا ملل ، والإصرار على عدم متابعة مفاوضات وقف القتال إلاّ بعد رضوخ العدو الصهيوني ، كما الولايات المتحدة ، لمطلبٍ أساس هو سحب قواته من كافة أراضي قطاع غزة ، والتسليم بأن إدارة القطاع تبقى مسؤولية الشعب الفلسطيني وحده وحقه في إستبقاء تنظيمات المقاومة ، على أن يتمّ التوافق في إطار الامم المتحدة ورعايتها على صيغة لإعادة إعمار غزة وقطاعها بمساهمات مالية تفرضها الامم المتحدة على كل دولة يكرّسها قرار محكمة العدل الدولية الناظرة في الشكوى المقدّمة من دولة جنوب افريقيا ضد "اسرائيل"، مسؤولةً كما الكيان الصهيوني عن الجرائم المرتكبة خلال حرب الإبادة الاخيرة التي شنتّها "اسرائيل" على الشعب الفلسطيني.
هل يجوز القبول بأقل من هذا العقاب والتعويض ؟