لا نحتاج إلى أدلة للقول إن الصراع العالمي هو صراع جيوسياسي بامتياز، ثم ننتقل إلى القول إن الولايات المتحدة تتصدى للمشروع الأوراسي الذي تقوده روسيا، ومشروع الحزام والطريق الذي تقوده الصين، حيث تعتقد واشنطن بأن هذين المشروعين المتشابكين عبر منظمة شنغهاي، والمنفتحين على العالم عبر منظمة بريكس، سيؤديان بالنهاية إلى اختراق مناطق الهيمنة والنفوذ الأمريكية في العالم بما فيها حتى أوروبا، ولذلك فإن الفكر الإستراتيجي الأمريكي أنتج مولوداً جيوسياسياً جديداً لمواجهة المشروعين والمنظمتين في آنٍ واحدٍ، هذا المولود هو "الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي"، ترى واشنطن بأن هذا المشروع الجديد سيكون كفيلا بتحقيق أهدافها التالية:
• يقدم مشروعًا بديلًا اقتصاديًا وتجاريًا وتنمويًا عن الحزام والطريق.
• يقدم مشروعًا أوراسيًا جديدًا يمتد من جنوب آسيا إلى غربها إلى أوروبا كبديل عن مشروع الأوراسية الجديدة البوتينية الدوغينية.
• يقدم الإغراءات اللازمة والبديلة للدول المتحمسة للانضمام إلى منظمة شنغهاي.
• يكون سببًا لتفجير منظمة بريكس من الداخل عبر ربط الدول المنضوية إليها بمشروع بديل.
خطوات ما قبل طرح المشروع:
تضمنت الإستراتيجية الأمريكية ومنذ وصول إدارة بايدن للبيت البيض مجموعة من الإجراءات الجيوسياسية على الصعيد العالمي بهدف عرقلة المشاريع المنافسة وتهيئة الظروف لطرح مشروعها البديل، ويمكن اختصار هذه الإجراءات بالآتي:
• الدفع باتجاه الحرب في أوكرانيا التي كان من أهدافها: تخريب العلاقات الروسية الأوروبية المتنامية، وإغلاق أوروبا بوجه روسيا، وإعادة توحيد أوروبا تحت المظلة الأمريكية، وتوسيع حلف الناتو ليشمل دول شمال البلطيق.
• الدفع باتجاه التوتر في بحر الصين الجنوبي من خلال استفزاز الصين وإشغالها عبر تأجيج التوتر مع تايوان، وإقامة قواعد عسكرية جديدة في الفلبين وتأجيج الخلاف بينها وبين الصين حول الحقوق البحرية.
• السعي الأمريكي لدق إسفين في العلاقات الروسية الصينية الإيرانية.
• اعتماد استراتيجية جديدة في المحيط الهادئ لمحاصرة الصين وروسيا، حيث تم إنشاء حلف أوكوس إلى جانب أستراليا وبريطانيا، وتفعيل حلف كواد إلى جانب الهند واليابان وكوريا الجنوبية.
• العمل على دمج "إسرائيل" في الشرق الأوسط عبر إنشاء حلف إقليمي يضم الولايات المتحدة إلى جانب "إسرائيل" مع دول التطبيع العربية فيما عرف لاحقًا بحلف النقب، والسعي الحثيث لإنجاز التطبيع السعودي الإسرائيلي لإكمال هذا الحلف بعد أن عُقِدَت اتفاقيات إقليمية أمنية وعسكرية وتجارية ومالية وفي مجال الطاقة بين مكوناته.
مفاجآت خصوم الولايات المتحدة:
يمكن اختصار الردود المفاجئة التي قام بها خصوم الولايات المتحدة على مستوى الإقليم والعالم بالآتي:
• النصر العسكري الروسي، وإفشال الهجوم المضاد الأمريكي في أوكرانيا، واستنزاف مخزونات السلاح الغربية في الساحة الأوكرانية، وكذلك الأمر بالنسبة للتكاليف المالية.
• الردود الصينية الحاسمة فيما يخص تايوان سواء عسكريًا أو سياسيًا، وفيما يخص العقوبات التجارية المضادة.
• التطور الهائل والمتسارع والمتنوع في العلاقات الروسية الصينية، والصينية الإيرانية عبر اتفاقية الشراكة الاستراتيجية، والروسية الإيرانية عبر مشروع ممر شمال جنوب وكذلك عسكريًا وتكنولوجيًا وسياسيًا.
• التطور المفاجئ في العلاقات بين كل من الصين وروسيا وإيران مع دول الخليج العربية وتحديدًا السعودية والإمارات، وهو ما ظهر عبر زيارة الرئيس الصيني للسعودية وعقده عدة قمم فيها وإنجاز اتفاقيات نفطية وتجارية واتفاقيات شراكة استراتيجية، وكذلك عبر إعلان بكين للسلام بين طهران والرياض، وعبر اتفاقيات الشراكة بين موسكو وأبوظبي، وهذه الأخيرة تحولت إلى مقر مالي للأموال والاستثمارات الروسية في ظل العقوبات الغربية، والأمر ذاته ينطبق على العلاقة الروسية السعودية والتي أظهرت توحيدًا للمواقف بينهما بما يخص أسواق الطاقة في أوبك+.
• انضمام إيران بشكل نهائي إلى منظمة شنغهاي، سعي روسيا للتشبيك بين هذه المنظمة ومنظمة الاتحاد الأوراسي.
• انضمام خمس دول إقليمية لمنظمة بريكس وهي (إيران والسعودية والإمارات ومصر وإثيوبيا).
إعلان المشروع الأمريكي:
تسببت الردود المفاجئة لخصوم الولايات المتحدة في استعجالها بالإعلان عن مشروع الممر "الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي" بعد أن خشيت الولايات المتحدة من أن تؤدي تلك الردود الجيوسياسية وأخرى لاحقة لها بإفشال مخططها ووأده قبل إعلانه، ووجدت الولايات المتحدة في قمة العشرين التي عقدت في العند فرصة مواتية لها لإعلان المشروع، وخاصة في ظل تغيب كل من الرئيسين الصيني والروسي عن حضور تلك القمة، وعلى هامش القمة أعلن الرئيس الأمريكي بايدن مشروعه بشكل مفاجئ، ولم يخلُ الإعلان عن رمزيات لها مؤشرات، فقد جرى هذا الإعلان من العاصمة الهندية وبحضور ولي العهد السعودي، وكذلك بعض قادة الغرب الجماعي، فرنسا وألمانيا وإيطاليا، وتلك الأخيرة كانت قد انسحبت من مبادرة الحزام والطريق بضغط من واشنطن.
طوفان الأقصى ومشروع الممر الأمريكي:
منذ اللحظة الأولى لإعلان المشروع أدركت واشنطن أن دونه عقبات عديدة، وأن أهم تلك العقبات التي يجب عليها إزالتها تتمثل بما يلي:
• إنجاز اتفاق التطبيع السعودي الإسرائيلي بأسرع وقت ممكن على اعتبار أن المشروع يمرّ عبر فلسطين المحتلة التي تشكل بوابته الرئيسية على المتوسط عبر ميناء حيفا ومنه لأوروبا.
• حركات المقاومة في فلسطين المحتلة التي تشكل عائقًا رئيسيًا أمنيًا على المشروع، وخاصة حركتي حماس والجهاد الناشطتين في قطاع غزة وفي الضفة الغربية، أي أنهما تطوقان جغرافيا هذا المشروع في بوابته الشرق أوسطية على المتوسط وتهددان نجاحه.
• بقية مكونات محور المقاومة وتأثيرها الفعلي على المشروع في الخليج والأردن.
لأجل ذلك كان المخطط الأمريكي يقتضي بتصفية المقاومة الفلسطينية أولا، ولأجل ذلك سمحت واشنطن بحكومة يمين متطرف في تل ابيب استعدادا لحرب التصفية المطلوبة، وهذا المخطط الأمريكي كشفته تصريحات بايدن ومسؤولو إدارته بعد عملية طوفان الأقصى والتي أكدت بأن هذه العملية هدفت لعرقلة التطبيع السعودي الإسرائيلي، ولمنع اندماج "إسرائيل" في المنطقة.
انطلاقاً من ذلك فإنه يمكن الجزم بأن عملية طوفان الأقصى كانت عملية استباقية في توقيتها، ذلك لأن المقاومة في فلسطين أدركت بأن قرارًا أمريكيًا صهيونيًا إقليميا قد اتخذ لتصفيتها وللسيطرة المباشرة وغير المباشرة على قطاع غزة خدمة للمشروع الأمريكي الجديد، فكان لا بد لها من القيام بعمل استباقي، وأن نتائجه ستكون أقل سوءًا مما ستكون عليه لو ترك إلى حين اعلان القرار بمهاجمتها.
تشير كل المواقف الأمريكية ومواقف الكيان الصهيوني ومواقف الغرب الجماعي والاتحاد الأوروبي، وكذلك دول التطبيع العربية وحتى تركيا، منذ اللحظة الأولى لعملية طوفان الأقصى إلى أن تلك الدول صدمت بالخطوة الاستباقية التي أقدمت عليها المقاومة الفلسطينية، وهو ما دلت عليه مواقف واشنطن بالتحديد التي تولت بنفسها قيادة المعركة على غزة عسكريًا وسياسيًا، وتوافد قادة الولايات المتحدة وعلى رأسهم بايدن وبقية مسؤولي إدارته إلى المنطقة ووزعوا الأدوار على حلفائهم في السياسة والميدان.
أين وصل الصراع؟
بالرغم من أن واشنطن زجّت بكل إمكانياتها العسكرية والاستخباراتية والسياسية في معركة غزة إلى جانب "إسرائيل"، ولجأت إلى ارتكاب أبشع الجرائم في تلك الحرب من قتل وتدمير وتجويع وحصار، غير أنها فشلت في تحقيق ما تريده والمتمثل بالسيطرة على قطاع غزة وتصفية المقاومة فيها، وهو الهدف القديم الجديد الذي لا غنى لها عنه لتمرير مشروعها.
ويمكن إرجاع الفشل الأمريكي بعد شهرين من المعركة إلى أسباب عدة نذكر أهمها:
• إن طوفان الأقصى كانت عملية استباقية أكثر من كونها عملية دفاعية، وهو ما شكل عنصر مفاجأة كان له شديد الأثر.
• البسالة المنقطعة النظير التي أظهرتها المقاومة الفلسطينية في غزة، والتي تعكس استعدادًا جيدًا للحرب من حيث القيادة والتنظيم والإعداد.
• دخول بقية مكونات محور المقاومة على خط المواجهة، "اليمن ولبنان والعراق وسورية" بشكل مباشر، واستهدافاتهم المباشرة للكيان الصهيوني من كل الإتجاهات، وكذلك للوجود الأمريكي في المنطقة وخاصة في العراق وسورية، والتلويح بتوسيع الصراع.
• إطباق الحصار على "إسرائيل" وخاصة من جهة البحر الأحمر والتلويح بإغلاقه نهائيًا في حال توسع الصراع.
• تكثيف عمليات المقاومة اللبنانية في شمال فلسطين المحتلة، وعمليات المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي في العراق وسورية.
• العجز الأمريكي الإسرائيلي عن تحقيق إنجاز نوعي سواء على الأرض أو حتى إنجاز سياسي حقيقي.
• فشل الولايات المتحدة في تسويق مؤامراتها السياسية المتعلقة بتهجير الفلسطينيين أو إنشاء سلطة بديلة في غزة.
إلى أين تتجه المعركة؟
تشير كافة التقارير والمعلومات الواردة من واشنطن بأن الولايات المتحدة بدأت تتحسس ضيق الوقت أمامها في ظل الفشل الذي منيت به خططها حتى الآن بفعل العوامل التي ذكرناها، وأنها وفقًا للتصريحات المتقاطعة بين مسؤوليها ومسؤولي الكيان الصهيوني، فقد أعطت هذا الكيان مهلة شهر لإنهاء العدوان الذي يمارسه بدعم كامل منها، وترفض إلى الآن وقفًا لإطلاق النار، ولأجل ذلك أسقطت قراراً في مجلس الأمن يدعو لوقف إطلاق النار تقدمت به الإمارات، وتسعى الولايات المتحدة خلال مدة الشهر إلى تحقيق أي إنجاز ميداني وإلى ممارسة المزيد من عمليات القتل والتدمير، وفي ذات الوقت تبحث عن تحقيق إنجاز سياسي ما يحفظ لها ماء الوجه ويضمن لها مدخلا للاستمرار بمخططها لاحقا، ويضاف إلى ذلك رغبة واشنطن في الحصول على ضمانات تخص وُجود قواتها في الإقليم وسلامتها.
في هذا الإطار تعتمد واشنطن في التحرك السياسي على محورين:
• الأول؛ خطة حل الدولتين التي طرحها السيسي مؤخرا وتسوق لها اللجنة الوزارية التي أفرزتها القمة العربية الإسلامية، وهي خطة هلامية تسويفية غير قابلة للتطبيق، ومحكوم عليها بالفشل، وخاصة بعد الموقف الإيراني الذي أعلنه آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي.
• الثاني؛ اللجوء إلى الأمم المتحدة للنزول عن الشجرة كخطة بديلة طُرِحَت من قبل الأمين العام للأمم المتحدة بالطلب إلى مجلس الأمن لتفعيل المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة التي تخص تهديد الأمن والسلم الدوليين، حديث الأمين العام للأمم المتحدة "غوتريش" عن الطلب إلى مجلس الأمن بتفعيل المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، وتأييد مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي "جوزيف بوريل" لطلب الأمين العام ، يعني شيئاً واحدا فقط، وهو أن واشنطن طرحت مخرجًا سياسيًا وقانونيًا على الطاولة عبر الأمم المتحدة بالتوازي مع الإبادة والتدمير التي تمارسها مع "إسرائيل" وبريطانيا في غزة.
أخيرًا؛ يشير التصعيد الذي أظهرته مكونات محور المقاومة اللبنانية واليمنية والعراقية على وجه التحديد، وتكثيفها وتنويعها لعملياتها، إلى أن محور المقاومة لن يسمح لواشنطن بتحقيق أي من أهدافها، ولن يقبل شروطها وخاصة تلك المتعلقة بالاحتلال أو بالتغييرات الجيوسياسية.
ولا بد في الختام من الإشارة إلى الدخول الروسي الفعال على خط الصراع السياسي في ظل محاولات واشنطن السياسية التي ذكرناها ومع إدراك موسكو لحجم المأزق الأمريكي، ويبدو أن موسكو تحركت لالتقاط اللحظة المناسبة لدعم حلفائها في محور المقاومة سياسيًا خاصة أنها حافظت على موقف داعم للفلسطينيين ورافض ومندد بجرائم الكيان الصهيوني، ولقناعتها بأن معركة غزة جزء رئيسي لا يتجزأ من الصراع العالمي، إذا موسكو باتت مؤهلة في هذه المرحلة للعب دور مهم وهو ما أكدته زيارة بوتين إلى الإمارات والسعودية، ومن ثم استقباله للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في موسكو، وبالتأكيد فإن موسكو حريصة على حماية ما قدمه حلفاؤها طوال الصراع وعلى حفظ نتائجه ومكتسباته وهي التي تدرك بأنه يصب في صالحها في صراعها مع الغرب الجماعي.