"من نعى حركة حماس سابقاً، كان عليه ببساطة أن يرى كيف أنها ما تزال قوية وتُسيطر على غزة بعد 49 يوم قتال"! كان هذا لسان حال معظم الإعلام الإسرائيلي والغربي تعليقاً على المشهدية التي طغت في اليوم الأول من الهدنة التي استمرت 7 أيام. ومن يراهن اليوم على أن المقاومة الفلسطينية هي التي ستصرخ أولاً عليه أن يراقب كيف ستتم ترجمة قرار "لن يكون هناك تبادل إلا بعد وقف الحرب" في الميدان. في أعقاب عملية “طوفان الأقصى”، في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، تعهد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بـ”محو حركة حماس من على وجه الأرض”. استدعى أكثر من 350 ألف جندي احتياط، انضموا إلى 173 ألف جندي متواجدين في الخدمة الفعلية لتنفيذ مهمة واحدة: اجتياح قطاع غزة، والقضاء على المقاومة الفلسطينية بعد تحطيم قدراتها العسكرية، وإسقاط سلطة “حماس”. وعلى مدار 49 يوماً، شنَّ جيش الإحتلال عمليات قصف جوّي وبرّي مكثف طال الأحياء السكنية والمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس وكل مظاهر الحياة، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 20 ألف فلسطيني، 70% منهم من الأطفال والنساء (وفق المرصد “الأورومتوسطي”)، وتدمير أحياء سكنية بأكملها، والتسبب بنزوح ثلثي سكان الشمال. لطالما استخدم الاحتلال القوة المفرطة ضد الفلسطينيين، متباهياً بتفوقه العسكري الذي يتمتع به بفضل المساعدات الغربية السخية؛ الأميركية على وجه الخصوص. ومع ذلك، فقد أثبتت الفصائل الفلسطينية هذه المرة أيضاً، أنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، هزيمتها بالقوة العسكرية. ففي مقابل المشهدية الغزاوية هناك مشاهد قتلى وجرحى جيش الإحتلال ودمار دباباته وآلياته العسكرية. لقد برهنت المقاومة عن صمود استثنائي، وتصدّت لخصم يفوقها قوة وعتاداً بأضعاف مضاعفة، وخاضت معه مواجهات ملحمية، ونفذت ضد قواته هجمات بطرق وتكتيكات متطورة تكاد تُحاكي عمليات العدو، وتفوقت عليه في إدارة ونشر سرديتها إعلامياً بقدر ما تستطيع إسرائيل القيام به وأفضل. وقبل ذلك اكتسبت نفوذاً كبيراً عندما تمكنت من أسر أكثر من 200 إسرائيلي (مستوطنون وعسكريون)، بالإضافة إلى عشرات الرهائن من جنسيات متعددة أو من مزدوجي الجنسية. المقاومة اليوم أكثر تدريباً وتنظيماً، وتكتسب قوة أكبر كل يوم، ولديها أسلحة متطورة وفعَّالة، واستطاعت أن تطوَّر شبكة الأنفاق لديها بطريقة مذهلة كما طوَّرت قدراتها اللوجستية والاستخباراتية والمعلوماتية. والأهم أن هذه المقاومة ما تزال صامدة وتقاوم منذ 75 عاماً الكلمة العُليا للمقاومة منذ اللحظة التي اخترق فيها المقاومون السياج الأمني الإسرائيلي مع غزة، واجتاحوا عمق المستوطنات بما فيها من مقار عسكرية وأمنية، صار واضحاً تماماً أن إسرائيل لن تعود إلى ما كانت عليه أبداً. “طوفان الأقصى” كان بمثابة الإنهيار الكارثي لإستراتيجيتها الأمنية والإستخباراتية، كما لسياسة “الهيبة والردع” التي طالما تباهت بها. وبعد أن كان عليها “إحتواء” الفصائل الفلسطينية المسلحة داخل القطاع والضفة الغربية، ستحتاج الآن إلى معالجة شبكة أوسع من التهديدات على إمتداد حدود محور المقاومة في المنطقة كلها؛ من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن. ستحتاج أيضاً إلى فترة شفاء طويلة ومؤلمة لاستعادة توازنها ووضعها الدفاعي ورباطة جأشها: قدرتها على الدفاع عن نفسها تزعزعت وبالتالي لم تعد إسرائيل الدولة الأكثر أمانا ليهود العالم، كما أن سياسة الحصار الذي فرضته على غزة طوال 16 عاماً فشلت في جعل مواطنيها آمنين، وترسانتها الحربية الحديثة والمتطورة عجزت عن تحقيق أي إنجاز عسكري حقيقي على الأرض. حتى الآن تنجح فقط بالتدمير والقتل. برغم ذلك، فإن النتائج التي انتهت إليها الجولة الأولى من هذه الحرب تشير إلى أن إسرائيل لم ولن تكون قادرة على صياغة حملتها الحالية ضد المقاومة على غرار العمليات السابقة التي جرت في غزة والضفة؛ في الأعوام 2006، و2008، و2012، و2014، و2021، و2022، وأيار/مايو 2023، ولا حتى خلال الانتفاضتين الأولى والثانية. فعلى الجبهة الأخرى من هذه الحرب ترابض مقاومة هي ليست ذاتها التي خاضت مواجهات الأمس. إنها اليوم أكثر تدريباً وتنظيماً، وتكتسب قوة أكبر في كل يوم، ولديها أسلحة متطورة وفعَّالة، واستطاعت أن تطوَّر شبكة الأنفاق لديها بطريقة مذهلة كما طوَّرت قدراتها اللوجستية والاستخباراتية والمعلوماتية. والأهم أن هذه المقاومة ما تزال صامدة وتقاوم منذ 75 عاماً. أما إسرائيل – التي تفوقت على نفسها في عدد الجرائم والمذابح وعمليات الإبادة التي ترتكبها، وقصفت المدنيين بأسلحة محرمة دولياً، وعمدت إلى تجويعهم وتهجيرهم قسراً، ومن ثم قصفهم أثناء النزوح – فقد رضخت في النهاية وقبلت بهدنة السبعة أيام (بدأت أربعة أيام ثم تمددت لثلاثة أخرى) بالشروط التي فرضتها المقاومة، وانصاعت لتنفيذ صفقة تبادل الأسرى وفق الإيقاع والتوقيت الذي حدّدته المقاومة.. وما كل هذا إلَّا إقرار إسرائيلي بأن الكلمة العُليا هي للمقاومة، وأن غزة خرجت منتصرة في الجولة الأولى برغم كل الجراح، بحسب إعترافات كثير من المسؤولين والمراقبين الغربيين والإسرائيليين. لا شك أن الوضع في غزة يزداد تعقيداً وخطورة، والقتال سيزداد ضراوة مع إستئناف الحرب، لا سيما بعد إعلان بريطانيا عزمها على مساندة إسرائيل في حربها ضد المقاومة الفلسطينية؛ وهي بذلك تحذو حذو أميركا. فجيش الإحتلال يسعى لتحويل شمال القطاع إلى منطقة عازلة، ويسعى أيضاً إلى فصل المنطقة الوسطى عن المنطقة الجنوبية. يريد تقسيم القطاع حتى يسهل عليه السيطرة على حركة الغزاويين، وقبل ذلك يريد أولاً تقليبهم ضد المقاومة. الكيان الصهيوني مهووس بالإنتقام، لذلك سيستمر في إجرامه لإجبار السكان على النزوح وبشكل عشوائي إلى أماكن غير آمنة، وسيُمعن في تفاقم الكوارث الإنسانية للضغط على المجتمع الدولي من أجل التدخل. في المقابل، تزداد المقاومة ثباتاً وصموداً- قولاً وفعلاً. فالموقف الذي أعلنته “حماس” (السبت) بخصوص إصرارها على أنه “لن يكون هناك تبادل للأسرى إلَّا بعد وقف الحرب” يشير إلى عكس ما تُشيع إسرائيل، أي أن الكلمة العُليا في الجولة الثانية هي أيضاً للمقاومة التي تتميز بامساكها بمنظومة التحكم والسيطرة (نموذج استمرار إطلاق الصواريخ على تل أبيب من شمال غزة) وتماسك بنيانها العسكري والتنظيمي والسياسي والإعلامي، فهي تدير المعركة بطريقتها وبحنكة سياسية وعسكرية إستثنائية. وهذا ما اعترف به رئيس الأركان الإسرائيلي، هرتسي هاليفي، شخصياً (الأحد)، بقوله: “نخوض قتالاً ضارياً في جنوبي القطاع يضاهي ما اختبرناه في الشمال”. وكانت المقاومة أكدت بدورها انسحاب 70% من قوات الاحتلال خارج شمال القطاع لفشل عملياتها وبسبب ضربات المقاومين، وهو الأمر الذي وضعه خبراء عسكريون في خانة إعادة تموضع جيش الإحتلال مخافة أن يتعرض لضربات متتالية في أماكن تمركزه الثابتة، فضلا عن عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على خوض حرب برية بالمستوى ذاته في شمال غزة وجنوبها ووسطها. إقرأ على موقع 180 "هآرتس": هجمات إسرائيل لن تُعطل التفاهم النووي إسرائيل تتجنب الحرب الطويلة قد تمتد الجولة الثانية من القتال لأسابيع، وستكون أكثر شراسة من الجولة الأولى (كما يبدو الحال الآن). لكن في النهاية ستنصاع إسرائيل من جديد لشروط المقاومة، لأنها تُدرك جيداً أن نموذج الحرب الطويلة ينطوي على مخاطر كبيرة. فهي بالتأكيد لن ترغب في تكرار مغامرتها في لبنان، عندما اجتاحت البلاد في عام 1982. صحيح أنها أجبرت الفصائل الفلسطينية المسلحة على الرحيل عن بيروت، لكنها لم تقض عليها، بل غرقت في المستنقع اللبناني، وتحولت عملية “سلامة الجليل” إلى حرب طويلة الأمد مع المقاومة اللبنانية استمرت حتى انسحاب الجيش الإسرائيلي في العام 2000 بدون تفاوض أو شروط. وعندما قرّرت، في عام 2006، “سحق حزب الله” (بما يؤسس لولادة “شرق أوسط جديد”)، وجدت نفسها بعد 33 يوماً من الحرب ترضخ لشروط حزب الله: إتمام صفقة لتبادل الأسرى والتقيد بمعادلة “توازن الردع”. ومنذ ذلك الحين، وعلى مدى العقدين الماضيين تحجم إسرائيل عن شنّ عمليات برية كبيرة.. إسرائيل دمّرت غزة أكثر من مرة منذ العام 2007، وقتلت عدداً كبيراً من أهلها في كل مرة، لكنها لم تتمكن من هزيمة المقاومة. وهي لن تستطيع أن تنهي “حماس”، حتى لو نجحت في إضعاف قدراتها العسكرية (وهو احتمال غير مرجح). فـ”حماس” تظل أكثر من مجرد منظمة عسكرية، إنها تحكم القطاع منذ العام 2006 من خلال بنيان قيادي – سياسي وتنظيمي – رفيع المستوى، ولها حضور في المؤسسات الكبرى والمجتمع المدني، وتتمتع بدعم شعبي كبير، في غزة كما في الضفة، وهو حتماً تضاعف بعد “طوفان الأقصى” وتحرير عشرات الأسرى الفلسطينيين من سجون الإحتلال. في الوقت نفسه، إن أي محاولة لفرض قيادة من الخارج بديلة عن “حماس” سوف تولد ميتة. “طوفان الأقصى” جاء ليكسر كل محاولات تصفية القضية الفلسطينية، فأعادها نقطة أولى في جدول الأعمال العالمي؛ لذا، على الولايات المتحدة، صياغة استراتيجية جديدة للشرق الأوسط والتوقف عن تجاهل الحقائق التي أدارت ظهرها لها منذ فترة طويلة، وفي مقدمتها حقوق الشعب الفلسطيني “الطوفان” أحيا “القضية” من جهة ثانية، أثبت “طوفان الأقصى”، وما تبعه، الفشل الذريع لفكرة القضاء على القضية الفلسطينية، أو حتى تهميشها من دون تكلفة على الكيان الصهيوني. فإسرائيل ظلت، طوال عقود، تصرّ على فرض تسويات تخدم مصالحها أولاً وأخيراً، على شاكلة فرض الحكم العسكري وتوسيع المستوطنات وإبقاء البيت الفلسطيني منقسماً عبر تأليب بعض الفصائل ضد السلطة الفلسطينية تارة وضد بعضها البعض تارة أخرى بغية إضعافها والتهرب من الحوار السياسي معها. كما سعت لعرقلة أي مفاوضات خاصة ببحث القضايا العالقة في الصراع الإسرائيلي- الفلسطينية بشكل جدّي. وبدل الحل العادل والنهائي، شهدنا فورة صفقات التطبيع والترويج لـ”إتفاقيات أبراهام” على حساب ما تبقى من حقوق الشعب الفلسطيني. “طوفان الأقصى” جاء ليكسر كل محاولات تصفية القضية الفلسطينية، فأعادها نقطة أولى في جدول الأعمال العالمي؛ لذا، على الولايات المتحدة، صياغة استراتيجية جديدة للشرق الأوسط، والتوقف عن تجاهل الحقائق التي أدارت ظهرها لها منذ فترة طويلة، وفي مقدمتها حقوق الشعب الفلسطيني. عليها أن تجعل حل الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني جزءاً من سياستها في المنطقة، وصولاً إلى فرض خيار إقامة دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة. مؤسس حركة الجهاد الإسلامي، الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، قال مرة إن “هذه الأمّة على موعد مع الدم، دمٌ يلوِّن الأرض، دمٌ يلوِّن الأفق، دمٌ يلوِّن التاريخ، دمٌ يلوِّن الدم. ونهرُ الدّم لا يتوقّف، دفاعاً عن العقيدة والأرض والأفق والتاريخ“. وبإسم الدفاع عن العقيدة والأرض والأفق والتاريخ دفع الفلسطنيون الكثير من الدماء وربحوا الجولة الأولى من المعركة. والهزات الارتدادية لزلزال “طوفان الأقصى” مستمرة، وتقلب كيان العدو ومجتمعه رأساً على عقب كل يوم: في الميدان وعلى جبهات القتال، كما في استنفار واستنهاض نبض الشارع العربي والغربي لمصلحة القضية الفلسطينية. فما حاكه الكيان الصهيوني طوال عقود طويلة من أجل تمزيق شعوب المنطقة (آخر تجلياته كانت سني شيعي) جرفه “طوفان الأقصى”. وإسرائيل ستكتشف قريباً أنها ليست فقط غير قادرة على تحقيق هدفها المعلن من الحرب الدائرة الآن، المتمثل في “تدمير حماس وإنهاء حكمها في غزة”، بل إنها سوف تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع مواطنيها الذين أصبحوا يائسين وغاضبين بعد أن فقدوا الأمان، وستنتظرها مشكلات وأزمات حقيقة عندما تبدأ الهجرة المعاكسة للمستوطنين من فلسطين. وهذا ما أقر به المحلل الإسرائيلي آري شبيت في صحيفة “هآرتس”، في 15 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بقوله: “إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة.. يبدو أننا نواجه أصعب الناس في التاريخ، ولا حل معهم إلا الإعتراف لهم بحقوقهم وإنهاء الاحتلال..”.
إِنَّ غداً لنَاظِرِهِ قَرِيبُ.. والنصر دائماً نراه قريباً.