عندما نشأت العلمانية في أوروبة، لم تكن إلا صورة جديدة منقحة لعلمانية المجتمع الروماني الوثني القديم، والتي تعود جذورها الحقيقية إلى عهود ما قبل المسيحية في المجتمعات اليونانية وغيرها من المجتمعات الوثنية القديمة. وهي، وان اكتسبت تنظيراً فلسفياً مادياً جديداً، فان ذلك يعود إلى ما أحاط بها من تحديات وملابسات وظروف مستجدة في الواقع الأوروبي، ويشمل النواحي: الدينية والاجتماعية والتنظيمية.. وفي طليعة تلك الملابسات والظروف، وجود سلطة كنسية كاثوليكية (طبقة الإكليروس) مارست القهر والتعسف باسم الدين، وأعلنت الحرب على العلم والعلماء والمتنورين بالاعتماد على الشعوذات والخرافات والأساطير، وصكوك الغفران. ومن هنا، نشأت إشكالية كبيرة بين الكنيسة (طبقة الإكليروس) من جهة، وبين العلم والعلماء من جهة أخرى.. وكانت العلمانية ردة فعل عارمة على الدين وأهله.. دون أن يحسب العلمانيون حساباً دقيقاً يميزون فيه بين جوهر الدين وممارسات رجاله المتمثلة برجال الاكليروس ذوي المصلحة في استمرار التسلط والنفوذ والسلطة.. فكانت العلمانية، ومنها الزواج المدني، في الأصل والأساس، حلاً للمشكلة القائمة بين الطرفين ( العلم والكنيسة) دون سائر المشاكل الأخرى في الدولة والمجتمع .
فهل نعاني نحن، في شرقنا العربي، ولبنان منه، من المشاكل نفسها التي عانت منها أوروبة ، حتى نستطيع القول: إن المشاكل نفسها في الظروف نفسها، تستوجب الحلول نفسها .. !؟
هل أفرزت المسيحية في الشرق وكنيستها، طبقة متحكمة متسلطة، حاربت العلم وأهله ومدارسه ونظرياته؟؟ وهل أنتج الاسلام طبقة من هذا النوع، أو كان له موقف من العلم شبيه بما كان يجري في الغرب باسم الدين زوراً وبهتاناً وإرجافاً .. !؟
وهل صحيح أن تطبيق العلمانية، بما فيها الزواج المدني، يحل أزمات التخلف والطائفية والتبعية ..!؟
إنها أسئلة تطرح نفسها اليوم، وتحتاج إلى إجابات واضحة ودقيقة، نستند فيها الى العقل والمنطق وقوانين علم الاجتماع، بكل هدوء وروية وتمعن، بعيداً عن الارتجال والغوغائية والتقليد الأعمى...
يرى بعض الناس أن إطلاق قانون مدني للزواج يخلصنا من الأزمة الطائفية ومرضها الذي يعاني منه مجتمعنا.. وكأن ايرلندة، وهي الدولة الغربية، تخلصت من هذا المرض بالعلمانية المطبقة فيها منذ زمن بعيد..!!
أو كأن غياب الزواج المدني أدى الى الحروب الأهلية في المنطقة منذ ما يزيد على قرن ونصف ..!؟
وفي حين يرى البعض، أن الزواج المدني يؤدي الى وحدة الولاء للوطن والأرض.. فإن آخرين إجتهدوا، و"فكّروا مليّاً"، فوجدوا فيه طريقاًَ الى التقدم والازدهار و"العصرنة" وخطوة أولى للخلاص من التخلف والتبعية للخارج.. وفي ذلك جهل، ما بعده جهل، بحقائق التاريخ والجغرافية وعلم الاجتماع
ففضلاً عن أن العلمانية، ومنها الزواج المدني، حل لمشكلة غير موجودة، في بلادنا على الأقل، فإن حقائق التاريخ، وتجربتنا الحضارية الطويلة، تبيّنان لنا أن المسلمين والمسيحيين عاشوا أكثر من عشرة قرون وهم يطبقون قوانين الزواج الشرعي دون أن يحدث عندهم ما يدعو إلى التفرقة والتعصب والطائفية البغيضة.. ودون أن يتحوّلوا إلى شلل وفرق، تابعة لهذه الدولة الكبرى أو تلك.. وظلوا يسيرون بخطى ثابتة على طريق التقدم والحضارة، دون أن يفتّت من عضدهم ووحدتهم، مواجهتهم الموحدة للفرس والبيزنطيين والمغول والتتار والصليبيين.. وذلك منذ القرن السابع، وحتى القرن الثامن عشر الميلاديين ..
إن الطائفية التي سعّر نيرانها الاستعمار الغربي والتركي في بلادنا.. لم تكن بسبب قانون الأحوال الشخصية.. وانما لأسباب لم تعد خافية على أحد. وكذلك فإن الحرب اللبنانية لم تكن بسبب هذا القانون، وانما بسبب التدخل الخارجي، الذي وجد أرضه الخصبة، بالظلم الداخلي: الاجتماعي والسياسي والمناطقي، والذي مورس بوحشية لعهود وعقود خلتْ ...
إن حل المشكلة الطائفية يكون بإلغائها.. وليس بقانون يفكك تضامن الأسرة، والذي هو جزء من تضامن الوطن الذي يريدون له الغرق في الفساد والانحلال والفوضى .
أما التبعية والتخلف، فإن حلَّ مشكلتهما لا يكون بزواج مدني أو بعلمانية لا مبرر لها.. وإنما يكون بقيام نظام عادل ومتوازن، ومنبثق من إرادة شعبية حرَّة. ولنا في تركية برهان على ذلك، فقد أخذت بنواصي العلمانية، منذ مطلع القرن العشرين، فهل أصبحت تركية، اليوم، في مصافي الدول المتحررة والمتقدمة والراقية..!؟
إن العلم يفرض أن نشخص المشكلة ثم نعالجها.. والتجربة توضح لنا، أن البديل عن دولة حقوق الطوائف، هو، إقامة دولة حقوق المواطن.. وعلم الأولويات يحتّم علينا الاهتمام بعشرات آلاف الشباب الذين لا يجدون مسكناً يأوون إليه، أو عملاً يعيشون منه، أو مستشفى يتخلصون منه من آلامهم وأوجاعهم ..
إن المرء في لبنان، ليكفر بالنظام الطائفي مرات ومرات.. على الأقل، مرة عندما يشاهد الحرمان والإهمال وقد خيّما في قرى عكار والهرمل والأحياء الشعبية لغير منطقة ومدينة.. ومرة عندما يرى هذا الإلحاح في تطبيق قانون الزواج المدني، بينما قانون الانتخابات نائم في الأدراج، والله وحده يعرف متى يبصر النور ..!! ومرة ثالثة عندما يجد أن، من المقدسات، توزيع المناصب والوظائف والمغانم على أساس طائفي، ومرات ومرات. عندما لا يجد عدلاً. لا في الوثنية القديمة، ولا في الوثنية الحديثة ..!!
أما مثل المتحمسين للعلمانية في بلادنا فأشبه ما يكون بذلك الرجل الذي وقف يهتف بالمتظاهرين : فليسقط وعد بلفور .. فظنوه يقول : فليسقط واحد من فوق .. وراحوا يرددون وراءه .. فليسقط واحد من فوق .. ورغم الحماسة المفرطة للهاتف والمرددين ، فلا وعد بلفور سقط .. ولا سقط واحد من فوق .. كالسقوط المريع للعلمانية من علو شاهق انتحاراً .. في التربة الشعبية العربية
خلاصة القول : إن العلمانية حل لمشكلة ليست موجودة عندنا .. ولا حاجة لنا بدواء ليس له داء .. حتى ولو مهما حاولنا بها توفيقا وتلفيقاً وتعديلاً .. إنما نحن بحاجة ماسة لدولة " مدنية " تقيم العدل والحرية والوحدة على صروح متينة وواضحة وثابتة ...
عكار . لبنان
.....................................................................
* نشرت في جريدة النهار اللبنانية ، الثلاثاء في 3 آذار ، 1998م.