مهما طال العمر فهو قصير.. إحساس راودني في حياتي مرتين، الأولي.. عندما رحل المهندس حسن فتحي في 30 نوفمبر 1989، والذى استلهمت منه الكثير عن التراث المصري، والثانية.. هذه الأيام بفراقي للأستاذ هيكل الذى عوضني الله به بعد رحيل والدى وهو فى ريعان الشباب. إن هذه المقولة لا تنطبق إلا على الشخصيات الفذة النادرة القادرة على العطاء بلا حدود، المؤثرة في محيطها وبلدها، والمعبرة عن الثقافة الوطنية بأصالة وعمق، والمتأثرة بالتقدم العلمي والمنفتحة على العالم.
علاقة الصداقة بين جمال عبد الناصر وهيكل:
لقد ظل منذ قيام ثورة 1952 أو قبلها أثناء حرب فلسطين 1948 على علاقة وثيقة بوالدي. وكنا معتادين أنا وإخوتي عندما ندخل حجرة نومه ونجده يتكلم مع الأستاذ، لا ننتظر بل نخرج لأننا نعلم جيدا أن المكالمة ستطول! وكان هيكل هو الوحيد من زوارنا الذى يدخن السيجار، فكانت رائحته في مدخل البيت تساعدنا على معرفة شخصية ضيف والدي! واعترف أننى حتى الآن إذا تعرضت إلى رائحة السيجار تقفز الى ذهني فورا صورة أ. هيكل. وكانت زيارات أ. هيكل إلى منزلنا تتزامن في كثير من الأحيان مع مناسبات إلقاء الخطب الرسمية التي كانا يتناقشان باستمرار في موضوعاتها....لقد كان هيكل بالنسبة إلى والدى صديقا أمينا يعبر دائما عما يؤمن به، كما كان محاورا لا يلين، وأفاد والدى كثيرا بحركته الدائمة، وعلاقاته الواسعة بمختلف الاتجاهات السياسية في مصر والعالم العربي، وبالطبع باتصاله بأهم الصحفيين في العالم، وتدبير لقاءات معهم جمعتها في كتاب بلغ أكثر من 900 صفحة.. «عبدالناصر في مواجهة الصحافة. وكان هيكل كثيرا ما يُدهش والدي، الذى كان يحكى لنا عن نوادره؛ وذلك حين قال له مثلا إن بيتنا فرشه ليس جميلا، وإن الصورة الزيتية المعلقة في الصالون الرئيسي لا قيمة لها! وكانت هدية من أحد الشخصيات الايطالية. وكان تعليق والدي.. أنه لا يحب التحف! أما الصورة الذى تمثل شابا يهدى فتاة حفنة من الياسمين، فإنها تعجبه بغض النظر عن قيمتها المادية أو الفنية!..لقد كانت العلاقة بين هيكل وعبد الناصر ديالكتيكية أخذ وعطاء تثمر دائما فائدة للطرفين، وبعبارة أخرى كان الأستاذ هيكل ندا له في النقاش، وكل منهما له خيال خصب ويستطيع أن يحلم بتحقيق الكثير للبلد وللشعب العربي....وأذكر أنه أثناء ترتيب أوراق والدى بعد رحيله وجدت بيتين من الشعر بخطه، فانتابني الفضول! اتصلت بهيكل - لمعرفتي بعشقه للشعر وحفظه الكثير من أبياته وسألته عن مغزى هذين البيتين:
دعمتها بالواهيين وصنتها بالضائعين لكى تطيل بقاءها * إن كان هذا للبقاء فيا ترى ما كنت تفعل لو أردت فناءها؟!
قهقه عاليا.. واخبرني أنه بعد أن أجرى والدى تعديلا وزاريا في الستينات (معرفتي بذهن هيكل تصل تعليقه بواحد من اثنين : اّخر وزارة للوحدة - اّب 61 , أو وزارة علي صبري الثانية - مارس 64 - كمال) ، اتصل به تليفونيا ليٍسأله عن رأيه في الوزارة الجديدة؛ فتلى هذين البيتين من الشعر! وكان قد كتبهما كامل الشناوي في عام 1947، وأرسلهما الى حسين سرى رئيس الوزراء بعد إجراء تعديل في وزارته.
الكفاءة فى مهنته:
وأعتقد أن أهم ما كانت تتفرد به علاقة والدى بهيكل، الكفاءة البالغة في العمل، فقد كان يستطيع أن يعتمد عليه في أي مهمة إعلامية أو سياسية، حتى ولو فشل فيها المسئولون الأصليون، وهذا ما كان يضعه في كثير من الأحيان في مواقف حسد أو عدم قبول من جانب البعض!...وكمثال على ذلك ما رواه لي الفريق فوزى في حوار مسجل في مايو يوليو 1996 عن عملية الزعفرانة أثناء حرب الاستنزاف فى 9 سبتمبر 1969، وهى تبعد 100 كم جنوب السويس، ما الذى حدث؟.......كان عبدالناصر في زيارة للجبهة، وأثناء حضوره مناورة اختبار للفرقة 21 المدرعة الجديدة لأول مرة، حضر اللواء عبد الغنى الجمسي، وأبلغ أن قوة صغيرة من العدو الإسرائيلي نزلت شاطئ الزعفرانة، وقطعت الطريق، وهاجمت موقع رادار موجود على الساحل صباح هذا اليوم.
- سأل الرئيس.. أتوجد معلومات؟
- رد اللواء الجمسي.. لا توجد.
فطلب الرئيس من اللواء أحمد اسماعيل رئيس أركان حرب القوات المسلحة أن يذهب ليرى ما حدث ويزوده بالأخبار، وقال: ويمكنك أن تتصرف على قدر ما تستطيع.بعد فترة قصيرة انتبه الفريق فوزى الى أن الرئيس يشعر بالقلق، ثم بادر بقوله: لا أطيق البقاء! ولم يرجع أحد بمعلومات، فيستحسن أن نذهب لنرى ما الموقف...رجع الرئيس الى البيت، وذهب الفريق فوزى الى قيادة الجيش، فوجد اللواء أحمد إسماعيل هناك، فدار الحوار التالي:
- الفريق فوزي: لماذا لم تذهب الى الزعفرانة؟!
- اللواء اسماعيل: لقد وجدت أنى أقدر أن أحصل على معلومات أكثر من هنا.
- الفريق فوزي: إنه لا توجد مواصلات، من أين ستحصل عليها؟
- اللواء اسماعيل: كنا نقدر عن طريق مواصلات الحدود.
أعطى الفريق فوزى فكرة للرئيس عبد الناصر عما حدث، فسأل.. وهل حصل على معلومات؟ فعرف أنه لا يوجد شيء، فقال له: هذا لا ينفع! وعلم الفريق فوزى بعد ذلك أنه اتصل بهيكل الذى أعطى له التفصيلات من وكالات الأنباء!...وكانت القوة الاسرائيلية المهاجمة عبارة عن سرية ميكانيكية، ومعهم طاقم إعلامي قام بتسجيل العملية على فيديو لاستغلالها في الدعاية ضدنا!..واستطرد الفريق فوزي.. بلغت الرئيس فقال لي: ابحث كيف يتم تعزيز الموقف، ولكن أحمد إسماعيل لا يستمر! وصدر قرار بإحالته للتقاعد، وثاني يوم هذا الحادث في 10 سبتمبر 1969 (لا ... حدث في 11 سبتمبر - كمال) أصيب والدى بأزمة قلبية!...وأثناء حرب الاستنزاف أيضا، وفى خضم المعركة العسكرية والسياسية والإعلامية التي استمرت أكثر من ثلاث سنوات، ساهم الأستاذ هيكل بالكثير من أجل مصر، حتى أن والدى قرر في 1970 أن يعينه وزيرا للإعلام....وكان رد فعل الأستاذ غريبا أدهش جمال عبد الناصر.. فقد أرسل له خطابا وجدته ضمن أوراق والدى - يرفض فيه الوزارة، لاعتقاده بأنها تتعارض مع الصحافة.. وفيما يلى نصه..
سيادة الرئيس:
إن المفاجأة التي تلقيتها ظهر اليوم بترشحي وزيرا للإرشاد القومي كانت مفاجأة كبيرة، كما أنها كانت شرفا أكبر، ذلك أنها كانت شاهد ثقة أعتز بها وأفخر لأن مصدرها هو ذلك الزعيم والقائد الذى تتجسد فيه الوطنية المصرية في مرحلة من أهم مراحل التاريخ وأحفلها، فضلا عن أنه الزعيم والقائد الذى تتمثل فيه كل أماني التقدم الاجتماعي وآمال الوحدة العربية.
وإذا أذنتم لي سيادة الرئيس فإني أرجو أن أضع تحت نظركم بعضا من الظروف الخاصة التي تدعوني الى أن التمس منكم معاودة بحث الأمر فيما يتعلق بي، وهذه الظروف كما يلي:
إن الصحافة هي مهنتي منذ ثمانية وعشرين عاما، ولم أعرف لنفسي في حياتي عملا غيرها، لدرجة أستطيع أن أقول معها بإخلاص إن هذه المهنة هي حياتي ذاتها.
إنني عن طريق هذه المهنة خدمت وطني بقدر ما وسعني الجهد، ومن خلال خدمتي لوطني فقد جاءت خدمتي للثورة التي كان لكم فضل قيادتها، والتي سوف يذكر التاريخ لها - مهما كان أو يكون - أنها نقلت مصر الى القرن العشرين بآماله وأفكاره وآفاقه الواسعة.
لقد استقرت أفكاري وأهدافي منذ وقت طويل على أن مستقبلي هو العمل الصحفي وحده، وقد بلغ ذلك في يقيني مبلغ المبدأ، وذلك إحساس أنتم أكثر من يقدره بحسكم الصافي وإيمانكم العميق.
أنكم تعرفون ما يعنيه الأهرام بالنسبة لي، كما أنكم تعرفون ما يؤديه الأهرام في مجال الخدمة العامة، ولقد فعل الأهرام ما فعل وحقق ما حقق بفضل رعايتكم له، وأصبح في النهاية مركزا من مراكز التقدم في وطننا وفى العالم العربي. وأنا أشعر وقد يكون في ذلك غرور التمس منكم اغتفاره لي أن وجودي في الأهرام في هذه المرحلة ضروري لاستمرار دوره، وحتى لو لم يكن ذلك صحيحا فإني أحب أن أتصوره. كما أنى بصدق لا أستطيع أن أجد لنفسي عملا أحبه خارج الأهرام، ولقد أحسست في الساعات الأخيرة أن كل من في الأهرام يشاركني هذا الشعور، وصدقني
- ياسيدى الرئيس أنه كان هناك من جاءوا لتهنئتى والدموع في عيونهم!.
إن قراركم الكريم الذى يسمح لي استثناء بأن أجمع بين الوزارة وبين العمل في الأهرام يلقى على مالا أستطيع تحمله، وأعرف مقدما أن جهدي كله سوف يميل إلى جانب الأهرام، وليس ذلك انصافا لمسئولية أخري، وفضلا عن ذلك فإن الجمع له محاذير لعدة أسباب:
لأن هناك تعارضا بالطبيعة بين العملين.. الصحافة والوزارة، ثم لأن الجمع بين رئاسة تحرير الأهرام ووزارة الإرشاد القومي سوف يجعل في يد فرد واحد من أسباب القوة السياسية؛ ما يمكن أن يحوله بحق الى مركز قوة، وتلك إساءة الى النظام إذا وقعت. وأخيرا، فإن الجمع سوف يثير حساسيات لا داعى لها بين زملاء المهنة، خصوصا إذا ظهر انحيازي للأهرام، وسوف يحدث ذلك يقينا بحكم صلتي به وانتمائي اليه وشعوري بالاتفاق مع كل شخص فيه حتى أحجاره الصماء.
إن هناك مشكلة سوف توجد لي على الفور؛ وهى مشكلة مقالي الأسبوعي بصراحة، وقد أصبح هذا المقال جزءا لا يتجزأ من كياني، كما أنه ارتباط وثيق بصلة القلم مع مئات ألوف من قراء الأهرام في مصر، وسوف يزداد اللبس بين آرائى وآراء الحكومة، وهو لبس يقع بالفعل بغير وزارة، فكيف إذا أضيفت له الوزارة؟!.
إنني - ياسيادة الرئيس لا أستطيع أن أكف عن الكتابة لأنها حركة التنفس بالنسبة للكاتب. ولنفرض أنى واصلت الكتابة فإني أترك لسيادتكم مدى التعقيدات التي يصنعها ذلك.
إن الوزارة تتطلب استعدادا آخر لا أظنه يتوفر لي، كما أن مهامها محاطة بظروف لا أظنى أهل لها، وليكن ذلك تهيبا، لكن لكل إنسان حدوده وطاقاته ومن الخير أن يعلم كل إنسان بأن له حدودا وطاقات لا يستطيع تجاوزها.
سيادة الرئيس:
إنني أجد نفسى أمام خيار صعب والتمس منكم أن تجنبوني مشاقه، إنه ليس خيارا بين عملين وإنما هو أبعد من ذلك بكثير.
سيادة الرئيس:
إنني أعرف مشاعركم نحوي، وسوف أبقى طول العمر مطوقا بفضلكم وبرعايتكم لي ولعملي، ويكفيني للتاريخ أن يقال عنى أنى أديت دوري في الخدمة العامة للوطن تحت رايتك المنتصرة بإذن الله.
وتقبلوا - ياسيدى الرئيس - تحية من أعماق القلب، وسلمت وعشت لوطن منحته من حبك وإخلاصك وجهادك ما هو كثير كثير.
وسلمت وعشت ياسيدى الرئيس لكل الذين يؤمنون بقيادتك وبدورك التاريخي وبقدرك الذى هو قدر مصر.
وأتذكر أن والدى علق قائلا: إن للوزارة رونقا ومن الصعب رفضها، ثم إنني اخترته لأنى أحتاجه في هذا المنصب ليساعدني أكثر! وفى النهاية، خضع الأستاذ هيكل لرغبة صديقه على أن يرجع «جورنالجي» مرة أخرى بعد إزالة آثار العدوان.
هيكل وأسرة عبد الناصر بعد الرحيل:
وحتى الآن فإني أكتب عن هيكل الإنسان القريب من جمال عبدالناصر، ولكن ما أثر في أكثر هو علاقته بنا بعد رحيل والدي.
أولا.. من الطبيعي أن يكون أول الحاضرين الى منزلنا يوم 28 سبتمبر 1970، وقد اجتمع المقربون من المسئولين في الصالون في الدور الأسفل. وكان هيكل هو الذى اقترح المكان الذى دفن فيه والدي، وهو جامع ظل تحت الإنشاء لمدة طويلة، ولاحظه عبدالناصر لأنه في الطريق إلى قصر القبة، وعرف بأنه مملوك لجمعية خيرية فأمر بإنهاء بنائه. وبالطبع لم يكن أحد يعرف هذه القصة إلا هيكل.
يضاف الى ما سبق، أن هذا الجامع يقع على حد سور مبنى قيادة الجيش، وهو المكان الذى بدأت منه ثورة 23 يوليو 1952؛ حيث تم القبض فيه على قادة الجيش عندما كانوا مجتمعين في هذه الليلة. وقد خط هيكل بقلمه الكلمة التي كتبت على ضريح عبدالناصر.. «رجل عاش لأمته واستشهد في سبيلها»....
وأيضا كان لهيكل الأسبقية في اقتراح إجراءات الجنازة ومسارها، من مجلس قيادة الثورة على النيل في القاهرة إلى الجامع الذى ضمه في حدائق القبة...وكانت والدتي قد طلبت منه عند بناء المقبرة أن يخصص لها مكانا بجواره، وتمت الاستجابة إلي رغبتها، وبعد عشرين عاما لحقت به هي الأخرى.... وكنت دائما أشعر بأن هيكل يخصني بمشاعر خاصة كابنته، ولن أنسي أنه يوم مناقشة رسالتي للدكتوراه في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1985، عندما دخلت المدرج فوجئت بحضوره، ففرحت جدا، إلا أنني في نفس الوقت شعرت بعبء أكبر، فقد أصبحت تحت «الميكروسكوب» ليس فقط من أساتذتي الممتحنين وإنما أيضا من هيكل الذي عاش الفترة التي تناولتها الأطروحة عن: «الحركة الوطنية المصرية 1936 1952»، ولا يعجبه العجب! وكنت أخشي تعليقاته اللاذعة، ولكن بحمد الله اجتزت الامتحانين بجدارة..... ولعب هيكل كصديق لوالدي دورا في حياتنا بعد رحيله، فقد كنت دائما ما أطلب منه المشورة في الفترات الصعبة التي مررنا بها كأسرة جمال عبدالناصر. لقد كان مجرد الحديث اليه والاستماع الي آرائه في جو عائلي، مريحا ومطمئنا لنا الي أبعد الحدود. وكانت تفسيراته الفريدة لكثير، مما كان يحدث علي المسرح السياسي المناوئ، تثير خيالي، وتزيد من ثقتي في الحياة.
وفضله علي شخصيا لم يكن في هذا المجال فقط، وإنما لقد أثر في ميولي الي الفن التشكيلي المصري، وكنت قد بدأت في هذا المجال بالتعرف الي سيف وانلي حيث كنا نقضي الصيف كل عام بالإسكندرية.... وبعد رحيل والدي أحاطنا الجميع بالعطف والرعاية، فمثلا.. فوجئت في يوم أن نظر الي الرئيس السادات وقال لي: يا ابنتي.. يسعدني أن تكوني معي وكان يعرف أنني كنت أعمل مع والدي وشكرته علي هذا العرض الكريم، ثم تلاه اقتراب آخر من جانب السيد حافظ اسماعيل رئيس المخابرات العامة (هو ترك المخابرات في 16 أكتوبر 70 - أي بعد اسبوعين فقط من الرحيل - ليصبح وزيراً للدولة , ثم أصبح مستشار الأمن القومي للسادات في سبتمبر 71- كمال)، فأجبته بالمثل. وبعد ذكري الأربعين لوالدي، ذهبت إلي هيكل، وطلبت منه أن أعمل بالأهرام. فوجئ، ولكنه رحب بي وأنشأ وحدة في مركز دراسات الأهرام خاصة بالثورة المصرية....وفي الأهرام دخلت عالما جديدا علي انفتاح بلا قيود الرئاسة، حرية بلا حدود في كل شيء، اتصالات بحجم كبير لم أعهده، ولم أكن قبل ذلك أختلط كثيرا، فعملي في رئاسة الجمهورية كان نطاقه الإعلامي محدودا....وضعني هيكل في البرج بالدور السادس، ووجدت نفسي أجاور مكاتب الأدباء وكبار الكتاب الذين كان يفخر بضمهم للأهرام.. توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، يوسف إدريس، لويس عوض، د. عائشة عبد الرحمن، حسين فوزي، أحمد بهجت، اسماعيل صبري عبد الله، محمد سيد أحمد.. إلخ. هؤلاء الذين كنت أقرأ لهم ولكني لم أكن أعرفهم شخصيا، وفي الحقيقة كلهم أظهروا لي مشاعر المحبة وقدموا لي واجب العزاء. وكانت مكاتبهم دائما تزخر بالمناقشات التي كان يعلو الصوت فيها في كثير من الأحيان، وتصحبها غالبا ضحكات من القلب كانت تضفي علي المكان الجميل انشراحا وسعادة....ظللت لعدة أيام وحيدة في مكتبي، إلا عندما ينادي علي الأستاذ توفيق الحكيم الذي كان يشع مرحا ويوجه الكثير من الدعابات، أو عندما يطلبني الأستاذ هيكل ليطمئن علي. وفي يوم فٌتح باب مكتبي وتقدمت مني صحفية شابة لم أكن أعرفها من قبل، وقالت: إنها تريد أن تقدم لي العزاء بنفسها. شكرتها، ثم بَدَأت حديثا جعلني أفغر فاهي من غرابته! قالت لي: ألا تعرفين أنكم تتمتعون بميزات كبيرة لم يحصل عليها أحد من قبل؟! وتقصد بذلك قرار مجلس الشعب بتخصيص مرتب رئيس الجمهورية لوالدتي، وكذلك منزل منشية البكري وفيلا المعمورة إلي آخر عمرنا....رددت عليها قائلة: إن ذلك كله هو شيء لم نطلبه وليس لنا يد في تحقيقه! وعلي الفور جاء في ذهني بيت الشعر..
«حتي علي الموت لا أخلو من الحسد»!
ومن جانب آخر، اكتسبت في الأهرام صداقات كثيرة اعتززت بها.. محمد سيد أحمد، أمينة شفيق، عبد الوهاب المسيري، اسماعيل صبري عبد الله، د. عائشة عبد الرحمن التي أصرت علي زيارة والدتي عدة مرات.. إلخ.... وأتاح لي جو العمل في الأهرام الفرصة للانطلاق، وكان الأستاذ هيكل يشجعني في ذلك، فقد كانت طبيعتي تميل الي التحفظ. إن الجو الثقافي في أهرام ذلك الوقت كان مليئا بالندوات والمحاضرات من مصريين وأجانب.. كله حياة وفكر متجدد باستمرار؛ يعتمد علي تواصل الأجيال وحرية الرأي والتعبير...يضاف إلي ما سبق أن تحققت معرفتي بالأقسام المختلفة بهذه المؤسسة العريقة التي جعلها الأستاذ هيكل تضاهي أهم المؤسسات الصحفية العالمية في الكفاءة والتأثير. وقد كان هو أول من صحبني في جولة في المبني في شارع الجلاء الذي لم يكن قد مضت علي افتتاحه سنتان. وبالطبع كل ذلك أضاف الي خبراتي الأكاديمية الكثير واعتبرته مكسبا عمليا لا يعوض..
ثانيا هيكل «الجورنال جي:
هذا هو اللقب الذي كان يفضله، وهناك العديد من رسائل الدكتوراه التي تناولت هذا الجانب من شخصية هيكل بالبحث والتحليل، وأعني الصحفي والسياسي المثقف الواسع الاطلاع المتعدد الاتصالات، ولكني سأشير هنا فقط الي تجربتي مع مقالات «بصراحة»...فمنذ ستة عشر عاما بدأت مشروع توثيق تراث والدي، ولم يكن متاحا لي سوي أوراقه الخاصة التي كانت في مكتبه في منزلنا في منشية البكري، فلم تفرج الدولة حتي الآن عن أي وثائق تتعلق بثورة 23 يوليو 1952....وبدأت أضع خطة العمل، وقررت الاستهلال بمقالات الأستاذ هيكل في الأهرام تحت عنوان «بصراحة»، والتي بدأها في 9 يناير 1957، لماذا؟ لا: هذه المقالات كانت مصدرا مهما للمعلومات بالنسبة للقارئ، فقد كان الأستاذ هيكل قريبا من عبد الناصر، يتصل به يوميا.. يعطي ويأخذ ويناقش ويحلل...
ثانيا: الانسجام الفكري بين الصديقين، مع حرية أكبر في الحركة والاتصالات بالنسبة لهيكل، كل ذلك انعكس علي هذه المقالات. وإن كان ذلك لم يمنع نقده لبعض مؤسسات الدولة وبعض المسئولين وبعض السياسات، مما جعل من هيكل عدوا لهم يتربصون به.
ثالثا: كان هيكل يرافق والدي في رحلاته ثم يكتب عنها، وعندما أردت أن أجد مثلا وصفا لرحلاته الي الجزائر بعد تحريرها في 1963، والي اليمن بعد الثورة في 1964، لم أجد إلا مقالات «بصراحة» في الأهرام التي تصور كل هذا بأسلوب جميل دقيق ومشاعر فياضة. بل لقد دهشت عندما عرفت أنه ذهب الي موسكو قبل زيارة خروتشوف الي مصر في 1964، واستقل معه باخرته، ثم كتب عنه كإنسان وكسياسي عدة مقالات رائعة...
رابعا: كثيرا ما كان هيكل ينقل آراء عبد الناصر أو يكتب علي لسانه كلاما، وتلك معلومات نقيمها في الأبحاث أنها مصادر «درجة أولي».
خامسا: لقد كان والدي أيضا محظوظا لأن هيكل كانت له قدرة علي الشرح والتحليل لا يجاريه فيها أحد، فقد كان يقرأ أكثر مما يكتب وأرشيفه منظم جدا، ولا تخلو مكتبته من كتاب عربي أو أجنبي يضم اليها فور صدوره.
سادسا: هذه المقالات التي وصلت في دراستي الأخيرة لها حتي مايو 1967 - حيث وصلت في أبحاثي - مازالت تدهشني، وكثيرا ما دونت مراجع عربية وأجنبية ذُكرت فيها، بل إن بعضها كان مثارا لنقاش بين ناصر ورؤساء دول عربية، مثل مقال «إني أعترض» الذي اشتكي منه البعثيون أثناء محادثات الوحدة الثلاثية في عام 1963. لقد تركوا موضوع الوحدة بأكمله، وأخذوا يدافعون عن أنفسهم ويهاجمون هذا المقال وكاتبه! ولم يكونوا صادقين، فقد واجههم عبدالناصر قائلا: وماذا عن مقال «ملكيون أكثر من الملك» (يقال أن كاتبه هو مصلح سالم , وفي قول اّخر عبدالمحسن أبوميزر رئيس التحرير- كمال) الذي هاجمتم فيه «الاستبداد المصري»، واقترحتم وحدة بلا عبدالناصر»! وجري الحوار التالي..
عبدالناصر: «مقالة هيكل يوم الأحد التي كان عنوانها «إني أعترض» رأيتها، ولكن لم أكن أتصور أبدا أنها مقالة تهدف الي إسقاط حكومة! هيكل كان كاتب ثلاث مقالات رد على كل المواضيع التي طلعت في جريدة البعث، وبعد أثر المقال الأول طلبت منه أن ينتظر ويصبر.
صلاح البيطار: أذيع له مقال.. سيادة الرئيس.
عبدالناصر: مثل ما أذيعت مقالات جريدة البعث من دمشق!... وتذاع أيضا من بغداد، مقالة «ملكيين أكثر من الملك» أذيعت من دمشق ومن بغداد!...
أنا أقول وثيقة الانفصال الغرض منها كان إسقاط الحكم في مصر، وليست مقالة حسنين هيكل التي غرضها إسقاط البيطار. ولكن.. لم يسقط الحكم في مصر! أنتم معتقدون أن الحكم في مصر ديكتاتوري! الحكم في مصر فردي!... الكلام الذي تقولونه ونشرتموه في جريدة البعث وفي التعميمات»!
والأكثر من كل ذلك شكوى الملك فيصل شخصيا من هيكل والأهرام، ففي مباحثات عبدالناصر معه في القاهرة، في 18 ديسمبر 1969، قال عبدالناصر: «إننا نعتبر تعاوننا عام 1967 في الخرطوم هو تاريخ فاصل في العلاقات بيننا»، وذلك بعد الاتفاق علي إنهاء حرب اليمن. فأثار الملك فيصل موضوع الأهرام مؤكدا.. «يُقال عنه إنه الناطق الرسمي للرئيس عبدالناصر شخصيا»! رد عبدالناصر: «الأهرام لا يمثل رأيي... إن الجريدة الرسمية هي الجمهورية... إن الأهرام جريدة مطلعة، وهيكل أنشط صحفي، ويبقي 12 ساعة في الجريدة»!
ونجحت في 2004 من الانتهاء من جمع مقالات الأستاذ هيكل في الأهرام، والأخبار، وآخر ساعة، والأنوار اللبنانية، ووضعها علي موقع جمال عبد الناصر بمكتبة الإسكندرية....... www.Nasser.org.......وأصبحت متاحة للباحثين في بيوتهم..
سابعا: كان هيكل يحرص دائما علي أن يوثق كلامه، وكان معروفا عنه ولعه بجمع الوثائق، وخاصة عن مصر والعالم العربي، لذلك قدرت مدى حزنه عندما اقتحمت مجموعة من الإخوان المسلمين حُرمة بيته في برقاش وأشعلوا النار فيه، وهناك كان يحتفظ بكل الوثائق التي جمعها طيلة حياته!.... في 23 سبتمبر 2014، كعادتي كل عام في يوم ميلاده، أجتمع مع عائلة هيكل علي الغداء، وفكرت ماذا أهديه؟ وطرأ لي خاطر أن أقدم له كل ما لدي من وثائق لم تنشر بعد علي «هارد ديسك»، ولكن طبعت قائمتها علي ورق. وعندما قدمتها له قلت: لا تحزن.. لقد استخدمت كل ما عندك من وثائق في مقالاتك وكتبك، أما هديتي فكلها جديد لم يطلع عليها أحد! وكنت سعيدة عندما لم ينتظر الي نهاية المناسبة، وإنما تنحي جانبا وبدأ في قراءة عناوين المادة التاريخية....لقد كان هذا باختصار جزءا مما جال في خاطري مع هذه اللحظات الحزينة، وإذا كنت قد تركت العنان لقلمي لكتبت صفحات وصفحات.. ولكن بالنسبة لي إنسانيا، فإنني أحمد الله أن أعطاه العمر ليشاركنا الحياة، فيكفي أنه كان موجودا سندا معنويا داعما لنا عائلة جمال عبدالناصر في تجربة الحياة بما فيها من خير وشر.
والآن يلتقي الصديقان - هيكل وعبد الناصر بعد غياب 45 عاما مرت كلمح البصر، ولكنه ظل خلالها الثابت علي المبدأ، الوطني الشريف، الذي أعلي بمجهوده وكفاءته وفهمه العميق للحضارة، وتطوره المستمر مع الحديث من العلم كلمة بلاده، ليس فقط في الدول العربية ولكن في العالم كله.