الهوية عبارة عن جملة من الصفات والخصائص الجوهرية التي تميز مجموعة بشرية معينة، تدفعها إلى التمايز في علاقاتها التي تنسجها مع محيطها الإنساني، فتتشكل عبر عملية تنشئة اجتماعية يتعرض لها مجتمع ما على مدى فترة زمنية طويلة نسبياً من جانب كافة النظم والكيانات الاجتماعية. وهي دليل الوعي بالذات، وإثبات الوجود، وضمانة الاستمرار وإعلان تحرر المجتمع والدولة بإثبات شخصيته وهويته الخاصة المميزة عن غيره من المجتمعات. كما أنها البصمة الحضارية الخاصة، والعامل الأهم للأمن القومي للبلاد، حيث تعمل نظرية الأمن القومي على حماية هوية الدولة والمحافظة على وحدتها، واستقلالية قرارها السيادي وترابها الوطني، وحماية فرص التنمية.
والهوية الثقافية لأي أمة هي القدر الثابت والقاسم الجوهري المشترك من الصفات والسمات العامة التي تميز حضارتها عن غيرها من الحضارات، والتي تجعل للشخصية الوطنية أو القومية طابعاً تتميز به عن الهويات الوطنية والقوميات الأخرى.
وعلى مدار التاريخ البشري كانت وما زالت الهوية هي أساس أي فعل بنائي وحضاري، بداية من الهوية الثورية التي تشكل الهوية الخاصة للثوار الأحرار وحركات التحرر الوطني للتحرر من المستبدين الطغاة، وصولاً إلى بناء الدولة الحديثة، حيث تبنى الأمم والحضارات على هويتها والتي تقوم عليها بقية مقومات الدولة، كمعايير لقياس قوة الدولة الحديثة، التي ترتكز أولاً على قوة الشخصية والهوية الخاصة للدولة، والتي تحدد نظام أفكارها وقدرتها على التفكير، ومدى اتساع فضاءات تفكيرها بالإضافة إلى قوتها الأخلاقية والسلوكية، وقدرتها على الأداء والإنجاز والانفتاح والتعايش الداخلي للتنوع المجتمعي، والانفتاح والتواصل والتكامل مع الثقافات والهويات العالمية الأخرى، والتي تنتج بعد ذلك القوة العملية والتكنولوجية للدولة، وتتبعها بتفجير قوتها الإنتاجية والاقتصادية، ومن بعدها قوتها العسكرية والسياسية.
من الطبيعي أن يعتز كل مجتمع بثقافته وهويته الخاصة، والمكونة من هوية عميقة وأخرى ظاهرية، حيث تتمثل الهوية العميقة بالمعتقدات أو الأيديولوجيا التي يؤمن بها المجتمع، والقيم التي يتبناها وتراثه الذي يعتز به، ولغته التي يتمسك بها، وحلمه ومشروعه الوطني الذي سيحدد قيمته وموقعه في العالم، بينما تتمثل الهوية الظاهرية بالعَلَم والنشيد الوطني والفلكلور الشعبي والزيّ الوطني والأكلات الشعبية، والتميّز المعماري والأماكن الأثرية والأعراف والتقاليد والاحتفالات الدينية الوطنية المختلفة، والتي تشكل في مجملها ثقافة ونمط حياة وسلوك المجتمع ومكانته في الفعل والإنجاز الحضاري، كما تمثل القوة الديناميكية المتزنة لتفجير طاقات المجتمع لتقديم أفضل ما لديه وتعزيز مشاركته ومكانته الحضارية عالمياً.
وعلى هذا تأسست الهوية والحضارة العربية الإسلامية وسادت لسبع قرون متتالية، تلتها الهوية والحضارة الغربية الأوروبية، ثم الهوية والحضارة الأمريكية، وما لبثت اليابان أن أعادت تنظيم وصناعة هويتها نحو استعادة مكانتها الحضارية في العالم، تبعتها سنغافورة التي اكتشفت شيفرة البناء الحضاري، وصنعت ببراعة هوية خاصة بها من خلال الاستجابة العالية لتحديات بالغة التعقيد، سرعان ما تحولت إلى دولة كبرى بالرغم من صغر حجمها.
تعرضت الهوية العربية في السنوات الأخيرة وفي ظل العولمة و ثورة الاتصالات وتطور وتوسع تكنولوجيا المعلومات وهيمنة الأسواق العالمية، وتغلغل وسائل الإعلام الرقمي ومنصاته لسلسلة من الاختبارات القاسية نتيجة لحالة عدم الاستقرار التي تعاني منها العديد من دولنا العربية، وبروز تدخلات قوى خارجية غربية تحمل هويات ثقافية مغايرة ومتعارضة في معظم الأحيان مع هويتنا العربية، الأمر الذي فرض علينا ضرورة التصدي لمثل هذا التحدي الهوياتي، في ظل نوع من التفكك والتشرذم تحت عناوين وهويات فرعية تحت وطنية لا تقوى على الصمود والاستمرار نتيجة للتزاحم المفترض فيما بينها أو مع محيطها الإقليمي والدولي، فشكّل التقاطع بين الهوية العربية والعولمة فسيفساء معقدة التكوين، بات يمثل أحد أكبر التحولات الثقافية في النسيج الاجتماعي بالمنطقة في الوقت الراهن.
لم يعد يخفى حجم التأثيرِ الكبير والعميق الذي أصبحت تدفع به هذه المتغيرات في الثقافة العربية واللغة والتقاليد، وباتَ يستوجب التوقف أمامها، وإعادة تقييم مآلات وانعكاسات كل ذلك على الهوية العربية في السياق العالمي الجديد الذي تسوده ثقافة الأقوى والأكثر قدرةً على التأثير في الرأي العام، وهذا الاهتمام غير المسبوق بالهوية العالمية الحديثة، وإن بدأ يظهر في عناوينه بمعايير الحقوق والحريات، فهو ينطوي في حقيقته على أغراض سياسية ومصالح اقتصادية، ما يؤهل القوى الغربية لمواصلة السير بخطى أكثر ثباتاً في اتجاهاتها المناقضة وغير المناسبة للشعوب العربية، بما يشكل عائقاً يحول دون وصول هذه الشعوب إلى مستويات التمكُّن الحضاري الذي يتبلور بتطور اجتماعي واقتصادي وتكنولوجي، وينبئ باستمرار التراجع الاقتصادي وعدم الاستقرار في المنطقة بما يمثل خطراً لا يجوز التغافل عنه، ولا إهمال احتمالاته، وخاصة بما يتعلق بجيل الشباب الأكثر عرضةً لأعراف وقِيم ثقافية متنوعة، سمحت لهم بالتفاعل مع مجتمع عالمي أوسع، وعرَّضتهم لأفكار وثقافات جديدة تتحدَّى الأعراف التقليدية، وشجَّعتهم على بناء نظرة أكثر عالمية، تتجاوز حدود الموروث العربي، بعملية تغييرية ممنهجة ومستمرة ومتطورة، تمثل إحدى صور غَسْل الأدمغة البطيء لإنتاج ثقافة أخرى موازية تناقض مفاهيم الانتماء والمواطنة، وأعراف المجتمع العربي وقِيمه.
ففي العصر الذي أصبح فيه العالم أشبه بقرية صغيرة نجد أن منصات التواصل الاجتماعي تؤدي دوراً حاسماً في تشكيل الهويات والثقافات، مثل فيسبوك وإنستجرام وتوتير أو إكس وسناب شات، والتي لم تعد قنوات للمشاركة في الأحداث والقصص الشخصية أو الأفكار فحسب، بل أصبحت وسائل مؤثرة لنشر الأعراف والأيديولوجيات الثقافية، كما أن ما تعرضه منصات البث التلفزيوني مثل «نتفليكس» من محتوى عربي وغيره يبين التوجه العالمي إلى تقديم مضامين تعمل على تغيير القيم الأخلاقية، وتقديم القدوة والأنماط السلوكية في المجتمعات. بما يحتّم علينا إيجاد توازن حذِر بين احتضان التقدم الاجتماعي والتكنولوجي، والحفاظ على القيم الثقافية الموروثة، إلى جانب اتخاذ خطوات استباقية، لحماية الهوية العربية من التآكل في مواجهة هذه القوى العالمية التي تدعو إلى التعددية الثقافية، والاعتراف بقيمها التي تروّج المساواة بين الانحراف والاستقامة، وتقبل الثقافات المناقضة لثقافتنا وأخلاقنا في محاولة لطمس هويتنا وحضارتنا وثقافتنا كجزء من أجندة الحرب الغربية على العرب والعروبة، وليس آخرها الاعتراف بمجتمع الشاذين جنسياً (المثليين).
ولابد من الإشارة إلى أن الهويّات المتعدّدة للإنسان، ليست كأشكال الخطوط المستقيمة التي تتوازى مع بعضها البعض فلا تتفاعل أو تتلاقى، أو التي تفرض الاختيار فيما بينها، بل هذه الهويّات المتعدّدة هي كرسوم الدوائر التي يُحيط أكبرها بأصغرها، يشكل الإنسان فيها "نقطة مركزية"، تبدأ الدوائر تُحيط به من لحظة الولادة فيبدأ باكتشافها والتفاعل معها خلال مراحل نموّه وتطوّره من خصوصية الأم إلى عمومية البشرية جمعاء، ويعد الانفصام الحاصل بين وجود ثقافة عربية واحدة وعدم وجود دولة عربية واحدة من أهم مشاكل وعوائق الهوية العربية (وهذا ما تنبهت له القوى الغربية وعملت على تكريسه وتعميقه)، فشعوب العالم يشترك البعض منها في حضارات، لكن هناك خصوصيات ثقافية لكل شعب، حتّى لو اشترك مع شعوبٍ أخرى في حضارة واحدة، فتلك طبيعة قانون التطوّر الاجتماعي الإنساني الذي انتقل بالناس من مراحل الأسر والعشائر والقبائل إلى مرحلة الأوطان والشعوب والأمم.
في الوقت الذي لا تتمتع الثقافة العربية الأم نفسها بحالة "الدولة الواحدة"، فنجد داخل الجسم العربي من يُطالب بدول لثقافات إثنية (كحالة الأكراد والأمازيغيين، وكما جرى في جنوب السودان)، فالموجود الآن من الدول العربية هو أوطان لا تقوم على أساس ثقافات خاصة بها، بل هي محددة جغرافياً وسياسياً بفعل ترتيبات وظروف مطلع القرن العشرين التي أوجدت الحالة الراهنة من الدول العربية كمحصلة لاتفاقيات "سايكس – بيكو"، إضافةً إلى زرع كيان الاحتلال الصهيوني في قلب المنطقة العربية، وبشكل متزامن مع محاولاتٍ لصنع ثقافاتٍ فئوية خاصَّة بالأوطان الجديدة، شجَّعت عليها بقوة السلطات البريطانية والفرنسية التي كانت تهيمن آنذاك على معظم البلاد العربيّة، لإحلال هويات محلية بدلاً عن الهوية العربية المشتركة، وإضعافاً لكلّ جزء بانقسامه عن الجزء العربي الآخر.
ثم ورثت الولايات المتحدة الأميركية دور بريطانيا وفرنسا في المحافظة على الواقع العربي المجزأ، وفي محاربة أيِّ جهدٍ يسعى للوحدة بين العرب، مع دعم كبير ومفتوح لوجود كيان الاحتلال الصهيوني كنواة لبناء قومية جديدة (غير عربية على الأرض العربية)، وبطابعٍ عنصريٍّ يهودي وتوسعيّ، مع محاولات فرض التغريب الثقافي بأشكال مختلفة على عموم البلدان العربية، والسعي لزرع التناقضات بين الهويات الوطنية المستحدثة وبين الهويات الأصيلة فيها كالعروبة الثقافية والإسلام الحضاري، ثم أيضاً بين العروبة والدين في استحداثٍ لصراعات فكرية وسياسية بين أتباع التيار القومي والتيار الديني، علما أن هويّة الأمّة العربية هي مزيج مركّب من هويّات (قانونية وطنية) و(ثقافية عربية) و(حضارية دينية)، وهذا واقع حال ملزِم لكل أبناء البلدان العربية حتى لو رفضوا فكرياً الانتماء لكلّ هذه الهويّات أو بعضها.
ونجد على امتداد الأرض العربية محاولات مختلفة الأوجه، ومتعدّدة المصادر والأساليب، لتشويه معنى الهوية العربية ولجعلها حالة متناقضة مع التنوع الاثني والديني الذي تقوم عليه الأرض العربية منذ قرون عديدة، وأصبح الحديث عن مشكلة “الأقليات” مرتبطاً بالفهم الخاطئ للهويتين الوطنية والعربية، وبأنّ الحلّ لهذه المشكلة يقتضي “حلولاً” انفصالية كالتي حدثت في جنوب السودان وفي شمال العراق، وكالتي يتمّ الآن الحديث عنها لمستقبل عدّة بلدان عربية.
هذه كلّها عناصر مهمّة في فهم الأسباب الخارجية المؤثّرة سلباً على مسألة الهوية العربية، لكن من المهمّ أيضاً إدراك أنّ العرب هم أمَّة واحدة في الإطار الثقافي وفي الإطار الحضاري وفي المقاييس التاريخية والجغرافية، لكنهم لم يجتمعوا تاريخياً في إطارٍ سياسي واحد على أساس العروبة وحدها، فالهويّة العربية كانت موجودة كثقافة خاصة قبل الإسلام، ثمّ كحضارةٍ من خلاله ومن بعده، لكنها لم تأخذ شكل الأمة الواحدة، في إطار كيان سياسي واحد، وعلى أساس مرجعية الانتماء للعروبة الثقافية فقط، بما يعني أن العروبة بالمفهوم السياسي ما زالت "المشروع الحلم" وإن كانت العروبة قائمة ومحققّة في المفهوم الثقافي على مرّ قرونٍ من الزمن. وهذا الأمر هو الذي سبّب الخلط الخاطئ بين العروبة كهويّة ثقافية مشتركة بين كلّ العرب، وبين الممارسات السياسية باسم العروبة، والتي كان بعضها سلبياً، فجرى رفض ما هو ثقافي مشترك بسبب الخلافات السياسية أو بعض الممارسات السيئة باسم القومية العربية، وعلى سبيل المثال لا الحصر تورط بعض الأنظمة العربية بتنفيذ أجندة (الربيع العربي) نحو الفوضى والغموض الداكن الذي يلفّ مصير الكيانات الوطنية التي تولّدت بعد الحربين العالميتين، ويأخذها عكس حلم الوحدة، نحو تفتيت المفتَّت وتقسيم المقسّم وإدخالها في حروب أهلية بعد تدمير الجيوش الوطنية التي غالباً ما كانت رموزاً لقمع الدولة المركزية، بما يضعف الهوية العربية المشتركة لصالح الهويّات الطائفية والمذهبية والإثنية في معظم المجتمعات العربية.
هنا تكمن مخاطر الانفجار الداخلي في كلّ بلدٍ عربي، تنفيذاً للمشروع الإمبراطوري الذي بشر به فرانسيس فوكوياما بفلسفة مستحدثة للعالم الجديد بثنائية نهاية التاريخ وسقوط الهويات، وما تعنيه العولمة التوحشية الأحادية أو صدام الحضارات وفقاً لصموئيل هنتغتون، صداماً تُسحَق فيه الشعوب والأمم التي تتمسّك بخصوصية وهوية، ولا يكون مصيرها أفضل من مصير الهنود الحمر، كسكان أصليين للبلاد، يتمسكون بنمط عيش وثقافة وسلوك، لا تنسجم مع الهوية الجامعة الموحّدة نحو أمركة العالم في زمن نهاية التاريخ، وبنفس الإطار كان كتاب توماس فريدمان "اللكزس وشجرة الزيتون" حيث اعتبر أن شجرة الزيتون ترمز للهوية والخصوصية، وسيارة اللكزس ترمز للرفاه، مستنتجاً بحصيلة كتابه أن لا مكان في العالم الجديد للهويات الخاصة بل للحاق بركب الرفاه، لتكشف الحروب الأميركية وبالتحديد الحرب الناعمة والذكية، أو ما سمي (الربيع العربي) الذي تمخض عنه ولادة (داعش) أن سيارة اللكزس كانت تشتغل لحساب شجرة زيتون بعينها يُراد اقتلاع أشجار الغير لحسابها، وفي منطقتنا الشجرة الوحيدة المسموح ببقائها هي الشجرة (الإسرائيلية)، مع العمل لتدمير أشجار زيتوننا الوطنية لحساب أشجار زيتون أخرى لا تنتج ثمراً، وهي هوياتنا القاتلة والمتقاتلة، التي حظيت عشائر وقبائل وطوائف ومذاهب بكل الرعاية اللازمة للنمو على حساب الدولة الوطنية لتمتلك كل منها أحزاباً وجيوشاً وأعلاماً ودويلات، وفي هذا الإطار أتى السيناريو ("ب" و "ج") لما سمي "الربيع العربي" من عقوبات اقتصادية وحصار وتجويع الشعوب، وإعادة تنشيط مجاميع العصابات الإرهابية في سورية، والاقتتال في السودان، وليبيا، تزامناً مع جهود حثيثة لاستكمال التطبيع مع كيان الاحتلال الصهيوني وفق (اتفاقات أبراهام)، لنسأل سؤال العارف المستنكر: هل تنعم دول التطبيع بالمن والسلوى والأمن والرفاه الاقتصادي، ونشير هنا إلى مصر والأردن؟ هل تنعم الدول التي تورطت أنظمتها بدعم وتمويل وتجنيد الإرهابيين، كأحد أهم الأدوات في المشروع الصهيوأمريكي للمنطقة، بالقرار السيادي، والأمن والأمان، أم أن منشآتها الحيوية صارت عرضة للقصف والتدمير؟
لنجيب ونقول إن العروبة بشكل عام والعروبة الثقافية بشكل خاص ليست مجرّد حل فقط لأزمة العلاقات بين البلدان العربية، بل حجر الزاوية في البناء المنشود لمستقبلٍ أفضل داخل البلدان العربية، وبين بعضها البعض، و سياجاً ثقافياً واجتماعياً لحماية الوحدات الوطنية في كلّ بلدٍ عربي، درءاً لانقسامات حادّة قد تؤدي إلى حروب أهلية من شأنها أن تأكل الأخضر واليابس معاً.
ولقد أثبتت العقود الأربعة الماضية، أنّ بديل الهوية العربية، الحامل للتسميات "الدينية"، لم يفتح آفاقاً جديدة في الهويّة أو الانتماء، وإنّما قزَّم الواقع العربي إلى مناطق وطوائف، فتحوّلت الهويّة الدينية الشمولية إلى هويّة في مواجهة الشريك الآخر في الوطن، إنْ كان من طائفةٍ أخرى أو حتّى من اتّجاهٍ سياسيٍّ آخر.
وما حدث ويحدث في العقود الثلاث الماضية يؤكّد هدف القوى الغربية بنزع الهوية العربية، عبر استبدالها بهوية (شرق أوسطية)، بل حتى نزع الهويّة الوطنية المحلّية والاستعاضة عنها بهويّات إثنية ومذهبية وطائفية.. وفي هذا التحدّي الأجنبي سعيٌ محموم لتشويه صورة الإسلام والعروبة معاً، من أجل تسهيل السيطرة على الأوطان العربية وثرواتها، وهذا ما تنبه وأشار إليه الرئيس السوري بشار الأسد خلال أحد لقاءاته رؤساء الوفود المشاركة في اجتماع الأمانة العامة للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب بقوله إن "الأجيال الجديدة ذهبت إما باتجاه التطرف أو التغرب، وهنا يأتي دور المثقف لأن المقاومة الحقيقية هي أولاً فكرية عبر مقاومة إلغاء الهوية والانتماء... والفكر كان عاملاُ من عوامل صمود السوريين لأن الحرب التي شنت على سورية هي حرب فكرية وإعلامية".
كما أكد إن "الهدف الأكبر من الحرب لم يكن هذا الدمار، فالدمار يعاد بناؤه، إنما الهدف كان ضرب انتماء الإنسان العربي في هذه المنطقة، انتمائه بكل ما تعني الكلمة من معنى، انتمائه لكل البيئة التي عاش فيها، للجغرافيا، للتاريخ، للمبادئ وللانتماء القومي".
وبالتالي إنّ العودة العربية للتمسّك بالهُوية العربية المشتركة هي حاجةٌ قصوى الآن لحماية المجتمعات في الداخل، ولتحصينها من هيمنة الخارج، ولبناء أسس سليمة لتعاونٍ عربيٍّ مشترك وفعّال في المستقبل.
والعروبة الحضارية هي الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري الذي أخرج الثقافة العربية من الدائرتين: العرقية والجغرافية إلى الأفق الحضاري الواسع، الذي اشترك في صيانته ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب، فاتسع تعريف الهوية العربية لـ العربي، لتشمل كل من يندمج في الثقافة العربية، بغضّ النظر عن أصوله العرقية والإثنية. ودخل في هذا التعريف معظم من هم عرب الآن ولم يأتوا من أصول عربية من حيث الدم أو العرق. ويؤكّد هذا الأمر تاريخ العرب القديم والحديث من حيث اعتبار الثقافة العربية ثقافة حاضنة لتعدّدية الأديان والأعراق. فالهويّة العربية لا ترتبط بعرقٍ أو دين، ولا بموقف سياسي أو منظور أيديولوجي. وحينما نفهم الهوية العربية على حقيقتها تُصبح هي الحل لمشاكل صراع الهويات الأخرى على الأرض العربية، ويكون ذلك مدخلاً سليماً لتحقيق "المشروع العربي" بإقامة اتحادٍ وتكامل بين أتباع “الهويّة العربية المشتركة” على أسسٍ دستورية سليمة.
إن الهُوية العربية هي أكثر من مجرد تاريخ غني ولغة مشتركة، وستبقى من المسؤوليات العامة التي تقع على عاتق الدول العربية والمنظمات العربية لضمان تناغمها مع التطور العالمي بطريقة تحترم التراث، وتضمن مستقبله. وبينما نمضي قُدُماً من الضروري أن نتذكر أن أدوات الحلول يجب أن تتوافق مع النتائج المرجوة، وهذه رحلة معقدة ودقيقة، وليست معركة تُربِح أو تُخسِر. ويجب أن تكون استراتيجياتنا مدروسة وواقعية، وأن تركز على تعزيز هُوية عربية صلبة ومتينة للأجيال المقبلة، وتوفير الحماية المناسبة لها، وأن تضمن لمجتمعاتنا الأمن والاستقرار الاجتماعي والثقافي.
إنّ ذلك يحتاج حتماً إلى طليعة عربية واعية وفاعلة، تبني النموذج الجيّد لهذه الدعوة العربية المنشودة. ولن يتحقّق ذلك البناء في زمنٍ قصير، لكنّه الأمل الوحيد في مستقبلٍ أفضل يحرّر الأوطان من الاستبداد والفساد والهيمنة الأجنبية، ويصون الشراكة مع المواطن الآخر في الوطن الواحد، فلا يكون مُسهِّلاً، عن قصدٍ أو عن غير قصد، لسياساتٍ أجنبية تفرّق بين العرب لتسود عليهم.