تكشف الأزمة في أوكرانيا كل يوم عن مساوئ الغرب وخططهم الشيطانية تجاه العالم عبر بوابة أوكرانيا، والتي لا يربطهم بها من الأساس أي رابط سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو تاريخي، ولا اتفاقيات أو معاهدات عسكرية ولا أمنية. مصلحة الغرب الوحيدة من دعم أوكرانيا هي إضعاف روسيا وتهديد أمنها القومي الوجودي؛ الأمر الذي تُدركه موسكو واستعدت له بقوة منذ سنوات خلت.
الأزمة الأوكرانية لم تنحصر في جغرافيتها؛ بل تعدتها وعبرت الحدود وشغلت العقول حول العالم وأيقظت الضمير العالمي للحيلولة دون تكرار ذريعة أوكرانيا في بقاع أخرى من العالم. فقد فشل الغرب في تسويق أسطوانته المشروخة التي أسقط ودمر وفتت بفعلها أقطارًا عربية حيوية وفاعلة في ربيعه المزعوم مثل العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان، تلك الأسطوانة التي تدعي بأن خلاف الغرب مع الحكام، ويهدف إلى نصرة الشعوب ونشر الحرية والعدالة وقيم الديمقراطية!
نجح الروس في المقابل- رغم تواضع آلتهم الإعلامية- في تسويق حقيقة مضادة لتضليل الغرب مفادها أن الصراع مع روسيا وليس مع الرئيس بوتين، وأن للروس حقوقًا ومطالبَ ومخاوفَ مشروعة لخصتها "اتفاقية مينسك" مع أوكرانيا برعاية وحضور فرنسا وألمانيا بعد تفكك منظومة الاتحاد السوفييتي عام 1991م، والتي تضمنت صراحة ضرورة حيادية أوكرانيا وعدم انضمامها لحلف الناتو أو قيامها بأي أعمال عدائية مباشرة أو بالإنابة ضد روسيا. وبفعل هذه الاتفاقية استقرت أوكرانيا وتحولت من دولة تستورد الدواجن واللحوم الفاسدة من أمريكا لسد الفجوة الغذائية لشعبها، إلى عاشر دولة في العالم في إنتاج المحاصيل الاستراتيجية وعلى رأسها القمح والذرة بأنواعها، وقفزت إلى معدل إنتاج 150% من الدواجن واللحوم الحمراء في غضون عشرة أعوام فقط، وجنت مليارات الدولارات من الاستثمارات التي استقطبت وأغرت الكثير من الأقطار والأفراد حول العالم بفعل ثرواتها الزراعية والطبيعية ومناخها الاستثماري الجاذب.
لكن الغرب لم يرق له هذا الاستقرار والهدوء، فلجأ إلى بدعة الثورات الملونة التي لا تثور إلّا في جغرافيات بعينها؛ حيث نجح في إسقاط الحكومة الوطنية في كييف عام 2014م وإحلال حكومة دُمى عميلة له بقيادة زيلينسكي لاحقًا، فما كان من الروس سوى القيام بعملية استباقية وقائية تمثلت في احتلال شبه جزيرة القرم الاستراتيجية لحرمان النظام الأوكراني الجديد من الانضمام إلى الناتو على اعتبار أن ميثاقه ينص على عدم قبول عضوية دولة لها أراضٍ محتلة.
كان الغرب وما زال يحلم بزرع إسرائيل جديدة في أوكرانيا على شاكلة إسرائيلَهُ في قلب الوطن العربي، مهمتها زعزعة الاستقرار في روسيا على اعتبار أن أغلب قادة الكيان الصهيوني أوكرانيون في الأصل، وأن وجود نظام صهيوني نازي في أوكرانيا كفيل بتحقيق الآتي:
- زعزعة استقرار روسيا وتهديد أمنها القومي.
- إقامة دولة عدائية تحوي مختبرات تجارب للحروب الجرثومية.
- جعل أوكرانيا محطة رئيسة للدعارة والمثلية والرقيق الأبيض وغسيل الأموال.
- تهيئة أوكرانيا لتصبح وطنًا بديلًا عن فلسطين في حال زوال الكيان الصهيوني.
- يتذاكى الغرب اليوم ويتواضع في أحلامه تلافيًا للمزيد من الانتكاسات في الملف الأوكراني وتداعياته حول العالم، فيعرض على روسيا تلميحًا وتصريحًا إمكانية التغاضي عن الأراضي الأوكرانية التي احتلتها روسيا وضمتها بشرق أوكرانيا وشبه جزيرة القرم مقابل وقف الحرب، والسماح لأوكرانيا بالانضمام لحلف الناتو، وهذا يعني في مخطط الغرب المكشوف نقطة توقف عملياتية، بالمصطلح العسكري، لتقييم الموقف، ثم القيام بعمليات أخرى أشد فتكًا وأكثر ضراوة.
الروس بطبيعة الحال لم يُجبروا على خوض هذه الحرب لقبول جوائز ترضية؛ بل للعودة إلى "اتفاقية مينسك" بكامل بنودها، وتفهم مخاوفهم كاملةً غير منقوصة، وروسيا تدرك أن الغرب في مأزق حقيقي من الملف الأوكراني المفتوح والمُرشح للمزيد من الأوراق؛ كأي ملف مفتوح في السياسة والأزمات، فقد أصبحت الأزمة الأوكرانية وتداعياتها محل اهتمام عالمي خارج نطاق الغرب ومهدد حقيقي لمصالحه بل لبقائه؛ حيث أصبح المزاج العالمي مؤيدًا لروسيا تلميحًا وتصريحًا باعتبارها تقوم بحرب تعبر عن ضمير العالم الحر في مواجهة الغطرسة الغربية التي تجاوزت كل حد.
من المعروف أن العداء الغربي لروسيا هو عداء تاريخي لم يتوقف للحظةٍ، وأن زوال روسيا أو إخضاعها وإضعافها مطلب غربي تاريخي كذلك، لهذا فحتى ما عُرفت بالثورة البلشفية التي قادها لينين عام 1917- من واقع يهودية أغلب قادتها ونتائجها على الأرض لاحقًا- لم تكن في حقيقتها سوى قوة ناعمة وذراع غربي لتدمير القيصرية والكنيسة الأرثوذوكسية الروسية (هوية الدولة الروسية والهوية الروحية للشعب الروسي).
قبل اللقاء.. لن يقبل الروس من هذه الحرب والمواجهة مع الغرب بما خف وزنه وغلا ثمنه؛ بل بما ثقل وزنه وغلا ثمنه.