جيلنا، جيل السبعينيات والثمانينيات، أغلبه قرأ بشغف وإقبال النتاج الأدبي للصمود والتحرر الوطني والعالمي وتأثر بسرديته الجميلة، وبقيمه وتقاليده الخالدة،قرأنا بنَهم : ناظم حكمت وعزيز نيسن وحنا مينه وماركيز وغوركي وتولستوي، وتشيخوف، ورسول حمزتوف… إلخ اليساري منّا، وكذلك القومي والليبرالي، خضنا معركة الوعي وحسمناها لصالحنا، فواجهنا وتحدينا الصهيونية والامبريالية والرجعية والتطرف والتكفير… ولم ننكفئ، ولم نمت، بنينا الإنسان والأوطان، الدولة والمؤسسات، الكتب والمكتبات، المسرح والرواية، واللحن والنشيد، المدارس والجامعات، والمشافي والمعامل…
كنا مجموعة من الرفاق – طلبة الجامعة – واحد يحمل كتاب (أسس الاقتصاد السياسي) للبروفسور نيكتين، وآخر يحمل مسرحية (الجمجمة) للشاعر التركي ناظم حكمت.. ونظراً إلى قلّة عدد صفحاتها وشموخ المؤلف، والبطل الطبيب، دالبانيزو، طغى أثرها على الذهنية، لأن المسرحية أنموذج على أدب الكوارث والفواجع والأوبئة التي عرفها أدب عشرينيات القرن الماضي، بينما اليوم لم ينتج وباء كورونا وفواجعه أثراً أدبياً عالمياً ولا محلياً، كما أظن. المهم أن الطبيب دالبانيزو يعاني من ضغط السلطة عليه ليخترع دواء لجنون البقر، ولينصرف عن اكتشاف دواء لداء السل الذي يهدد حياة ابنته. وفي معمعة أحداث المسرحية يردد الطبيب دالبانيزو أمام أغلب شخصيات المسرحية : اهتموا بالاقتصاد السياسي، من لا يعرف الاقتصاد السياسي لا، ولن يعرف شيئاً.
طلعنا من (جمجمة) ناظم حكمت إلى (أسس الاقتصاد السياسي) لنيكتين، وأقمنا معه علاقة مثاقفة واعية… وبعدها بسنين، أو عقود قليلة، ومع انحسار اليسار العالمي، نسينا، بل تناسينا مع غيرنا، الاقتصاد السياسي. والآن، فما هو هذا الاقتصاد السياسي؟.
من تعريفاته: أنه مزيج بين الاقتصاد والسياسة، وهو نتاج العلاقة المتبادلة بينهما، ويهتم بتطوير المجتمع، وبدراسة أساليب الانتاج، ويدرس أنماط العلاقات الاجتماعية التي تنشأ وتتطور بين أفراد المجتمع جراء النشاط الاقتصادي ولاسيما الطارئ منه. ويلاحظ أنه مع ازدياد تدخل الدول في الحياة الاقتصادية، يصبح للاقتصاد صبغة سياسية واضحة… هذا أقل ما يُقال في الاقتصاد السياسي الذي يعّد كتاب (ثروة الأمم) لآدم سميث (القرن18) من أقدم مصادره، أو بالأحرى مراجعه.
ما حدث في أغلب (الأقطار) العربية بعد 2010 على المستويات الرسمية والشعبية هو اقتصاد سياسي من طعم آخر، طعم الألفية الثالثة، طعم المحافظين الجدد الصهيو – أمريكيين: الفوضى البناءة، ومن ليس معنا فهو ضدنا. وهو صدى للتدخل الأمريكي اللازم لنشوب أي صراع ذي طابع محلي أو إقليمي أو دولي. أذكر في منتصف التسعينيات كان عدد بؤر التوتر والنزاع في العالم يزيد بقليل عن الخمسين بؤرة، لم تغب الولايات المتحدة عن واحدة منها كسبب أو نتيجة، والأمر نفسه مع مطلع القرن 21، لكن مع طعم جديد آخر لأنماط هذا التدخل، الطعم الذي ينتقل بالاقتصاد السياسي إلى ضفة أخرى، ولهذا قال بالأمس وزير خارجية الصين: إن الولايات المتحدة تهدد الاستقرار في العالم اليوم.
فمثلاً، حين تفرض الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على عدد من الدول، فإن الدافع إلى هذه العقوبات الاقتصادية هو البعد السياسي (تغيير سلوك النظام السياسي) فتنتج وحشية هذه العقوبات المدروسة بدقة في مراكز الأبحاث وصنع القرار، مع توالي العقوبات والضغوط والتحالفات الدولية المضادة، بالضرورة كنتيجة لهذه العقوبات، شللية أو ميليشيا اقتصادية واجتماعية ، وسياسية، وهويات ما قبل وطنية قاتلة، فتفضي العقوبات الاقتصادية إلى سياسات ومجتمعات متعثرة ومتذررة تحت وطأة ألوان من العقوبات والضغوط والتحالفات ضد لقمة العيش، وشربة الماء، وتأمين الخدمات اللازمة للفرد والمجتمع والدولة. وهنا يأتي دور ميليشيات من نوع آخر في السوشال ميديا يتضافر على لسعاتها بعوض وذباب الفيسبوك واليوتيوب والشائعات بالتعليقات والتحويرات والمقتطفات و”التعليكات” لإضعاف الشعور الوطني الجمعي، ولنشر اليأس والإحباط ومحو قصص الصمود والتضحية والثبات الأسطورية من الذاكرة، وللعودة بالفرد وبالمجتمع وبالدولة إلى المربع الأول، كما يُقال، وذلك جراء استثمار الميديا المضادة للضائقة المعيشية.أو دولي،أذكر
أن في هذا السياق، يأتي سِفر جديد من أسفار الحرب على سورية، وفيها، الحرب التي لم يعرف تاريخ الحروب لها مثيلاً، في بنيتها ووظيفتها وأنماطها وتعدد سنيّها. وفي هذا السياق وقف، ويقف، وسيقف السوريون شعباً وجيشاً ودولة وقيادة موقف الواعي لأصالته وكرامته وحقوقه ومصالحه، فتعددت ملتقيات الحوار البرلمانية والحكومية والحزبية للتشارك في طرح المشاكل والحلول لتوفير المتطلبات المعيشية والمعاشية في هذه الظروف الصعبة، كي لا يرضخ السوريون، بل لينهضوا من جديد بالعمل والأمل، بالمشاركة والحوار في الآلام والآمال.