بحثت في علاقة الموسيقى بالإعلام، انطلاقا من البحث في طبيعة الموروث الموسيقي العربي، المفتقد إلى "آلية تفكير علمية في البحث" .. وهو ما يعيده المؤلف إلى: "سكونية الفكر العربي بشكل عام, والهوة الكبيرة التي مرت بها الموسيقى العربية من نهاية العصر العباسي أي حوالي القرن العاشر إلى بدايات القرن العشرين و التي أدت إلى ابتعاد الموسيقى عن العلم و البحث, لتدور في إطار الشفوي.."
ونظرا لأهمية المحاضرة، وما وصلت إليه من نقاط جديرة بالتأمل والدراسة، تعيد "تحولات" نشر ملخص عنها، لتعميم الفائدة، وفتح باب الحوار..
يبدأ المؤلف محاضرته، بمقدمة تبين ارتباط:
الكينونة الإنسانية عبر تاريخها الطويل, بمفهوم الأخر وكيفية التماهي معه، وافتراضها حالة من التواصل و التفاعل والاتصال, باتجاه التأثير و التأثر.، مشيراً إلى إن عملية التواصل الإنساني مرت عبر التاريخ برحلة طويلة, بدأت من التواصل شفاهة في نفس المكان ونفس الزمان, إلى كسر المكانية من خلال البريد و البرق, إلى التهاتف من خلال الهاتف, إلى وسائل الاتصال المسموعة والمرئية من خلال الإذاعة و التلفزيون, إلى شبكة الانترنيت, وكسر حاجز الزمان والمكان إلى الوجود الافتراضي".. كل ذلك.."أثر على طرق التفكير الإنساني, وساهم في طرق تشكل الثقافات الإنسانية, ومن المؤكد أن الحضارات التي وعت أهمية الانفتاح على الآخر, كانت هي الأعمق والأكثر حيوية, و قدرة على البقاء والتجدد.
ويقول "طه": "السؤال الآن: ما هو موقع الإنسان العربي بكل ثقافته و موروثه ضمن هذه التغيرات؟ هل سيكون فعًال ومساهماً في بناء الثقافة الإنسانية المعاصرة ؟ أم سيكون حيادياً ؟ كيف سيتقبل تكنولوجيات التفكير العلمي المعاصر وهو يفتقر إلى الذهنية العلمية؟ هل سيقع أسير فكرة الهوية و الموروث في زمن كسر المكان والزمان و تعدد الثقافات؟ في رأيي الشخصي لدى هذا الكائن الآن فرصة للنظر إلى نفسه من خلال الآخر, لتحريك السكونية في آليات تفكيره, وهذا التحريك لم يعد خيارياً وإنما قسرياً كفعل له علاقة بمسألة صراع البقاء على المستوى المادي والمعنوي (ثقافياً - فنياً) وعلى روحانيات الكائن البشري ووعيه الوجودي.."
وبعد المقدمة يتناول المؤلف :"التراث الموسيقي العربي من منظور أكثر أكاديمية"..حيث يذهب إلى أن الموسيقى العربية تفتقد إلى آلية تفكير علمية في البحث في الموسيقى العربية ,وهذا ناتج لعدة أسباب منها : سكونية الفكر العربي بشكل عام, والهوة الكبيرة التي مرت بها الموسيقى العربية من نهاية العصر العباسي أي حوالي القرن العاشر إلى بدايات القرن العشرين والتي أدت إلى ابتعاد الموسيقى عن العلم والبحث, لتدور في إطار الشفوي والحسي وهذا بدوره أخرجها من حركة التاريخ الموسيقي في العالم, ومدارسه الفنية المتعددة التي ارتبطت بحالة مركزية أوروبية. ويذكر "طه" إنه يمكن تقسيم التراث الموسيقي العربي من منظور أكاديمي إلى: التراث الموسيقي الشعبي (Folk Music ) الحامل لخصوصية الشعب، والناتح والمرتبط بالعادات والتقاليد, والذي يشكل بما يحويه من قوالب موسيقية غنائية, وآلات فلكلورية بسيطة الصناعة (المجوز، المزمار البلدي، اليرغول), يشكل أرضية موسيقية ثقافية وهو بحاجة إلى وعي لحمايته وأرشفته, وضمان عدم المساس به. النوع الثاني من التراث الموسيقي هو تراث الموسيقى التقليدية (Traditional Music), المعتمد على موسيقى لها قوانينها الخاصة, وقوالب موسيقية آلية وغنائية متطورة ( بشرف، سماعي، دولاب، قصيدة، موشح، دور) وهي قوالب تتبع أسس المقامات العربية و تحريرها المقامي, وتحتوي ثروة إيقاعية كبيرة في طريقها إلى الضياع، إذا لم يتم إعادة إحيائها و الاستعانة بطرق متطورة لحفظها و إعادة أرشفتها علماً بأن معظمها مدون لكن بطرق قديمة وغير دقيقة, وفي رأيي الشخصي لا يكفي تدوين الإيقاعات العربية والشرقية كتابياً فقط, لأنها لا يمكن التعامل معها على أساس الكم كحالة الإيقاعات الغربية وإنما على أساس الكيف ( أي أن كيفية عزفها و ضغوطها الخاصة هو أهم من الحالة العددية التي تحكمها ) من هنا تبرز أهمية تكنولوجيا التسجيل حيث يمكن حفظ هذه الإيقاعات و(المقامات طبعاً) من موسيقيين في أعمار متقدمة في السن لأنهم على دراية بأساليب عزفها و غنائها , لتصبح فيما بعد في أيدي موسيقيين أكاديميين ليبحثوا فيها (مع الاستفادة من تكونولوجيات الكومبيوتر وبرامجه) وفي أساليب الأداء الخاصة بالموسيقى العربية, وخصوصية إيقاعاتها ومقاماتها. وينتقل المؤلف إلى: الثقافة العربية و تكنولوجيا المعلومات، حيث يشير إلى التداخل بين منظومتي الثقافة والمعلومات, ليخلص ثانية إلى سؤال "أين الثقافة العربية الآن من تكنولوجيا المعلومات ؟" ويصل المؤلف الموسيقي حسان طه إلى محور محاضرته: الموسيقى العربية بين الشفاهية والإعلام كحالة توثيقية، فيقول إن الشفاهية وعدم الدقة في التدوين، أضاعت إرثاً موسيقيا يمتد لأكثر من عشرة قرون, مع الإشارة لكتب مهمة منها كتاب الموسيقي الكبير للفارابي كمراجع للبحث الموسيقي, التي يمكن اعتبارها بدايات للآلية فكر عربي موسيقي ربطت العلم بالموسيقي, لكن الحلقة الزمنية الضائعة (ق 10- ق20 ), أوقعت الموسيقى العربية في التحريف والتشويه والاختلاط بموسيقات اقل منها تطورأً, الاكتشافات العلمية في بداية القرن العشرين و تطور وسائل الأرشفة الصوتية الممغنطة (الاسطوانات - أشرطة البكر الصوتية - الكاسيت ), ساهمت في كسر شفاهية الموسيقى العربية و حفظها ربما من الزوال, حيث يمكننا الآن العودة إلى موروث معظم الموسيقيين العرب الذين عاشوا في بداية القرن العشرين مثل( سيد درويش), كلنها ساهمت من جهة أخرى في استمرار عدم تدوين الموسيقى العربية ..
الموسيقى العربية بين الإبداع و وسائل الإعلام العربي : لابد من القول أن الموسيقى العربية هي أسيرة غنائيتها, بكل مراحل الإبداع التي مرت بها اعتبارا من بداية القرن العشرين بحكم ارتباطها بالنص الشعري العربي ومع أن الغناء العربي له جماليته و له أصواته التي جاد بها من أمثال أم كلثوم (في رأي الشخصي القصائد التي غنتها أم كلثوم للشيخ أبو العلا محمد ساهمت في تحرير الغناء العربي من تأثيرات الأداء التركي ) فأن الموسيقى العربية فقدت الكثير من حالاتها الإبداعية, من خلال اقتصارها على الغناء فقط, و لابد من القول أن المتلقي العربي بكل شرائحه (العامة و النخبة) لا ينظر إلى الموسيقى إلا من و جهة نظر غنائية طربية ترفيهية, ربما هذا ناتج عن لاوعيه الديني؟ حيث أنه لا يمكن إغفال الجانب الديني الإسلامي, و تأثيره على آليات النظر إلى الفنون بشكل عام و الموسيقى بشكل خاص, (ليس بدافع التحريم و إنما كحالة غير مرغوبة كونها تلهي عن ذكر الله, لكن رغم ذلك نجد موسيقى إسلامية لها خصوصيته الموسيقية التي عمل بها المتصوفة العرب المسلمون), هذه النظرة للموسيقى كوسيلة ترفيهية طربية, ساهمت في ترسيخها وسائل الإعلام, من خلال التأكيد على الجانب الغنائي ليصبح مفهوم الموسيقي العربي هو ملحن الأغاني فقط, و لتعمل هذه الحالة على قتل الإبداع الموسيقي الآلي, بحجة أن الجمهور العربي يميل إلى الغناء و الطرب (السلطنة) .. وكمثال يمكن أن نرى حالتين، الأولى عزف العود عند المطرب فريد الأطرش وقد تم ترويجها إعلاميا لارتباطها بالغناء, و أعتبر فريد الأطرش من أهم عازفي العود في الوطن العربي والحالة الثانية آلية عزف العود في المدرسة العراقية ومؤسسها الشريف محي الدين حيدر وتلامذته جميل بشير ومنير بشير, التي تميزت بالتعامل مع آلة العود بأسلوب علمي أكاديمي, وأدت لخلق عازف عود متمكن فنياً وتقنياً يستطيع أن يؤدي موسيقى آلية صرفة بعيدة, وقد ظلت هذه المدرسة في الظل بسبب إهمالها من قبل الإعلام, وحتى لو سمعها المستمع العربي, فسوف يجدها بعيدة عن مزاجه الغنائي لأنه لم يهيئ للاستماع لهذا النوع من الموسيقى التي تعتمد على حالات آلية صرفة فيها جانب تأملي وحالات درامية وجدت صداها في أذن المستمع الأوروبي المدربة, وهذه مهمة إعلامية كبيرة يجب أن يعيها الإعلام العربي وهي التهيئة للتجارب الحديثة لبناء قاعدة سمعية لها, بينما نجد أن عملية ترويجه للسائد الغنائي الغنائي، يساهم في تشكيل ذوق الجمهور, كما يؤدي إلى:
1- إغفال فكرة الموسيقي الأكاديمي، والتعتيم عليها.
2- إغفال فكرة الموسيقى الآلية العربية.
3- إغفال فكرة العازف الموسيقي الإفرادي.
مما يكرس فكرة أن العزف يعني مرافقة للغناء.
4- عدم المساهمة في خلق نقد موسيقي أكاديمي.
5- طرح التراث كحالة متحفية مقدسة, أو كحالة سياحية ترويجية، بعيدة عن الغوص في أعماق هذا التراث, وبالتالي العمل على تحريك سكونيته.
6- عدم فهم الموسيقى كحالة ثقافية، بمدلول فكري, جمالي, فلسفي, أخلاقي, معرفي ومعلوماتي, من هنا نجد أن مفهوم الثقافة في الدول العربية ينطوي فقط على الأدب و الشعر!, كما أدى ترويج السائد إلى تراكم كم هائل من التفاهة الغنائية العربية الهابطة، الهادفة إلى الكسب المادي بحجة الأغنية المعاصرة, وهي بذلك حالة من عدم الاتصال مع الآخر بطريقة سليمة بحكم ترويجها لشيء بعيد عن الموسيقى العربية يلغي قابليتها لتكون معاصرة بمفهوم أكاديمي نابع من دراسة خصائصها، فالأغاني العربية بكل الفيديو كلبات الرائجة الآن, ليست خلاصة الإنسان العربي المعاصر, بل هي تقدمه كإنسان معطوب, بذلك لا حل ألا بالثقافة القائمة على الوعي و المنفتحة على الآخر, علماً أن معظم وسائل الإعلام العربية تتكلم عن رداءة الأغاني العربية المعاصرة, و هي مع الأسف المروّج الوحيد و الأخطر لها!
ويختم المؤلف محاضرته بالقول: أن القدرة على خلق أرضية إعلامية عربية فاعلة ومنفعلة, تبدأ من العمل على الكائن العربي ذاته وآلية استخدامه للعقل والعلم, والانفتاح على نظريات التفكير الجديدة.. والاستفادة من تكنولوجيا المعلومات والإعلام .. لحماية ثقافته و تراثه الموسيقي.. كنوع من إضافة لون على ألوان الثقافة الإنسانية ويجب أن يعمل على خلق وسائل أعلام أكثر وعياً.