لم تكن مقاومة الاحتلال في أيِّ بلدٍ في العالم موضوع إجماعٍ سياسي أو أثني أو جهوي لسكانِ البلدِ الخاضعِ للاحتلال، كانت هناك اختلافات بين مكونات الشعوب وكانت سلطة الاحتلال - أي احتلال - تعمد الى التفريق بين مكونات البلد الخاضع من أجل اشعال الخلافات بينها واضعافها وتثبيت احتلالها ما امكن لها ذلك.
من هنا لم يكن للمقاومة الناجحة بدٌّ من أن تتجاهلَ طرح المواضيع الخلافية أو تؤجلها وتقدم مسألة التحرر من الاحتلال على سواها من المسائل السياسية الأخرى التي تشغل بال الشَّعب.
لعلَّ مسألة الهوية هي من أبرز الفوارق التي تميز الشعوب وتؤجج الخلافات بينها، كانت مسألة الهويات في الغالب تبقى مستترة ومغطاة بوهج السلطة القائمة وبعد سقوط هذه السلطة ودخول قوة الاحتلال، تنكشف في داخل الشعوب تناقضات واختلافات وهويات فرعية كانت موجودة وكامنة.
إن اكثر اشكالية ظهرت حول الهوية والاحتلال هي ما اصاب العالم العربي بعد سقوط السلطنة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى.
تعاون العرب في البدء مع قوات الاحتلال البريطاني والفرنسي على أنهما قوتان مساعدتان لطرد ما اسموه "المحتل العثماني". لكن بريطانيا وفرنسا تحولتا الى قوتي احتلال ولم يتفهم الشعب العربي في جزيرة العرب وفي بلاد الشام والعراق حقيقة هذا التبدل، وتعرض لخديعة مصطلح "الانتداب" أي مساعدة الشعوب على تقرير مصيرها.
أعلن الشريف حسين الثورة العربية الكبرى ومن اسمها تظهر هويتها العربية ضد العثمانيين الترك.حاذر حسين استخدام تعبير ثورة اسلامية رغم موقعه كحارس للاراضي الاسلامية المقدسة في مكة والمدينة المنورة. ان اي حديث عن ثورة اسلامية في حينه لا يستقيم بوجود خليفة المسلمين وهو السلطان العثماني فكان لا بد للعرب المسلمين من اللجوء الى القومية العربية وللبريطانيين من ان يسهلوا الترويج للقومية العربية وللعروبة من اجل الانسلاخ عن السلطنة الخلافة -العثمانية المسلمة .هنا اصبحت الهوية عربية وخدمت المشروع البريطاني.
في مصر التي كانت ترزح تحت الاحتلال البريطاني ظهرت الوطنية المصرية في ثورة سعد زغلول التي ركزت على تجاوز الانتماء الديني لمصلحة الانتماء الوطني المصري.
جاء رد الفعل على الوطنية المصرية عام 1928 بإنشاء حركة الاخوان المسلمين كحركة دينية دعوية تهدف الى اعادة الهوية الدينية لمصر بدلا من هويتها الوطنية المصرية من دون ان تدخل على اجندتها مقاومة الاحتلال البريطاني. تصادمت الهويتان الدينية مع الوطنية فاضعف هذا الصدام مقاومة الشعب المصري ضد البريطانيين الذين استخدموا دهاءهم وادخلوا بعض الاصلاحات على النظام وافسحوا مجالا للملكية بان تتخذ قرارات غير سيادية، وتظهر انها مستقلة فيما الواقع ان المندوب البريطاني كان المرجع في كل الأمور.
في المشرق العربي كان الانتماء العربي يتغلب على الانتماء الديني بسبب تعدد المذاهب الاسلامية ووجود مكون مسيحي اساسي في دول المشرق.
كانت الهوية القومية العربية تعلو على الهويات القطرية الفرعية.حاولت فرنسا تقسيم سوريا استنادا الى الطوائف فاعلنت الدولة العلوية والدولة الدرزية ثم استندت الى الجهة الجغرافية واعلنت دولة دمشق ودولة حلب .بالنسبة للمسيحيين اعلنت دولة لبنان الكبير بغالبية ضئيلة للمسيحيين.رفض سكان سوريا التقسيمات وناضلوا ضدها وحققوا الوحدة السورية ما عدا لبنان الذي اصبح جمهورية مستقلة .بقي الجميع تحت الاحتلال- الانتداب الفرنسي .لم يقم الشيخ صالح العلي بثورة جبال العلويين ولا سلطان باشا الاطرش بثورة جبل الدروز بدافع طائفي لان الطائفية تقضي منهما قبول التقسيم الفرنسي، بل كانت الهوية العربية القومية هي دافعهما للثورة وما لبثت هذه الهوية ان تحولت بحكم الواقع الى قطرية سورية.
نلاحظ ان الاحتلال كان دائما يلعب على المكونات الدينية والمذهبية والعرقية والجهوية.
لنأخذ الكرد مثلا فقد كانوا في الدولة العثمانية وقبلها في الدول الاسلامية المتعاقبة مكونا اساسي من دون ان تطرح المشكلة العرقية حتى جاءت التقسيمات بعد الحرب العالمية الاولى لتضعهم في اربع دول هي تركيا وسوريا والعراق وايران فشعروا بضياع هويتهم القومية والثقافية ولم يندمجوا تماما في تلك الدول ما عدا سوريا التي وصل فيها كرديان هما حسني الزعيم واديب الشيشكلي الى رئاسة الجمهورية وتقلد العديد منهم مناصب قيادية في سوريا .لم تطرح مشكلة الكرد في سوريا الا مؤخرا عند اندلاع الاحداث السورية وضعف الدولة المركزية.
عززالاحتلال الاسرائيلي لفلسطين الشعور الوطني الفلسطيني الذي ما يزال هو الغالب بين الفلسطينيين لحين انشاء حركة المقاومة الاسلامية حماس ببعدها الاخواني.غلب الانتماء الاسلامي والهوية الاسلامية على الانتماء الوطني والهوية الوطنية الفلسطينية في حركة حماس وظهر التناقض بين القوى الوطنية الفلسطينية التي اجتمعت رغم خلافاتها العميقة في جانب, والقوى الاسلامية وعلى رأسها حماس في جانب اخر ,وانقسم الشعب الفلسطيني على الهوية وادى الانقسام الى توقف المقاومة وتراجع القضية الفلسطينية دوليا بعدما كانت قد حققت مكاسب سياسية في الانتفاضات الشعبية المتكررة ضد الاحتلال.
وما فاقم الامور اكثر هو ظهور الهويات الفرعية فقد كانت المقاومة اللبنانية حزب الله مثالا في الفاعلية والجدية وحققت دحرا لقوات الاحتلال الاسرائيلي عن الارض اللبنانية بالقوة وبتضحيات المقاومين ودعم الشعب اللبناني ومن دون تنازلات ولا اتفاقات .لكن ظهور الهويات الفرعية اثر على صورة المقاومة التي بدأ البعض ينظر اليها على انها قوة للشيعة وليس لمقاومة اسرائيل .رغم دقة الوضع وعدم اشتراك حزب الله بتقاسم السلطة ولا بموارد الدولة اللبنانية ولا بادارتها , فقد تعرض لحملة تشويه كلفت لغاية عام 2010 حسب جيفري فيلتمان معاون وزير الخارجية الاميركي لشؤون الشرق الاوسط 500 مليون دولار.يمكننا هنا ان نتخيل كم دفعت اطراف اخرى من المال لتشويه صورة المقاومة اللبنانية وحشرها في هوية فرعية شيعية.
في شبه القارة الهندية وقبيل الانسحاب البريطاني طالب مسلمو الهند بدولة خاصة بهم وتزعمهم محمد علي جناح .قبل مسلموالهند جناح زعيما لاكثر من مائة مليون مسلم في ذلك الوقت(اليوم يبلغ عدد مسلمي الهند وباكستان وبنغلادش 550 مليون) رغم انه من الطائفة الشيعية الاسماعيلية ولم يعر المسلمون الهنود وغالبيتهم من اهل السنة على المذهب الحنفي لطائفة زعيمهم الذي ما زالت صوره تعلق في دوائر الدولة حتى اليوم كرمز وطني لمسلمي شبه القارة . خاف داعمو اسرائيل من ان يتحول حسن نصر الله المسلم الشيعي الى محمد علي جناح اخر بعد ظهور صوره في الازهر ومكة وجاكرتا والرباط ومعظم العالم الاسلامي فكان جهد ثقافي اعلامي فضائي ودعوي في المساجد من اجل استحضار خلافات قديمة وبلورة هوية فرعية لحزب الله واظهار خطرها، في مصر مثلاً عندما تزوجت الاميرة فوزية شاه ايران الشيعي اقيمت احتفالات في كل انحاء البلاد.
أما في عهد محمد مرسي والاخوان المسلمين, فقد قتل متطرفون مجموعة مصريين من المنتمين لمذهب الشيعة ومثلوا بجثثهم بطريقة غير معهودة في مصر بتهمة انهم شيعة .تلك هي اهوال اللعب بالهويات والتدرج نزولا لحد الهويات الفرعية والجهوية.
المقاومة اللبنانية تحتاج الى هوية وطنية وتكريس المفهوم الرسمي للوطن وهو كيان الدولة التي تقع تحت الاحتلال او تتعرض للتهديد كما هو الحال في لبنان وسوريا والاردن ومصر وقبل الكل فلسطين . ان احياء الهوية الوطنية وتنشيطها على حساب الهويات الدينية الاوسع او الفرعية الاضيق هو الطريق القويم لاستمرار المقاومة.