عاملان يطرحان علينا افتراضات ثلاثة في العنوان : تمّرد ام تخلّص ام تفاهم ؟
العامل الاول هو شحّ المعلومات او حتى غيابها عن الواقعة المزعومة .
والعامل الثاني هو شخصّية اطراف الواقعة : الرئيس بوتين وهو رجل مخابرات دولة عظمى متشبّع بالفكر الشيوعي وآسف لتفكك الاتحاد السوفييتي ،و متمّرس في خلق الذرائع والوقائع والسيناريوهات للوصول للاهداف السياسية . اما غريمه او خصمه او صديقه بريغوجين، فتدرجَ من سارق الى سجين الى رئيس عصابة الى صاحب مطعم يرتاده الرئيس بوتين وضيوفه رؤساء الدول ،الى طبّاخ بوتين وصديقة ، ثّمَ مستثمر في الشركات الامنية والمرتزقة ، ومسيرته تؤهلّه للتمرّدْ وللتفاهم ولا تدعو لثقة و اطمئنان مَنْ يتعامل معه .
هل تمرّدَ الطباخ على سيدهِ ،و على من صنعهُ ؟
استبعدُ ذلك للاسباب الآتية :
مَنْ يطّلعْ على تفاصيل حياة بريغوجين ، العائلية والاجتماعية وما عاناه من فقر وحرمان و مواجهة مستمّرة لتحديات وتصميم وارادة للوصول الى مبتغاه من دون مراعاة قانون او اخلاق او عرف اجتماعي ،سيستنتج أنَّ بريغوجين عاشَ طيلة حياته مُتمرداً ، و مَنْ يكون ديدنه التّمردْ والقتل لنْ يكتفْي بيوم واحد فقط متمرّداً على خصمه بوتين !
لم يدمْ تمرّد قائد المرتزقة اكثر من ٢٠ ساعة ،ليعلن بعدها انهاء التمرّد ،بحجة منع سفك الدماء . فالوضع السياسي والعسكري لروسيا ، وهي في حالة حرب ، كذلك موقف امريكا وحلف الناتو ، جميعها مقومات تساعد بريغوجين على المضي في تمرّدهِ ،إنْ كان صادقاً في نواياه وفي مسعاه .
هل الواقعة هي سيناريو ،من انتاج الرئيس بوتين للتخلّص من صديقه ،بعد استخدامه ، و خشية تنمّرهِ ، و تصدّع العلاقة بين الجيش الروسي و مرتزقة بريغوجين ، و انعكاس ذلك على سير المعارك بين روسيا و اوكرانيا والغرب والناتو ؟
لا نعتقد برغبة الرئيس بوتين التخّلص من بريغوجين . فأمام بوتين اكثر من وسيلة للتخّلص من بريغوجين ، إنْ كانت له نيّة في ذلك .
روسيا لا تزال بحاجة الى قوات بريغوجين ،في الحرب في اوكرانيا ، وكذلك في افريقيا و آسيا .
روسيا تتعامل بحذر وبانضباط شديدين مع قوات او ميليشيات فاغنر ،منذ تأسيسها عام ٢٠١٤ ،حين أقدمت روسيا على ضّم جزيرة القرم . وتتعظ روسيا من تجربة الولايات المتحدة الامريكة في تأسيسها وتمويلها لتنظيم القاعدة في افغانستان ، وتجارب الادارات الامريكية المتعاقبة مع التنظيمات المسلحّة ،والتي انتشرت في منطقة الشرق الاوسط .
مؤشرات ووقائع تجعلنا نعتقد أنَّ ما حدثَ بين الرئيس بوتين و بريغوجين هو تفاهم ثلاثي بمشاركة رئيس روسيا البيضاء . تفاهم ذو اهداف عسكرية و سياسيّة : يفضي عسكريا الى اعادة تموضّع لميليشيات فاغنر واعطاء دور جديد لبريغوجين ، ويفضي سياسياً الى خلط الاوراق لدى خصوم و اعداء روسيا ،والذين هم في حالة حرب مع روسيا . وشاهدنا تعدّد وتنوع التكهنات و التفسيرات لدى دوائر الغرب العسكرية والاستخباراتية لحّل او لتفسير لغز ما حدث في روسيا .
يكفي كدليل ،يكاد ان يكون قاطعا على صحة ما نراه من تفاهم ثلاثي ، هو سرعة تدخل رئيس روسيا البيضاء ،الكسندر لوكاشينكو ، على خط الواقعة ، وسرعة اتيانه بالحّل ، وسرعة قبول الرئيس بوتين و بريغوجين ،الحّل المقترح . سابقة في التاريخ الحديث أنْ يحدث تمّرد و يُطرح حّلْ ويُقبَلْ من الاطراف المتخاصمة ،في غضون ٢٠ ساعة !
اعادة تموضّعْ ( وليس رحيلا ) بريغوجين الى العاصمة مينسك ،عاصمة روسيا البيضاء ، مع الالاف من قواته أمرٌ لا يخلو من اعتبارات عسكرية وسياسية متعلقة بالحرب الروسية الغربية ،والتي تدور رحاها في اوكرانيا . وقد اثار هذا التموضّع شكوك وتحذير امريكا وحلف الناتو من قيام روسيا بفتح الجبهة الشمالية لاوكرانيا ، و انطلاق مرتزقة بريغوجين ،من اراضي روسيا البيضاء نحو شمال اوكرانيا .
توجد قوات و اسلحة روسية في روسيا البيضاء ، وعلى الحدود الاوكرانية ، وقد سَبَقَ للرئيس بوتين زيارتها وتفقدها نهاية عام ٢٠٢٢،ما يجعل من شمال اوكرانيا جبهة مواجهة مؤجّلة ، وربما تنتظر وصول بريغوجين و قواته .