لم يكن أرييل شارون رئيس وزراء الكيان “الإسرائيلي” ليعبّر عن موقفه الرسمي الرافض فقط، بعد ساعات قليلة من اعلان “المبادرة العربية للسلام” التي أطلقها القادة العرب أثناء مؤتمر القمة الذي عقدوه في بيروت يومي 27 و28 آذار عام 2002، والذي وصفه بأنه لا يساوي الحبر الذي كتب به!
شارون كان يعبّر عن موقف إسرائيلي صارم، يلتزم به قادة الكيان، ومسؤوليه، وسياسييه، وأحزابه، أياً كانت خلافاتهم الشخصية، وتباينات سياساتهم الداخلية.
لقد تصوّر القادة العرب في قمتهم في بيروت، أنّ “إسرائيل” ستتلقف بسرعة مبادرتهم، دون ان يسبروا غور العقل الصهيوني، وما تحضّره “إسرائيل” مستقبلاً، وما تنسجه من سياسات مبرمجة لتحقيق أهدافها البعيدة المدى، وترسيخ كيانها أكثر فأكثر.
إذا كان القادة العرب عام 2002، قد التزموا بما جاء في بيانهم الذي حمل الكثير من الأدبيات والشعارات السياسية الوطنية والقومية الفضفاضة، ودغدغ المشاعر العربية لما تضمّنه من “مواقف حازمة” تجاه “إسرائيل”، في حال رفضها المبادرة، والتوقف عن إقامة أية علاقات معها، وتفعيل مكتب المقاطعة العربية لـ “إسرائيل” حتى “تستجيب لتنفيذ القرارات الشرعية الدولية، ومرجعية مؤتمر مدريد حتى خطوط الرابع من حزيران يونيو1967″، فهل التزمت دول عربية بمبادرة القمة نصاً وروحاً، بتفعيل المقاطعة العربية، وهي التي اندفعت للاعتراف بالكيان، وإقامة علاقات دبلوماسية، ولجوئها إلى التطبيع معه، متجاهلة كلياً مبدأ المقاطعة!
عشرون عاماً مرت على المبادرة العربية، فلا عرب المبادرة التزموا بمبادرتهم، ولا “إسرائيل” أعارت ايّ أهمية للقمة وقادتها. منذ عشرين عاماً و”إسرائيل” تتحدّى كلّ العرب، دولاً، وقادة، وشعوباً، عندما
غيّرت الجغرافيا، والديموغرافيا في الضفة الغربية والقدس والجولان، وصادرت الأراضي، وهجرت، واعتدت، وغرست المستوطنات، وزجّت الأحرار في المعتقلات، واستولت على المياه، وفرضت الحصار اللاإنساني على قطاع غزة بأكمله.
منذ عشرين عاماً لم يكن يعترف بالكيان سوى دولتين عربيتين، والسلطة الفلسطينية ثالثهما. لكن دولاً عربية أطاحت بالمبادرة وخرجت عن الصف العربي،
وتهافتت على الإعتراف “بإسرائيل” والتطبيع معها، غير عابئة بالمبادرة والتزامها بها.
هل مبادرة السلام العربية عام 2002 تتماشى مع واقع الحال المرير الذي يمرّ به العرب وقضيتهم الفلسطينية في الوقت الحاضر؟! قبل عشرين عاماً لم يكن تعداد المستوطنين في الضفة الغربية ليتحاوز المائة ألف مستوطن، فيما عددهم اليوم يتجاوز النصف مليون مستوطن، وفقاً لتقرير مؤسسة الإحصاءات الإسرائيلية الصادر في شهر كانون الثاني عام 2023.
كذلك الحال في القدس الشرقية الذي ارتفع عدد المستوطنين فيها ليصل الى الثلاثمائة ألف مستوطن. أما في الجولان السوري المحتلّ، فقد أقرت الحكومة الإسرائيلية في شهر كانون الاول عام 2021، خطة تنمية تهدف الى مضاعفة أعداد المستوطنين اليهود في مرتفعاته، وبناء 7300 وحدة سكنية على مدى خمس سنوات، من أجل مضاعفة عدد المستوطنين، من خلال جذب 23 ألف مستوطن جديد، ليصل عددهم الى خمسين ألف مستوطن.
من هو في موقع القوة اليوم؟! “إسرائيل” ام المبادرة العربية للسلام؟! هل حرّكت القمة العربية ومبادرتها، المقاطعة العربية لـ “إسرائيل”، بدلاً من تحريك المبادرة، بعد أن هرولت واندفعت دول عربية باتجاهها، ابتداء من المغرب، مروراً بالسودان، وصولاً الى الخليج؟!
هل يظنّ عاقل بعد اليوم، أنّ ما حققته “إسرائيل” من إنجازات سياسية، ودبلوماسية، وأمنية، واستخبارية، واقتصادية، وإعلامية وتطبيعية على الساحة العربية، وانفتاح واسع عليها من قبل “أشقائها” العرب، سترضى بالمبادرة التي ستعيدها الى ما قبل عام 1967؟!
هل يتصوّر القادة العرب أنّ “إسرائيل” على استعداد للانسحاب من كامل الأراضي المحتلة كما طلبت القمة العربية في مبادرتها؟ لماذا نصرّ ونعتقد وهماً انّ الكيان الإسرائيلي المحتلّ سيقبل بالسلام العادل، ويتخلى عن نزعة التوسع والاحتلال؟! ألم يحن الوقت، بعد خمسة وسبعين عاماً من إنشاء الكيان الصهيوني، كي يدرك الحكام العرب انّ “إسرائيل” لا تريد الا سلام الأمر الواقع المبني على شهية التوسع والاحتلال، والقضم والضمّ؟! ألم يرفع وزير المالية الإسرائيلية مؤخراً خارطة تضمّ فلسطين المحتلة والأردن، ضارباً عرض الحائط وجود مملكة يقيم كيانه علاقات دبلوماسية معها، ليشكل عدواناً وتهديداً مباشراً للأاردن!
بأيّ منطق نواجه العدو الإسرائيلي، هل بتودّدنا وعاطفتنا، وإظهار حسن نوايانا! هل بالسلام المبني على الحق والعدل! وايّ سلام هذا السلام الذي تريده “إسرائيل” ويعوّل عليه بعض العرب!
هل يتصوّر عاقل، انّ “إسرائيل” ستقبل بمبادرة عربية مجدداً، تلزمها بتفكيك مستوطناتها في الضفة والقدس والجولان، وهي التي صادقت حكومتها يوم 18 من الشهر الحالي على الاستيطان في الضفة الغربية من ستة مراحل الى مرحلتين فقط، وهذا ما يشكل تصعيداً خطيراً في ضمّ الصفة الغربية بكاملها.
أرييل شارون، (في مذكراته 1992 صفحة 466 مكتبة بيسان) يقول: “إنّ إسرائيل لم تضع في بالها التخلي عن الضفة الغربية. فهي جزء لا يتجزأ من إسرائيل، ولم تخطر في بالي فكرة التنازل عن الضفة الغربية.”
نتنياهو بدوره يقول في كتابه مكان بين الأمم: “إنّ استمرار سيطرة إسرائيل على الجولان، يعتبر عنصراً حيوياً للمحافظة على السلام”… و “إنّ المطالبة بقيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية، تتعارض كلياً مع السعي لتحقيق سلام حقيقي، إذ أنّ وجودها يضمن حالة عدم استقرار ونزاع مستمر يؤدّي في النهاية الى حرب حتمية”… وأنه “لكي تستطيع “إسرائيل” الدفاع عن مدنها، يجب عليها أن تحتفظ بالسيطرة العسكرية على كلّ منطقة الضفة الغربية… وفي الشرق الاوسط يتقدّم الأمن على السلام ومعاهدات السلام، وكلّ من لا يدرك ذلك، سيظلّ دون أمن ودون سلام”.
عشية انتخابات الكنيست عام 1992، قال رئيس وزراء “إسرائيل” إسحق رابين: “إنّ من ينزل عن هضبة الجولان، يكون قد تخلى عن أمن إسرائيل.”
أمام سياسات “إسرائيل” هذه التي لم يتخلّ عنها قادتها نتساءل ايضاً: استناداً الى أيّ واقع، وأيّ منطق، يتحرك من يتحرك لإحياء وطرح المبادرة العربية للسلام مع “إسرائيل” من جديد طالما انها حققت الكثير وانتزعت من العرب الأكثر، بمعزل عن مبادرتهم،
وهرولة ومباركة بعضهم!
المبادرة العربية للسلام كانت مولوداً غير مكتمل النمو، وقد لفظ انفاسه على يد بعض العرب قبل “إسرائيل”، التي حققت ما تريد دونه. وهي اليوم بغنى عن أيّ مبادرة عربية، لأنّ “إسرائيل” تعوّدت على “كرم” بعض العرب، ان تأخذ ولا تعطي، تنتزع منهم المواقف والقرارات، ولا تتخلى عن أطماعها التوسعية مهما كانت مضامين مبادراتهم.
رغم كلّ ما قامت به “إسرائيل” منذ المبادرة العربية للسلام عام 2002 من أعمال عدوانية متواصلة، هل اتخذ العرب الإجراءات الرادعة ضدّ الكيان عندما رفض المبادرة العربية للسلام؟!
لقد أكدت المبادرة العربية على “إنشاء علاقات طبيعية مع “إسرائيل” في إطار هذا السلام الشامل”.
وهل “إسرائيل” بحاجة اليوم الى هذا “السلام الشامل”، وبعض الدول العربية أقامت مسبقاً “علاقات طبيعية” معها!
المراقبون السياسيون الذين يتابعون ويتتبّعون المسار العربي، يتساءلون باستغراب شديد: أيّ انفصام هو الانفصام الذي يتحكم بالعقل العربي وهو يتعاطى مع قضية قومية مصيرية، حيث لا يلتزم معظم الحكام العرب بما اتخذوه ويتخذوه من قرارات ومبادرات منذ خمسة وسبعين عاما، والتي بقيت حبراً على ورق، دون أن يكون لهم ردّ فعل حازم حيال دولة الاحتلال التي وجهت صفعة قوية لكلّ العرب عام 2002، باستهزائها واستخفافها بمبادرة 22 دولة عربية، ودون اتخاذ إجراء يردع عدوها ويصون مكانة الأمة وكرامتها.
لم تعد تنفع المبادرات العربية مع “إسرائيل”،
لتحقيق السلام العادل. السلام العادل لا يشحذ ولا يستجدى، بل تفرضه إرادة الشعوب الحرة وحقها في مقاومة المحتلين وتحرير أرضها.
السلام العادل الحقيقي أينما كان، له درع وسيف، درعه الحق وسيفه المقاومة. دون ذلك، لا ينتظر العرب السلام من محتلّ لا يتوقف يوماً عن ممارسة القتل وارهاب الدولة!
العرب لا يحتاجون الى تحريك مبادرة سلام دفنت على يد “إسرائيل”، بل يتوجب عليهم حفاظاً على كرامة أمتهم، وبعد الجرائم المتواصلة التي ترتكبها، وقف التطبيع وقطع العلاقات معها، والعودة الى المقاطعة الكاملة للحدّ من عربدتها.
هل في العالم العربي من لديه الشجاعة، والجرأة والقرار كي يفعل ذلك؟!