في السادسة من العمر اخذتني امي الايطالية المسيحية المؤمنة بكل طاقاتها بربها ايمانا مطلقا، السيدة النبيلة ، مكتبة متكاملة بالاديان والتاريخ والفلسفة ، حجم ثقافتها من حجم تواضعها، اخذتني مع اختي في زيارة خاطفة الى المسجد الاموي في دمشق.
كنت صغيرة ولكن التقطتُ جمال وروحانية المكان.
في التاسعة عشرة من العمر تزوجت وذهبت الى دمشق ثانية حيث كان زوجي قد افتتح سفارة بلاده هنالك ، حيث امضيت بضعة اشهر.
لم يتسن لي صداقة احد ، ببساطة شديدة لأن كل اهتمامي كان يصب ، و انا العروس ، على زوجي ولم أر أبعد منه .
أتذكر المطعم في وادي بردى ، الضجيج ، الفرح الذي ملأ المكان ، العائلات .
اتذكر السينما التي ذهبنا اليها ، حشود المراهقين .
اتذكر الفندق العريق ، طيبة العاملين فيه.
كنا في منتصف السبعينات والبلد كان محاصرا وبعض المواد ناقصة . ومن ثم رحلنا الى بلد آخر .الطريق من الشام الى الحدود الشمالية كانت قحلة ولا شجر ، والزراعة ضعيفة.
مرت السنوات وها عدنا الى مشرقنا الجميل ومن ناحية الاردن هذه المرة.
الزمن النصف الثاني من التسعينات.
لم اتكلم عن الاردنيين ولا عن ضيافتهم الدافئة والجميلة ولا عن سحر بلد تعرفت عليه من شماله الى جنوبه ومن شرقه الى غربه ، مشيا او على ظهر الجمل او في سيارتي .
عمان المضيافة الى ابعد الحدود ولكن عمان الراكضة وراء الغرب والسفارات كانت تخنقني كالحبل على عنقي من شدة ارادتها بتقليده.
العلاج كان الهرب شمالا الى سورية .
كنت اقول لزوجي لنهرب في عطلة نهاية الاسبوع الى الشام .
عشرات المرات ولا استطيع حسابها ، أعبر أنا نقطة الحدود وكل مرة اكرر " نحن الآن في بلد الاصالة ، التقليد وراءنا " .
بصرى الشام المحطة الاولى الالزامية حيث طيبة اهاليها وسحر بلدتها ومن ثم دمشق ، اسواقها بضجيجها وروائحها وكنوزها ، متاحفها ، مسجدها الاموي حيث الراحة النفسية تملكني كلما دخلته.
العشاء في مطعم بجانبه حيث تنزل بضعة دراجات في بيت قديم .
يصب الشاي رجل لم يصل طوله المتر الواحد ، له ١٠ اطفال وكبير في عزة نفسه وابتسامته.
شاب يغني اناشيد دينية ، جماله كجمال صوته ملفت للنظر .
وفي يوم واحد في الاسبوع يغني الحب فتقف العائلات ، الاب ، الام ، الشابة والشاب ليرقصوا وانا افرح لفرحهم.
في بهو الفندق اتأمل الناس وحديثهم وثقتهم بنفسهم ، ارى ضيوف العرس ، رجال الاعمال ، اسمع دردشة السيدات.
هنا لا احد يلتف الى الاجنبي الغربي ، هنا اصلا هم غير آبهين بالغرب وتقليده وفرمناته ، وعاداته.
هنا الشام ونقطة على السطر ، والحب ينمو في قلبي وشيء ما يتحرك في اعماقي .
تدمر ، حلب ، حمص ، حماة ، محافظة ادلب .. كلها احتضنتها في قلبي...
الطريق الى الشمال الآن في جانبه الايمن والايسر اخضر لون شجرة الزيتون.. مئات الكيلومترات من غابات الزيتون ، والقمح يرقص على لحن الهوى ، والخضار حيث تذهب عينيي ، والمعامل ايضا تنبت بشكل متسارع من ضواحي دمشق الى اقصى الشمال.
انواع من السيارات تسابقنا على الطريق .
البنى التحية من طرقات وكهرباء ومدارس ومستوصفات أضعاف ما عرفتها عندما عشت في الشام..
مرت السنين .
ابنتي الصغيرة ارادت صيف ٢٠١٠ دراسة اللغة العربية..
نصحتها فورا بالذهاب الى الشام لأنني متأكدة انها ستكون آمنة فيها حتى لو لم نعرف أحدا في المدينة .
أصررت ان تعيش مع عائلة سورية في قلب دمشق القديمة .
زارت بالباص العديد من الاماكن وانعزمت عند عائلات تعرفت عليهم في السفر.
احتضنوها كابنتهم...
رجعت الى اوروبا فرحة جدا من زيارتها في سورية ، ولكن قالت لي "الاجواء مشحونة".
وها نحن في بلجيكا لولادة حفيدتنا الثانية.
الزمان اواخر كانون الاول ٢٠١٠ وبداية كانون الثاني ٢٠١١.
على اللاب توب اتابع الاحداث في تونس و"هرمنا"والبوعزيزي وتصريح زين العابدين , ومن ثم مصر و"الثورة".
يستوقفني في ساحة التحرير روضة الاطفال والحمامات المخصصة للثوارىالتي تتباهى بها الجزيرة..
مهلا الم أر كل هذا التنظيم في الثورات الملونة الاوروبية واهمها في اوكرانيا وحتى في قرغيستان؟
وبعد وقت قليل وبعد رجوعي الى البلد البلقاني حيث يخدم زوجي ها هي ليبيا والالاف من الاعلام الملكية تظهر فجأة وكلها جديدة؟
هل نام كل الشعب الليبي اكثر من ثلاثين سنة وتحت فراشه خبأ العلم القديم وحافظ على اناقته؟
حينها تذكرت لبنان و"ثورة الارز" واليافطات الجاهزة كالبرق بعد اغتيال الحريري؟
شيء ما يدق ناقوس الخطر عندي ، ولمن أشتكي ، والكل مهووس ب"الثورات"؟
١٥ أذار ٢٠١١ وسورية تدخل النفق.
زلزال يهزني لم اعرفه من قبل.
في سورية ( لأ ) تامة واتقبل الكل ، ولكن لا تقتربوا من سورية.
دخلت معها نفقا لم اعرفه من قبل.
لم اعد انام ، لم اعد اعرف أين ولماذا الحياة.
لم اجن هكذا في حياتي وفي عقلي ان ذهبت سورية ذهبت فلسطين وذهبنا كلنا بلا استثناء.
الفكرة راسخة عندي..
صورة الرئيس الأسد مع السيد حسن واحمدي نجاد تلاحقني.
لا مقاومة ان لم يصمد الرئيس.
لا عزة لنا ابدا لا تحرير ولا تحرر من الهيمنة الغربية.
يمر الوقت واجد نفسي بضياع كامل.
في البيت الاجواء مشحونة.
أأتي انا بفرمان.
هنا ليس مسموحا لكائن من كان ان ينتقد الاسد ويتمنى له الهزيمة.
اتشاجر مع اخي.
العائلة تتفهم غضبي واخي لم يعد يتطرق للموضوع .
ومن ثم اصدقائي ومعارفي ، لم اعد احبذ العلاقات الاجتماعية..
ادور على القنوات السورية الرسمية والدنيا.
هنا سأعرف ما يحصل.
محوت « الجزيرة » من ذاكرتي.
ثم جاء خطاب السيد ، في عيد التحرير ، والامور وضعت بنصابها.
الآن اتنفس..
خطاب السيد يعني أمرا جوهريا ، الحزب وايران لم يتخلوا عن دمشق.
ومن ثم تبدأ الفيتوات الروسية الصينية.
عند الفيتو الثاني ، ٤ شباط ٢٠١٢ ارثي الامبراطورية الامريكية باسم كل مقاومات العالم ، وأكتب عن بدء موت صفحة من التاريخ امتدت من عام ١٤٩٥ ، عام اكتشاف امريكا الى ,٤ شباط ٢٠١٢.
هنا الكل يضحك مني ، لا يهم الاحداث ستتكلم يا من هُزمتم في الشام.
في عزة سطوة داعش على سورية والعراق ، يزورني احد كبار المفوضية الاوروبية.
كان قد زار الاسد والسيد حسن. .
يتكلم ، ولكن ليس عن ما دار بينه وبين الرئيس..
احترم سكوته واستمع..
يقول "المسكين بشار" ويكررها عدة مرات..
لم امتلك نفسي ، واضحك واقول له "بشار المسكين " !!
هذا سيهزمكم شر هزيمة لم تعرفوها ابدا من قبل..
انتم دخلتم قدس الاقداس وقلب العالم بمرتزقتكم ومخابراتكم وهززتم هزة عنيفة جدا الكرة الارضية وسينتفض الروسي ومعه الصيني لمنعكم من النصر .
وحتى ان لم يفعلوا وضعتم شعوب المنطقة في الزاوية ولم يعد لها خيار اما الموت والفناء الجمعي او المقاومة بكل ما اوتيت المنطقة من قوة.
نتكلم اكثر ويسألني من اين لك هذا الايمان والطمأنينة بالنصر ؟ .
اجيب : نحن ابناء هذه الارض مرت علينا حضارات عديدة نمت عندنا ومن ثم افلت هي وبقينا نحن...
لم يستوعب ويرجع الى الموضوع مرات ومرات ودائما يبدأ" : فسري لي ايمانك هذا"...
شباط ٢٠١٥ زارنا احد اصدقاء زوجي في الوزارة.
في الحديث يقول لي ان النمسا مع المانيا قررت مجيء اعداد كبيرة من اللاجئين السوريين ، حيث الديموغرافيا عندنا تتقلص والمهن كالهندسة والطب وغيرها معروف عند الجميع ان سورية تخرج متخصصين بارعين ونحن بحاجة لهم..
وايضا وسيلة ضغط على سورية.
أستمع بصدمة تامة ..
ومن ثم اقول : "انتم بلا اخلاق، هذه جريمة بحق شعب فقير عمل واجتهد ممثلا بدولة فقيرة صغيرة صبت كل جهدها بتعليم اولادها.
هذه جريمة ترتقي الى جريمة حرب"..
خسرنا صداقته مع اننا كنا وما زلنا نحترمه ونحبه حيث الحياة اخذت منه اغلى ما عنده.
اما في دمشق وحلب فاشتغل الهاون ومدفع جهنم باحترافية عالية ...
وبعد كم شهر اصبح لنا لاجئون سوريون..
انا :اسمي الوهمي الذي يختزل حياتي حيث اقتلعت من جذوري واصبحت قزما يطوف العالم .
ادين لك يا سورية بالنهوض من اعماقي وتصويب هويتي المشوهة ، ادين لك بحب الحياة لغد افضل ليس لأولادي واحفادي الذين هم اوروبيون ، ولكن لمنطقتي التي احبها حبا مجنونا.
أفهمتيني ان كل هوياتنا في المشرق وهمية ، حيث قسمونا الى بلاد وهمية لم ولن تستطيع ان تكون اوطانا بعيدا عنك..
بفضلك راجعت كل مفاهيمي السياسية ، وأعدتِ لي تراتبية الامور في اهميتها..
من اجلك رجعت اكتب بلغتي بعد اكثر من ٣٧سنة وإن باخطاء إملائية فادحة.
انت في هذه الحرب المجنونة الكونية عليك ابكيتيني كما لم يبكيني احد ..
اقدس كل جنودك وشهداءك.انحني امام كل امهاتك المعطائة بلا حدود ، ولد وثاني وثالث ورابع..
لم ادرس في حياتي ولم اسمع عن جيش استشهد فيه هذا الكم الهائل من خيرة ضباطه وهم امام جنودهم وذلك من اجلك..
انت النور والقمر الوحيد في عالمنا العربي..
انت العنيدة السيدة لا تركعي لأحد.
لولاك لما استمرت مقاومتنا الحبيبة..
طلبت من اولادي حين يحين الوقت ان يدفنوني في ربوعك لكي اكون سمادا في ترابك .
شكرا سورية...
خارج التعليق عندما تتكلم الروح .