برغم الاتجاه المتزايد نحو الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة (الرياح، الطاقة الشمسية، إلخ.)، يبقى الوقود الأحفوري (النفط والغاز والفحم) في قلب رقعة الشطرنج الجيوسياسية. إذ يستحوذ على أكثر من 82% من الاستهلاك العالمي للطاقة، في حين أن نسبة استهلاك الطاقة المتجددة لم تتجاوز 7% بعد. فالأخيرة ـــ على المدى القصير ـــ ما زالت غير قادرة بعد على منافسة الوقود الأحفوري في الكثير من الاستخدامات، كالنقل لمسافات طويلة (الجوي والبري والبحري)، أو في الصناعات الثقيلة مثل إنتاج الصلب والبتروكيماويات، بل حتى في تصنيع السلع الاستهلاكية من علب البلاستيك إلى الألبسة.
القوى الكبرى على خريطة النفط والغاز
اعتمدت دول الشمال المتقدم على النفط والغاز في بناء اقتصاداتها، وبشكل خاص أوروبا والولايات المتحدة، اللتان يبلغ استهلاكهما نحو ثلثي الإنتاج العالمي من هاتين السلعتين. في المقابل، شكل النفط والغاز بالنسبة لبعض دول الجنوب النامي أساس الهياكل الاقتصادية والعقد الاجتماعي خصوصًا في الشرق الأوسط (الذي تمتلك دوله نحو 50% من الاحتياطات المؤكدة من النفط الخام و40% من الاحتياطات المؤكدة من الغاز الطبيعي)، وهو ما سمح لها بممارسة ضغوط دولية "متفرقة" و"محدودة نسبيًا" لتحقيق مكاسب سياسية في بعض الأحيان.
أما روسيا التي ترى في مواردها الطبيعية عامل قوة اقتصادية ورافعة سياسية كبيرة لها، فهي أكبر مصدّر للغاز في العالم (تستحوذ على 23.6% من صادرات الغاز الطبيعي)، وتمتلك أكبر احتياطي مؤكد عالميًا، وتشكل المورد الرئيسي للغاز إلى أوروبا، حيث تحصل الأخيرة على أكثر من 50% من وارداتها من الغاز من روسيا (أكثر من 90% منه عبر الأنابيب)، وذلك قبل الحرب الروسية ـــ الأوكرانية.
في المقابل، تستورد الصين نحو 70% من احتياجاتها من النفط الخام التي يأتي نحو 50% منها من الشرق الأوسط (العراق ودول الخليج العربي على وجه الخصوص) و15.4% من روسيا. ويعني الحفاظ على مورد مستقر من الإمدادات النفطية ضمان قدرتها على الاستمرار في منافسة الولايات المتحدة اقتصاديًا، وهو ما تخشاه الأخيرة. لذلك، ليست مبادرة الحزام والطريق إلا جزءًا من استراتيجية صينية أكبر للتأكيد من نفوذها في الشرق الأوسط.
في ظل ما سبق، تشكل صعوبة الوصول إلى النفط والغاز (أو التخلي عنه) مصدر قلق اقتصادي وسياسي للدول الفاعلة في صناعة الطاقة (سواء المنتجة أو المستهلكة). وعلى مر التاريخ الحديث، تُرجم هذا القلق على شكل حروب ونزاعات واتفاقات، أعادت تشكيل خرائط العالم تحت شعارات مختلفة، منها حق الدول في تقرير المصير، والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب.
الجغرافيا السياسية لسوريا في خريطة النفط والغاز
قد لا يكون لدى سوريا الكثير من النفط والغاز لتشكل مصدر قلق "جوهري" للدول الفاعلة في صناعة الطاقة. فموارد سوريا من النفط والغاز في لعبة الطاقة الكبرى هامشية مقارنة بما هو متاح في الشرق الأوسط. إذ لا يتجاوز إنتاجها من النفط الخام 5 بالألف (0.46%) من حجم الإنتاج النفطي العالمي، و1.5% نسبة إلى إنتاج دول الشرق الأوسط (في ذورة الإنتاج النفطي في سوريا عام 2002). ويشكل الاحتياطي النفطي المؤكد 0.15% من الاحتياطي العالمي فقط، و0.33% نسبة إلى الاحتياطات المؤكدة في الشرق الأوسط.
في المقابل، فإن حجم الإنتاج من الغاز الطبيعي في سوريا شكّل أقل من 1 بالألف (0.071%) من إنتاج الغاز في العالم، و0.4% فقط من إنتاج الغاز الطبيعي في الشرق الأوسط. وبلغ حجم الاحتياطي المؤكد من الغاز الطبيعي 0.14% فقط من احتياط الغاز المؤكد في العالم، و0.35% بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط.
وبالمقارنة مع هو متوافر في العراق وإيران ودول الخليج العربي (انظر الشكلين 2 و3)، لا يمكن القول إن النفط والغاز في سوريا أثار مخاوف الدول القلقة لتكون فاعلًا في الحرب السورية.
لكن...
جغرافيًا، تتوسط سوريا الشرق الأوسط المليء بأحلام خطوط الأنابيب التي يمكن أن تجعلها مركزًا لها. والحدود السورية مع العراق، والموانئ البحرية على البحر المتوسط، تجعل منها ممرًا طبيعيًا لنفط شمال العراق ودول الخليج العربي إلى أوروبا.
وبرغم أن الجسر البري إلى أوروبا هو تركيا ـــ العضو في حلف "الناتو" ـــ وليس سوريا، إلا أنّ طبيعة الجغرافيا السورية المسطحة نسبيًا تجعل بناء خط أنابيب أسهل وأرخص بكثير مما هو عليه الحال في تركيا الجبلية. بالتالي، ستفقد تركيا رسوم العبور والكثير من المكاسب السياسية في الشرق الأوسط وأوروبا، وتُحوَّل تلك المكاسب إلى سوريا التي يمكن أن تجلب النفط والغاز من الشرق الأوسط (الذي يُنتج نحو ثلث الإنتاج العالمي من النفط ـــ 31.3% تحديدًا ـــ و17.7% من الغاز الطبيعي، ويحتوي على نصف احتياطيات النفط العالمية المؤكدة، وأكثر من 40% من احتياطيات الغاز العالمية المؤكدة) إلى أوروبا التي لديها عجز في الميزان الطاقوي (75% من النفط و63% من الغاز)، وتستهلك أكثر من 14% من النفط الخام و14% من الغاز الطبيعي على مستوى العالم.
سياسيًا، روسيا (الحليف الاستراتيجي لسوريا) ـــ الطامحة إلى تغيير نظام القطب الواحد، والحد من هيمنة الولايات المتحدة (التي شكّل النفط والغاز ركيزة أساسية لسياسيتها الخارجية)، تسعى للسيطرة على خطوط نقل الطاقة الرئيسية في الشرق الأوسط لتصبح قوة مهيمنة على الطاقة العالمية، خصوصًا بعد الأزمة الروسية ـــ الأوكرانية عام 2014، التي سعت إثرها أوروبا (التي تحصل على نحو 55% من وارداتها من الغاز من روسيا) إلى كسر اعتمادها على الغاز الروسي، والانفتاح على سوق الشرق الأوسط بموارده الهائلة من الغاز والنفط، في ظل وجود دول تنافس روسيا لجهة حيازة الغاز الطبيعي مثل إيران وقطر، إذ تمتلك إيران ثاني أكبر احتياطي غاز مؤكد على المستوى العالم بعد روسيا، تليها قطر (التي تستضيف قاعدتين عسكريتين أميركيتين، ومقر القيادة المركزية الأميركية في الشرق الأوسط).
الحرب لعبة سياسية نتيجتها صفر
باختصار، يمكن القول إن الأهمية الجيوسياسية لسوريا لا تكمن في ما تمتلكه من نفط وغاز، بل بموقعها الجغرافي الذي كان أحد خفايا الحرب غير المعلنة فيها، وشكل وقودًا لإطالة أمدها، الناتج من تضارب مصالح جميع الدول ـــ سواء التي دعمت الحرب أو عارضتها ـــ والتي يتحدد نفوذها الجيوسياسي ودورها الاستراتيجي بقدرتها على التحكم بأسواق الطاقة (إنتاجًا وعبورًا وتصديرًا). والطرف المنتصر في هذه الحرب سيتمكن من تغيير المعادلات السياسية، وهو من سيمتلك مفاتيح تعديل شكل النظام العالمي. بهذا المعنى، فالحرب في سوريا هي لعبة صفرية، نتيجتها مكاسب للفائز تعادل خسائر الخصم.