في مفهوم القومية والعروبة التقارير والمقالات | في مفهوم القومية والعروبة
تاريخ النشر: 14-02-2016 / 13:52:39

بقلم: وليد محمد علي

لأن الحقيقة في بنيتها التعددية والتطورية عصية على الاحتكار ولأن البداية تكون دوما بالوعي الحقيقي للذات وللمعضلات والتحديات المطروحة فإن ماأسلجله في هذه الأسطر يأتي في سياق الرأي المرحب بالنقد الموضوعي والقابل باستمرار للتطوير العلمي الإيجابي المنطلق من العمل الجاد لتحقيق أهداف الأمة في التحرير والوحدة والتقدم ( بالمعنى الواسع لهذه المفاهيم ) . أنا ممن يرون أن القومية هي رابطة عاطفية لجماعة تتبادل الشعور بالانتماء لإثنية ولغة واحدة ولجغرافيا وتاريخ واحد وحضارة مشتركة مع ترابط المصالح والطموحات. كما أرى أن الانتماء لقومية معينة ليس شأنا عقديا ، أو فكريا ولا أيديولوجيا ؛ بل ثابتة اجتماعية ونفسية لها جذور ضاربة في التاريخ . والقومية شأنها شأن كل الحالات الإنسانية ، حالة طبيعية ، وواقعة تاريخية تتمدد وتنكمش وفقا لحالتها من حيث القوة والضعف في مواجهة التحديات الخارجية . كما أنها ارتباط طبيعي محايد لا فكاك منه مثل ارتباط أي منا بأسرته وعائلته ومسقط رأسه .لكنها (القومية) تسعى إلى فكر تتمظهر فيه. في العروبة العرب كقوم كانوا موجودين ك "قبائل" قبل آلاف السنين ليس في شبه جزيرة العرب واليمن فحسب ، بل في أماكن أخرى لم تفصلها عن موطنهم الأصلي ، موانع عصية على وسائل مواصلات ذلك الزمان . لهذه الأسباب ولغيرها ، فإن أبناء القبائل العربية المختلفة والمتناحرة كانوا دوما يمتلكون إحساسا فريدا بأن هناك ما يجمعهم ، ويدفعهم للاعتزاز بلغتهم "لغة الضاد" . إلا أن ذلك لم يتضح ولم تتبلور ملامحه كإتجاه سياسي إلا في القرن العشرين . فقد بات في حكم الثابت تاريخيا أن النظام الاجتماعي الذي كان سائدا عند العرب حتى ظهور الإسلام ، وتسيده في المنطقة ، لم يتجاوز "الحالة القبلية " . هذه القبائل المشتتة والمتناحرة لم تتوحد إلا عن طريق الإسلام الذي ألف بينها ووحد كلمتها ، ووصلها بشعوب وقبائل أخرى ؛ بعضها دخل في الإسلام ،وبعضها بقي متمسكا بمعتقداته ،ولكن الجميع عاش في إطار الوعاء الثقافي الجديد . خروج العرب ،عن طريق الاسلام ،من الحالة القبلية وحدودها الضيقة إلى دائرة الثقافة والحضارة الاسلامية الرحبة ،أسس لما يمكن أن نطلق عليه "العروبة الحضارية " ،حتى بات بإمكاننا أن نسمي كل من اندمج في الثقافة العربية ، بغض النظر عن أصوله العرقية ، "عروبي /عربي " . لكن ، رغم ذلك ، وما يقال عن تجربة "محمد علي " ،إلا أن الوعي القومي العربي الخاص لم يتبلور إلا مع بروز النزعة القومية العربية أواخر القرن التاسع عشر ، ومطلع القرن العشرين ،في مواجهة النزعة الطورانية وحملة التتريك التي برزت في تلك المرحلة ، خاصة بعد تولي حزب الاتحاد والترقي السلطة ، وموجة العنصرية والإضطهاد للعناصر غير التركية ، وتحديدا العربية منها . كما ترافق مع بداية انتشار أفكار النهضة الأوربية في أوساط النخب العربية المتعلمة في الغرب ،وفي منظومة البعثات التعليمية والتبشيرية الغربية ،وما اكتسبته من أفكار كانت سائدة في أوربا حول القوميات وقيام الدول القومية الموحدة ، كمدخل حتمي ووحيد لدخول عصر الحداثة. تلك البدايات كانت واضحة المعالم قبيل الحرب العالمية الأولى ،وكان التعبير عنها في تحالف الشريف حسين وعرب المشرق في مواجهة الإمبراطورية العثمانية،تحت "وهم" أن هزيمة الأتراك ستؤدي إلى الحصول على الاستقلال وإقامة دولة عربية موحدة ،أقله في المشرق العربي .ولكن العرب حصدوا في النهاية اتفاقية سايكس بيكو،ووعد بلفور المشؤوم. منذ ذلك التاريخ وجد العرب كينونتهم في قلب دوامة ثالوث معاد (تخلف،تجزئة وتهويد ). ولازال العرب في قلب هذه الدوامة إلى أيامنا هذه. وفي مواجهة تلك التحديات برزت عدة اتجاهات فكرية،ليبرالية،يسارية وإسلامية : ـ الاتجاه الليبرالي: إنتشر في المنطقة العربية عبر الإرساليات والبعثات التعليمية، وكتب وأبحاث المستشرقين.وكان الفكر الليبرالي،بالنسبة لمنظري الحركة القومية العربية الأوائل،فكرا يحتذى به،على أساس أن لابديل عنه.فهو الذي أسس الدول القومية في أوربا ونشر العقلانية عبر مبادئه العلمانية التي تصدت لسلطة الكنيسة وأقامت دولها بعيدا عن تأثير رجال الدين "فما لله لله وما لقيصر لقيصر". ـ الاتجاه اليساري: رغم أن الأفكار اليسارية بدأت في الإنتشار في البيئة العربية بعيد الثورة البلشفية،إلا أنها توسعت في حقبة الستينات والسبعينات،على أثر انتصار العديد من ثورات اليسار في العديد من الدول،وكذلك وقوف الاتحاد السوفياتي في مواجهة الغرب الإمبريالي وإلى جانب العرب في صراعهم ضد الكيان الصهيوني والإستعمار الغربي. ـ الاتجاه الإسلامي: هذا الفكر متسق أكثر مع فطرة جماهير الأمة وخلفيتها التاريخية والحضارية.لكن ما كبح تمدد هذا التجاه كان سيطرة مجموعة من رجال الدين الذين نستطيع أن نطلق عليهم دون تردد،وعاظ السلاطين،الذين كان همهم تفسير النص القرآني ( وهو حمال أوجه كما قال الإمام علي ـ ع ـ) وتأويله بما يخدم الحاكم؛ أي أنهم دمجوا بين ماهو بشري وما هو إلهي فيما يعود إلى مسألة السلطة،فأصبحت سلطة الحاكم وكأنها مستمدة من سلطة الحق الإلهي.كل هذا توازى مع غياب أي محاولة اجتهاد أو تجديد في التفسير والتأويل للنص القرآني،فاقترن الفكر الديني حينها في أذهان النخب بالجمود والرجعية،وعدم القدرة على مواكبة ما هو جديد،ناهيك عن القدرة على اختراق الواقع وتحقيق الحداثة. وعليه،فإن ضعف هذه التيارات وفشلها في التصدي للتحديات التي كانت ولا زالت تواجه الأمة ، يعود إلى أن هذه الإتجاهات الفكرية كانت قد نشأت كتيارات مأزومة بسبب اغترابها المكاني أو الزماني ، الأمر الذي أدى إلى بروز تيار اتجاه تبعيضي : تمثل بتجربة جمال عبد الناصر ، وما عرف بالتيار الناصري ، الذي استند إلى شخصية "ناصر" الكاريزمية وإلى الالتفاف الشعبي الكاسح حول هذه الشخصية .إلا أنه عجز عن بناء صيغ تنظيمية ناجعة ، وعن تمثل جوهر الاتجاه "التبعيضي " عند جمال عبد الناصر الذي رفض بإصرار تبني فلسفة خاصة وخاطب مجلس قيادة الثورة :"علي بن أبي طالب مثلي الأعلى، وأنا أكثركم يسارية ". وكما رفض ناصر الجمود الفكري ، كان يصر على رفض الجمود التنظيمي، وكان يعمل من أجل بناء صيغة تنظيمية متطورة تستمر كأداة لتحقيق أهداف الأمة ، ولا تتحول بحال من الأحوال إلى هدف بذاتها. فكانت هيئة التحرير ،الإتحاد القومي ، الإتحاد الإشتراكي ، ثم التنظيم الطليعي . لكن ، هذا المسار أو هذه المحاولة قطعت بالقوة العسكرية الصهيوإستعمارية في العام 1967 . في مستقبل العروبة رغم وجاهة الرأي الذي يقول إن "العرب" فشلوا حتى الآن في مواجهة الثالوث المعادي "التخلف، التجزئة والتهويد" ، إلا أنهم صمدوا وقاوموا رغم ما تعرضو له على امتداد مائة وأربع وثمانين عاما ،منذ بدء الغزو الإستعماري لبلادهم ،مرورا بسايكس بيكو، وصولا إلى وعد بلفور وزراعة الغدة السرطانية الصهيونية في أرض فلسطين . والوقائع أكدت أن هناك قوة كامنة في أعماق الشخصية العربية ، مستمدة من حضارة ثرية يحتضنها وعاء لغوي ثابت وعميق .قوة مكنت هذه الأمة من استيلاد ردها على التحدي عبر ممانعة ومقاومة ممتدة ، على مدى زمن ذلكالتحدي ، فتمكنت من تحري الكثير من بقاعها من براثن الاستعمار المباشر . وباتت الأمة اليوم على مشارف تحقيق انتصارها الحاسم ، بعد أن تمكنت مقاومتها البطولية في فلسطين ولبنان والعراق من توجيه ضربات قاسمة للعدو الصهيو .أمريكي. فلم تعد الإدارة الأمريكية تجرؤ على انزال جنودها في ميادين الحرب ،كما بات الجيش الصهيوني (الذي خاله البعض لا يقهر ) عاجزا عن تحقيق أي انتصار ، ولم يعد الكيان الصهيوني بقادر على القيام بدوره الوظيفي كرأس رمح قوي وصلب للمشروع الاستعماري في بلادنا . كما لم تعد الولايات المتحدة متفردة في قيام العالم . لكن ،وبسبب عدم اكتمال متطلبات بناء مشروعها النهضوي التحرري ، وخضوع الكثير من أقطار الأمة للاستعمار الجديد ،ووجود من استمروا التبعية للغرب الاستعماري ، تمكن الأعداء مؤخرا من تفجير صراع دام داخل الأمة ، بين قوى المقاومة الساعية للتحرير الناجز والاستقلال الكامل والسيادة ، وبين قوى التبعية والتخلف والانحطاط . أمام هذا الواقع نرى ضرورة السعي للمصالحة الشاملة داخل الأمة ، وداخل كل قطر على حدة (فالوحدة الوطنية خطوة هامة على طريق توحيد الأمة ). وهذه المصالحة يجب أن تترافق مع: إجراء مراجعة نقدية شاملة، لا تشمل المؤسسات الرسمية فحسب ، بل مجمل الأطر الشعبية :الثقافية، الاجتماعية ، النقابية والمهنية ، وتكون مترابطة مع مراجعة فكرية عميقة ترتكز على : إن عروبتنا هي عروبة حضارية ، طاردة لكل تعصب عنصري أو انغلاق إنساني ، وهي انتماء وهوية لكل المتحدثين بالعربية وتشكل الوعاء الأول لتكفيرهم وإبداعهم ، يعتزون بها ويحملون أهدافها وطموحات أبنائها . ـ العروبة هي تعبير عن الانتماء إلى جماعة / أمة محددة ، لديها خصائص وخصوصيات تختلف فيها مع جماعات /أمم أخرى ، لكنها تتقاطع في خصائص ومصالح مع جماعات أخرى ، وتحديدا في الدوائر اللصيقة بها ، كالدائرة الإسلامية ، والدائرة الأفروأسيوية ، ثم دائرة دول الجنوب (دول عدو الانحياز ). كما تمتد إلى دول عظمى وقوى صاعدة تتناقض مصالحها مع أطماع قوى الاستكبار العالمي. ـ العرب يجمعون بين اللغة العربية ومضمونها الثقافي والحضاري والقبول بالانتماء لجماعة /أمة واحدة . ـ التزامنا بحضارتنا وقيمنا الأسلامية أساس ، فالإسلام هو الوعاء الحضاري للجميع مسلمين ومسيحيين وسواهم من أبناء العروبة : للمسلمين منهم عقيدة ، حضارة ، ثقافة وقيم أيضا . يقول الشاعر الماروني رشيد خوري: شغلت قلبي بحب المصطفى وغدت عروبي مثلي الأعلى وإيماني ويقول الأديب المسيحي أمين نخلة :يامحمد يمينا بديني ودين ابن مريم وبخشبات صليبه إننا في هذا الحي من العرب نتطلع إليك فعقولنا في الإنجيل وعيوننا في القرآن . ـ حضارتنا لا تعرف الإنغلاق على الذات ، ولا تجد كينونتها إلا بالتفاعل مع الآخر . ـ الإقتناع الراسخ بأن تخلف الأمة هو أمر طارئ وغير طبيعي ، وأن تمسكنا بانتمائنا ، وتمثلنا لحضارتنا ، سيمكننا من تجاوز العقبات واسترداد مكاننا الطبيعي تحت شمس الحرية والعزة والكرامة . ـ مشروع النهضة هو مشروع الجماهير ، صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير والنهضة والتقدم . ـ الفصل بين المؤسسات ، التشريعية والتنفيذية والقضائية . ـ إقرار الحريات الأساسية ، بما يفسح المجال أمام الطاقات المبدعة ، ويسهم في كسر حلقة التخلف التي نعيش داخلها منذ عقود. ـ عودة الأوطان إلى أبنائها (مواطنيين لا رعايا ) ليعود أبناؤها إليها . فأمتنا ،نتيجة لدوامة التخلف والتجزئة والصهينة ،أصبحت أمة طاردة لأبنائها الذين أصبحوا يغادرونها مضطرين بحثا عن العلم والعمل ووهم "الحرية" في أنحاء المعمورة . ـ إعطاء الاهتمام لمراكز البحوث والدراسات ، التي تمكن العلماء والخبراء من العمل في تخصصاتهم ،والإسهام في تطوير مجتمعاتهم . ـ تأسيس الحركات والتشكيلات والهيئات كأدوات ووسائل لتحقيق أهداف الأمة ، لا أهداف هذه التشكيلات بحد ذاتها . ـ الالتزام بفطرية الإختلاف والتعددية ، كمدخل طبيعي لإبداع الوسائل التي تمكننا من توحيد الطاقات والجهود لمواجهة التحديات وصناعة المستقبل . ـ تحقيق أهداف الأمة في الوحدة والتحرير والتقدم لا يتم إلا عبر العمل الترابطي المتساوق. إن القبول بالوضع الراهعن للأمة لا يعني سوى هدر المزيد من الفرص المتاحة لوقف التدهور الشامل ، وتسهيل مهمة العدو الصهيوإستعماري في تكريس هيمنته وسيطرته . فأي كيان من كيانات الأمة لن يستطيع تأمين الأمن الغذائي ( أضعف الإيمان) لمواطنيهمن دون الاستيراد والاعتماد على الخارج . وهذا لا يضمن استمراره إلا ضمن آليات التبعية والاحتواء والإفقار التدريجي . ولا خيار لنا إلا خيار التنمية التكاملية التي تشكل الأساس المادي والثقافي ، وليس التكامل الاقتصادي فحسب ، بل والتعاون السياسي وصولا إلى السوق المشتركة التي تشكل مفصلا هاما من مفاصل الوحدة . إن التنمية التكاملية القائمة على الإنتاجية المتولدة من الاستثمار الداخلي (العربي العربي) يجب أن تشمل (الغذاء، الماء ، النفط، التصنيع ووحدة التداول النقدية...) ويجب ألا يستثنى من هذه الأبعاد البعد الثقافي للتنمية . لقد بات إنجاز كل ما سبق أمر لا يحتمل المماطلة ، لتجاوز حالة اللامبالاة والأحباط التي تعانيها الجماهير العربي ، من جراء التراجعات الخطيرة التي أصابت المشروع النهضوي للأمة .وفي سياقه تكون هزيمة الحركات الإرهابية (ذراع قوى التبعية) في المعركة التي تخوضها حاليا لمصلحة معسكر الأعداء الصهيوأمريكي ، مع البناء مجددا على الانتصارات التي حققنها قوى وحركات المقاومة في العقود الأخيرة .


تنويه | المقالات المنشورة في الموقع تمثل رأي صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي أسرة الموقع

جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013