تتشكل من أسس ومبادئ وقيم، يُبنى عليها الإنسان كما تبنى المجتمعات والدول والأمم، وتستند على الاحترام المتبادل والتفاهم من خلال الحوار، إنها أكثر من نهج، وأكبر من رؤية، وأوسع من مساعدة أو تبرع أو إنقاذ على أهمية كل فعل وضرورة القيام به، أو التقدم إليه بالعفوية الأخلاقية، أو من خلال الآداب الإنسانية.
ففي الأزمات والحروب وحلول الكوارث؛ زلازل وفيضانات وبراكين، تصبح كل الدروب المنهارة بفعل كل ذلك معبدة من أجل إنقاذ الأرواح من أفواه الجحيم المتناثرة تحت وبين الركام، الذي ينتشر مثل النار في الهشيم، لتتجلى الحياة على حسابات الموت، وتتناقض مسيرة الفهم والعلم البشري نتاج اندفاعات الإنسانية، التي تكبر على الأحداث، فنراها تصغر كما هو حال الحزن وتداعياته.
وإني أرى أن أهم التحديات الكبرى لدى شعبنا وشعوب الأرض هو الانتماء إلى الإنسانية التي ينبغي أن تتحول إلى هوية للفرد، لأن ظهورها يجب ألا يكون في الأزمات فقط، إنما تعبير تفاعلي دائم، ومسؤولية مستدامة ومتطورة، ليس على صعيد الفرد للفرد، وإنما على الصعد الوطنية كافة، وتحويله إلى نشاط متواصل يؤمن بالمساعدة والإيثار والتبرع لإغاثة المتضررين من الكوارث، وليس غريباً ما رأينا من اندفاعة أبناء مجتمعنا السوري وتقدمه للتبرع والمشاركة في الإنقاذ والدعم المادي واللامادي للمتأثرين من حدث الزلزال الكبير وتردداته.
الأسرة.. المجتمع.. الدولة.. مسؤولون عن تربية وتنمية القيم النبيلة، وهذا في اعتقادي أنه ما من دولة على وجه الأرض إلا وتنشد ذلك، فتربية الدولة لأبنائها على ذلك تتحول إلى دولة عمادها التفاهم والاحترام مع كل شعوب الأرض، وأهمها بين أفراد شعبها، الذي نجده في مقدمة من يساعد ويغيث ويتبرع عند أي حالة تدعوه إليها ظروف الدولة، وفي أي مكان من جغرافيتها، أو حتى من خلال رد الجميل لمن يساعدها من الدول المحيطة القريبة أو البعيدة.
الإنسانية ثقافة مغمورة بمشاعر الصدق والوفاء والعطاء والتسامح، فالمرّ يمرّ بحضورها، والأسى يتصاعد بزوالها، هذه التي تؤدي إلى التخفيف من معاناة المتضررين، وتشعرهم بأن لهم وطناً وإخوة وأصدقاء وأهلاً، وأن كل هؤلاء مؤمنون بأن لا شيء يمنع من التفاعل الإنساني، وأن كل فرد يمكنه المساهمة في جهود التخفيف من الأضرار بشكل أو بآخر مادي أو معنوي، ومن حق الدولة أن تدعو جميع أفراد مجتمعها للمساهمة بالتبرع، وإلى مواصلة جهودهم الإنسانية والوطنية في التخفيف من وطأة وتداعيات الزلزال، والإسهام بما يقدرون عليه، من خلال تبرعهم لتوسيع مظلة المستفيدين من المساعدات الإغاثية.
إن ساحة العمل الإنساني يجب أن تكون حاضرة في ذهن أي مواطن، لأنها جزء من موروثنا الأخلاقي الذي أسس لبناء مجتمعنا، وأن الإيمان بتقلب الأيام وتغير الأحوال، وأن هذه اللحظات الإنسانية لا تقدر بثمن، وأن الشعور بنفس واحد يقسم السعادة، ويخفف من الأحزان، لأن الحقيقة في النظر هي التي تجرح العظم، فكيف بمكسوري القلوب من الناجين، أياً كان شكلها والتفكير الذي ينبغي أن يسود، كيف نعيد لهم بسمتهم، ونوصلهم إلى بر الأمان والآمال وبناء الطموحات من جديد؟
الإنسانية ثقافة تفتح بحضورها أبعاداً واسعة وآفاقاً نحو تعزيز أواصر الأخوة والتعاون وتعزيز المبادئ الوطنية التي بها تتم مواجهة مختلف الظروف القاهرة، محليةً كانت أم إقليمية أو دولية، فالحدث تجربة واقعة مع ظروف المرحلة المعيشية يفرضان علينا -نحن السوريين- تعزيز المفاهيم الوطنية التي تحفظ لنا وجودنا الذي حفظته سابقاً، وتنقلنا إلى المستقبل بأمان، فالذي حل بنا يرينا قسوة الحدث الذي تعرضت له سورية أرضاً وشعباً وقيادة، والاندفاعة الإنسانية التي تحركت إلى جانب الدولة كانت لفتة يجب التفاعل معها وتعزيزها وتوطينها في الفكر الاجتماعي السوري، ونقله إلى الأجيال، أي تحويله إلى موروث إيجابي، لأنه ترك أثراً طيباً لدى جموع ملايين السوريين، فالمبادرات السريعة والفاعلة لتقديم المساعدات عبرت عن المخزون الإنساني الرائد في وقوف الفعاليات الاجتماعية والاقتصادية إلى جانب إخوتهم، وأظهرت مواقف أخوة صادقة وطيبة.
في كثير من الأزمات المبرمجة عسكرية أو اقتصادية أو حتى سياسية تحتمل طبيعتها التأجيل أو المماطلة في الحلول، ما يبطئ العمل الإنساني فيها، إلا أنه في الكوارث الطبيعية التي تحضر من دون سابق إنذار تتطلب الاستجابات السريعة والفاعلة، وفي حالتنا السورية ظهر الأشقاء والأصدقاء، وعلى رأسهم الدول العربية التي قدمت أنموذجاً في العمل الإنساني تجاه كارثة الزلزال مع العديد من الدول الصديقة، على حين لاذت الدول الغربية وأمريكا بالسياسة في مواجهة القيام بدورها السياسي، وهذا ما جعلها في حالة العري والكيل بمكيالين، من خلال وضعها لحواجز المعايير السياسية، بينما العمل الإنساني لا يعرف إلا معايير الإنسانية التي تتجسد في إنقاذ الإنسان لأخيه الإنسان، أياً كان شكله أو معتقده، أو حتى الخلاف معه، وسياسة العقوبات على الدول والشعوب، أعمال لا إنسانية، لأنها تفتك أو تكون أشد فتكاً من الحروب والزلازل أو البراكين.