«التربية الجمالية» مصطلح قديم، ورد في كتابات الفلاسفة وعلماء الجمال، وتُعنى، كمضمون ودلالة، برعاية الذائقة الجمالية البصرية وتطويرها لدى الإنسان الفرد، وتفضي إلى إيجاد التناغم والانسجام بين وحدة المجموعة الاجتماعية العنصرية التي ينتمي إليها هذا الإنسان. والتربية الجمالية أساسية في هذه العملية إذا ما أحسن استثمارها، ولاسيما لدى الناشئة واليافعين، فلا مراء في منعكساتها الحضارية الرفيعة على جوانب حياة المجتمع وفعالياته كلها، لذلك أولتها المجتمعات الإنسانية، قديماً وحديثاً، اهتماماً كبيراً، وبحث الفلاسفة وعلماء الجمال والفنانون، على اختلاف وسائل تعبيرهم، في أنجع وسائل الارتقاء والنهوض بالتربية الجمالية لدى الفرد، وبشكل متواز مع التربية البدنية التي تكملها، فالأولى ترمم روح الإنسان، وتشذب أحاسيسه، وتسعى إلى سلامة نفسه، والثانية ترعى سلامة بدنه وصحته.
تعني التربية الجمالية عند «شيللر» الطرائق والوسائل التي تتخذها الإدارة التعليمية لتنمية الحس الجمالي لدى الطفل، من خلال العمل الفني، وهي ليست مجرد تربية مدرسية، وإنما هي التي تصنع الأسس لتربية وعي متوازن للفرد. بل أكثر من هذا، إذ يمكن أن تكون أساساً لبناء شخصية أمة، بكل ما تحمله هذه الكلمة من القدرة على مواجهة المشكلات بمختلف تحدياتها، وذلك من خلال مجتمع يستطيع أفراده مزاولة حياتهم إبداعاً وسلوكاً تطبيقياً، وبصورة متوازنة.
وبمعنى آخر «تعنى التربية الجمالية بتربية الذوق الفني عند الإنسان، وتأكيد علاقته الجمالية مع الطبيعة وظواهر الحياة الاجتماعية، وعلاقته مع الفن أيضاً، أي مع مكونات الواقع جميعها، وذلك لأنها تكشف في هذه المكونات عن قيمة جمالية معينة. وعلى هذا الأساس، فإن تكوين الذوق الفني يعد جزءاً ضرورياً ومهماً لعملية التربية الجمالية، كما أن للذوق الفني اختصاصاً آخر يختلف عن تربية العلاقات الجمالية مع الفن».
ويتساوى عند بليخانوف هدف الفن في التربية مع أهداف التربية ذاتها، ويبدو ذلك في تطوير الطفل طريقة سليمة من الخبرة مع ما يتقابل وإياها من الاستعداد الجسدي «المتناغم» الذي يجد الفكر فيه قريناً مرتبطاً، على غرار عملية التمثل البصري المحسوس الذي يتحرك فيه الإدراك والوجدان في إيقاع عضوي قوامه الانقباض والانبساط، نحو فهم للحقيقة، لا يبرح يزداد اكتمالاً وحرية.
ووصف «أفلاطون» الهدف من التربية الجمالية بأنه منح الفرد وعياً حسياً ملموساً بالتوافق والإيقاع اللذين يدخلان في تركيب كل الكائنات الحية والنباتات، واللذين يمثلان الأساس البنائي لكل الأعمال الفنية، حتى يستطيع الطفل في النهاية، وفي حياته وأنشطته، أن يأخذ دوره في الجمال والتسامي العضوي، وعن طريق التربية التخيلية، تغرس في الطفل غريزة إدراك العلاقات التي لها مفعول حتى قبل نمو منطقه، إنها تمكّن الطفل من التمييز بين الجميل والقبيح، والحسن والسيئ، والسلوك السليم من السلوك الخاطئ، والشخص النبيل من الشخص غير النبيل.
ويرى بعض الباحثين أن من أبرز مهام التربية الجمالية، تطوير القدرة والاستعداد لدى الناشئة على تلقي كل ما هو رائع في الطبيعة والفن والبيئة، ومن ثمّ تربية الذوق الجمالي، والموقف الجمالي لدى الناشئة تجاه الواقع.
أما في أهمية التربية الجمالية وضرورتها، ولاسيما في هذا العصر، فقد تعددت الآراء، ولكنها لم تختلف في تأكيد ضرورتها للإنسان عامة، وللناشئة خاصة، وللتربية الجمالية أيضاً أثرها الكبير وأهميتها في رفع مستوى الثقافة الجمالية الفنية للإنسان، وهي تسهم في إغناء عالمه الروحي، وضبط تأثير وسائل الإعلام العامة عليه، وقد أشار «لوناتشاوسكي» إلى أهمية التربية الجمالية بقوله: «يستطيع الإنسان أن يفهم الجمال بشكل واسع حين يشارك في الخلق الإبداعي في الفن والعمل والحياة الاجتماعية».
وتظهر أهمية التربية الجمالية وتتجلى في حاجة الإنسان إلى تنمية مخيلته وحساسيته وشتى قواه الإبداعية، والظاهر أن الإنسان المعاصر قد أخذ يضيق ذرعاً بالتربية العقلية القائمة على الاهتمام بالمنطق وحده، فصار على استعداد اليوم للإفساح في المجال أمام التربية الجمالية القائمة على الاهتمام بالمخيلة.
أما وسائل تحقيق التربية الجمالية وطرائقها وعناصرها، على نحو أمثل، لدى الفرد، فتتعدد وتختلف في شكلها وقوة تأثيرها ومدى فاعليتها، وهي مباشرة وغير مباشرة، وتتكون بفعل التراكم اللاشعوري، في ذائقة الإنسان البصرية والحسية، منها: الإسقاط أو الحذف التدريجي لكل ما هو قبيح، وطريقة التكرار بالنسبة للأمثلة الجمالية أو الموضوع الجمالي، وطريقة المقارنة بين ما هو جميل وما هو عكس ذلك، كما تسهم ضروب الفن كلّها في تصعيد التربية الجمالية وتحقيقها لدى الإنسان، منها الموسيقى، والفن التشكيلي، والمتاحف، وصالات عرض الفن، والأزياء، ووسائل الإعلام المختلفة، والشكل الصناعي الجميل والمتقن لوناً وشكلاً، وتنظيم المدن، وربط الأثر الفني التشكيلي بالعمارة وتنظيم المدن، ونشره في أماكن الاحتكاك اليومي للجماهير العريضة (الحدائق والشوارع ومداخل المدن وواجهات الأبنية والمكاتب والبيوت والمنتوجات الصناعية ووسائل الإعلام وغير ذلك).
ولنجاح التربية الفنية لابد من توفر جملة من العوامل لدى المتلقي منها: العامل الاجتماعي ويشمل التراث الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، والعامل الوجداني ويتضمن القيم الشخصية والاتجاهات والميول والدوافع والخصائص، والعامل المعرفي ويشمل الاستعدادات العقلية والمعرفية، والعامل الوراثي. ولأهمية التربية الجمالية وضرورتها، يحسن المباشرة بها في وقت مبكر، أي في مرحلة الطفولة، حتى تتفتح ملكة الإحساس بالجمال لدى الإنسان، وهذا ما أكدته وأشارت إليه كل المؤتمرات والندوات والسياسات الثقافية التربوية المحلية والإقليمية والدولية ومنها مؤتمر اليونسكو الذي عقد في مدينة «البندقية» بإيطالية عام 1970.