أكثر مايخيفني في المعرفة هو أن أعرف الاجوبة ولاأعرف الاسئلة .. فماذا أفعل بأجوبة لاأسئلة لها ولو كانت أجوبة حقيقية؟ انها مثل أولئك الذين يأكلون ولايزرعون .. ويشربون ولايعصرون .. ويلبسون ولاينسجون .. فكم هو مثير للشفقة ان نتحول الى مستهلكين للمعرفة ولانقدر على صناعتها بابتكار الاسئلة ..
ماعليك كي تحرر العقل الا أن تعطيه أسئلة صحيحة .. ولكن اذا ماأردت ان تشل العقل فما عليك الا ان تطرح عليه أسئلة غير صحيحة .. لأن السؤال الصحيح هو النار التي تشعل الزيت في السراج .. وتحرر الضوء المخبأ في الزيت .. أما السؤال الخاطئ فهو بمثابة ان تضيف الماء الى زيت السراج كي لاتشتعل فتائل الضوء فلا يطلع ضوء من ماء .. من الاسئلة الخاطئة ان نسأل ان كانت وحدة الوطن أهم من قوة الديمقراطية؟ .. فهذه معادلة مليئة بالماء ولاتشعل فتيلا لأي سراج في أي وطن .. لأن وحدة الوطن اهم من اي ديمقراطية تفككه مثلما نرى في ديمقراطيات لبنان والعراق وليبيا !! .. وأن تسأل لم لانقبل ان تكون الفوضى شكلا من أشكال الحرية ومرحلة من مراحلها؟ .. وهل أن العمالة والخيانة أهون من الديكاتورية؟ .. كما هي خيانة الملوك والممالك أمام الديكتاتوريات الوطنية .. ومثل أن تسأل لم لانستطيع ان نشبه الغرب في ديمقراطيته؟ .. تسأل هذا السؤال وانت تلقن الناس في نفس الوقت ان من رأى باطلا فليغيره بيده وليس بصندوق انتخاب كل عدة سنوات ..
ولطالما لم تكن غايتي يوما ووسيلتي في ان أفتش عن الاجوبة بل ان في أن أفتش عن الاسئلة .. لأنني أحب ان أشعل فتائل السراج وأن أحرر الضوء الحبيس في عتمة الزيت ولزوجته ..
دعوني هنا أمسك لهبا صغيرا أقربه من فتيلة السراج كي أحرر الضوء من قلب الزيت فلعلنا نرى من خلال هذه العتمة .. فربما نرى ونصنع معرفة في الوعي .. ولهبي الصغير هو سؤال يطرح جدوى الرهان على بقاء اردوغان او نهايته في السياسة التركية؟ هل يفيدنا بقاؤه او زواله سواء خرج من سورية سلما او حربا؟
مجرد السؤال هو اضاءة كي لانعيش على الأوهام .. فهناك من يروج ان سورية وروسيا وايران معنية بانقاذ اردوغان في الانتخابات لأنه يبدي استعدادا للتراجع والخروج من المناطق المحتلة .. وان بقاءه أفضل لأن هناك تيارات قومية تركية أشد خطرا وتطرفا وهي طورانية العقيدة وهي ستكون قلب هجوم للناتو وتستأنف مابدأه أردوغان ..
وهناك من يعتقد ان اردوغان هو صديق روسيا وايران وانه يريد ان يتحول الى صديق عبر استعادة معادلة صفر مشاكل ..
ولكن دعونا نسلط حزمة من الضوء على هذه الفرضيات .. لأن اردوغان ليس صديقا لايران وليس صديقا لروسيا .. ولكنه الرجل الذي وضعه الغرب مثل جسر تواصل مع ايران ومع روسيا ولا يوجد افضل منه ليلعب هذا الدور .. فهو يملك أوراقا جغرافية وديموغرافية وتاريخية واقتصادية تمكنه من لعب دور الوسيط وناقل البريد .. ولكنه حتما ليس عدوا لاميريكا .. وفي ميزان العداوة التاريخية فان روسيا هي عدوه وليست أميريكا .. ولم تخض تريا اي حرب مع أميريكا بل ان كل تاريخها مثخن بحروبها مع روسيا القياصرة .. ولذل فان اميريكا تركت لأردوغان هامشا للتحرك مع روسيا لضرورة الانتشار الشعبي في المنطقة وفي داخل تركيا .. وهو تقارب تسمخ به اميريكا يشبه التفاهمات بين الدول على وجود شخصيات في القيادة كنوع من التودد او ابقاء شعرة معاوية او لابقاء خيط اللاعداوة المطلقة .. كما كان دور العماد حكمت الشهابي في القيادة السورية الذي وصفه مصطفى طلاس بأنه كان رجل اميريكا في القيادة وأبقته القيادة السورية كنوع من الجسر المعلق بين سورية واميريكا .. وكما كان الحريري في لبنان رجل السعودية في مرحلة التوافق السوري السعودي .. وكما ان انور السادات في زمن عبد الناصر الذي عينه نائبا له في رسالة تفاوضية وايماءة لتخفيف الاندفاعة الامريكية العنيفة ضد مصر كما قال حسين الشافعي في تفسيره لقبول عبد الناصر بشخصية السادات الهزيلة التي كان هو نفسه يسخر منها ويعتبر انها محرجة للقيادة المصرية بسطحيتها وضآلتها .. لكن السادات كان معروفا بعلاقته بالمخابرات السعودية القريبة جدا من الامريكان .. وبالتالي فان التعيين كان رسالة تفاوضية لاميريكا ..
وبالعودة الى اردوغان فانه كان قد كلف بتدمير ايران وروسيا – تحديدا – في سورية التي كان قد وعد انها ستكون مكافأته عبر دفعه لموجات الاسلاميين لتحطيم الدولة والمجتمع السوري .. وكانت ايران – لو نجحت مهمته – ستخرج بالقوة من معادلة الصراع مع اسرائيل والغرب باخراجها من سورية وابعادها آلاف الكيلومترات عن حدود فلسطين التي كانت تتاح لها من خلال سماح سورية لها بهذا العمق الاستراتيجي لتبقى على فم اسرائيل وتفاوض اميريا من منطق الند للند .. اما اسقاط الدولة السورية وتولي المعارضة التي تركز ثقلها السياسي وجسمها العسكري في تركيا فان ذلك سيعني خروج روسيا من البحر المتوسط ومن الشرق الى الابد ومحاصرتها بأحزمة اسلامية لانهاية لها ..
وكان من الواضح ان اردوغان عندما أسقط الطائرة الروسية كان ينفذ مهمة ناتوية وهي رسالة ناتوية لروسيا حملها أردوغان بنفسه .. وان اردوغان كان راغبا جدا في الاشتباك مع الروس ولكنه طلب ان يتقدم الناتو للمشاركة في المواجهة التي افتتحها .. الا ان الناتو لم يبد حماسا لأن الناتو لم يرد الاشتباك مع روسيا بل كان راغبا في ارهابها من أنها دخلت في سيناريو افغانستان عندما بدأت تخسر جنودها وطائراتها عبر الرسالة التركية العنيفة .. وكانت اميريكا تنتظر من روسيا بعض اعادة التفكير والتراجع والمقايضة .. ولم تكن تنتظر الحرب مع روسيا .. ولكن رد الفعل الروسي كان عنيفا ومستعدا للذهاب الى أقصى مواجهة في سورية بعد هذه الرسالة .. فسمح الغرب واميريكا لاردوغان بالعودة الى دور ساعي البريد ومراضاة روسيا والتحول من جديد الى مفاوض من خلف الستار مع روسيا .. وسمح له الجيش التركي – وهو جيش الناتو- ان يشتري صفقة اس 400 رغم انه حظر عليه تفعيلها لأن تفعيلها سيوصلها بشبكة اس 400 الروسية في القرم وسورية وسيجعل الروس قادرين على مراقبة كل أجواء الشرق والاقليم ورصد تحرات ل طيران الناتو من خلال ربط هذه الشبكات .. وهذا ممنوع بشكل مطلق ..
وبنفس الوقت فان اردوغان هو عدو ايران الرئيسي لأنه يزاحمها حيثما تريد ان تتواجد فهو يزاحمها على دورها في غزة وفي حماس .. وهو يزاحمها في سورية وطلب منها الخروج رسميا .. وكل اعلام المعارضة السورية والاسلامية الذي تحركه المخابرات التركية موجه ضد ايران وسورية وروسيا .. واردوغان يزاحم ايران في الخليج وقد وضع جنوده في قطر قريبا من ايران بذريعة حمايتها من السعودية ..
ولكن اميريكا كالعادة تركت له هامشا للاقتراب من ايران والتبادل التجاري واستفادة ايران من البنوك التركية لأنه كان الاقدر على ان يفاوض ايران ويبتزها ويراقبها من خلال الممرات البنكية التركية .. وكان يقدر على ان يوصل رسائل امريكية خاصة للايرانيين بشأن سورية ومفاوضات الاتفاق النووي .. وايران تفهم هذا الدور ولكنها مرغمة لانه يمسك بالممرات البنكية العالمية عبر تركيا التي تخفف من وطأة العقوبات والحصار الغربي عليها ..
لذلك هذا رجل التوازنات والمهمات .. ونهايته متعلقة بانتهاء مهمته .. ولكن بالنسبة لي فان نهاية زمن اردوغان أفضل لنا بكل المقاييس .. حتى وان وصل القوميون الطورانيون الى الحكم .. ولو عاد أتاتور من قبره فان رحيل أردوغان أفضل .. لأن خطورة أردوغان اكبر بكثير من خطر الطورانيين والقوميين ليس لأن القوميين لايملكون مشروعا .. بل لديهم مشروع أقوى بكثير من مشروع أردوغان .. بل ان اردوغان هو حامل مشروعهم.. ولكن قوة المشروع التري القومي هي داخل حدود تركيا فقط .. فهؤلاء موجودون منذ زمن أتاتورك ولكن كانت العلاقة العربية مع تركيا العلمانية فاترة وفيها شعور بالنفور او اللامبالاة .. لأن لاشيء يجمع العرب والشعوب الشرقية بهذه المجموعة التركية العلمانية التي ترفع شعار تركيا والقومية التركية وهذا وحده كفيل بأن يثير أعصاب القوميات الاخرى ومنها العربية التي ستتذكر العنصرية التركية ومشاهد الاعدام بالخازوق والسفربرلك ..
الا ان مجرد وصول الاسلاميين الى السلطة في تركيا كان له أثر في تفعيل المشاعر المتناقضة .. فهو أيقظ المشاعر الدينية والمذهبية لأن تركيا اردوغان قدمت نفسها على انها النموذج الجامع للمسلمين والبديل والنظير لايران الشيعية وخاصة المسلمين السنة الذين كانوا يبحثون عن خميني سني وجمهورية اسلامية سنية تشبه ايران تعيد لهم دورهم في التاريخ الحديث الذي انتهى برحيل الزعامات السنية القوية في مصر الناصرية وصدام حسين في العراق ولأن كل القيادات السنية العربية الباقية خذلت المشروع التحرري او هزمت فيه .. وسارت كل السياسات العربية الممثلة للسنة في مشاريع سلام وتطبيع او مهادنة او لامبالاة كانت محرجة لهذه الجماهير التي وجدت في نموذج تركيا واردوغان مشروع انقاذ لها ولمشروعها ولدورها التاريخي وسمعتها .. ولذلك تبين ان تركيا الاسلامية قادرة جدا على ان تحدث اختراقات كبيرة في تركيا وفي المجتمعات العربية من البوابة الاسلامية في الوقت نفسه .. وستبقى تركيا الاسلامية هي الحصان الرابح دوما في أي مشروع تركي في المنطقة .. ولذلك فان بقاء اردوغان في السلطة او امتداد مدرسته في السلطة سيبقي الحلم الاسلامي الرومانسي بعودة الخلافة العثمانية .. وسيبقى هذا المشروع المناقض للمشروع القومي العربي هو اهم عائق يعمل يدا بيد مع المشروع الاسرائيلي بحكم ان عدو عدوي هو صديقي .. فالعروبة والقومية العربية مناقضتان للمشروع الاسلامي العثماني وللمشروع الديني اليهودي الصهيونية .. واذا كان الاختراق الاسرائيلي للمجتمع العربي مرهونا بغطاء سياسي وعملية تصنيع وارغام من قبل حكومات او نخب مرتزقة فان المشروع التركي المتقنع بالاسلام داخل المجتمعات العربية لن يلقى معارضة بذات القوة بسبب وجود نوع من القبول له في الطبقات الدينية والشرائح الاخوانية ..
ولذلك سواء اعاد اردوغان الارض السورية المحتلة او لم يعدها فانه ضرر في ضرر وخطر في خطر على استقرانا الوطني وهويتنا الوطنية طالما انه سيكون دوما قادرا على ان يلعب الورقة الاسلامية سواء لعبها لمصلحة الناتو ام لمصلحة تركيا .ويجب ان يسقط وأي بديل سيكون افضل مهما كان طورانيا متطرفا .. لأن الطوارنية لاتقدر على جذب المشاعر الاسلامية طالما انها هي المتهمة بأنها حاربت الاسلام منذ زمن أتاتورك .. وقد لايغفر لها انها هزمت الخليفة اردوغان الامل الباقي أردوغان .. وستتحول تلقائيا لمعاقبتها او النفور مع مشروعها ..
لايهمنا من يفاوضنا .. ولايهمنا ان تاب اردوغان او تعلم الدرس او ندم ام انه يناور ويخدع ويستدرج .. المهم انه غير مرحب به ويجب ان ينتهي ويختفي من المستقبل .. هو وحزبه وزمنه ومشروعه .. ونحن نعلم ان تركيا مصدر خطر سواء اسلامية او علمانية لأنها لاتزال تتقلب في ندم خسارة امبراطوريتها .. وكنزها الشرقي .. المتمثل في العالم العربي والجنوب العربي .. وهي لديها شعور عميق ان العرب هم الكنز العثماني المفقود .. والكنز المسروق .. وانه مالها الذي ضاع في غفلة من الزمن .. وان لها الحق الكامل والابدي باسترداده ..
ونحن من جهتنا نؤمن وسنؤمن ان تركيا كانت في الماضي هنا بسبب غفلة من التاريخ .. ولكن نقبل بها في أي مستقبل .. سواء رقصت رقصة الدراويش ام رقصة السامبا أو الفالس .. فهي الذئب في سرير جدة ليلى .. ونحن نرى أنيابها وذيلها تحت كل أغطية السرير الاسلامي العثماني .. ولن نلعب بعد اليوم دور ليلى .. بل دور سادة الشرق .. الشرق الذي بنيناه منذ أن كتبنا فيه الأبجدية الاولى للبشرية .. وبدأنا به أقدم عاصمة بشرية في التاريخ .. وبدأنا من دمشق اول رحلة للمسيحية .. وبنبنا في دمشق أول مدينة اسلامية عربية لأول امبراطورية عربية اسلامية .. كانت في دمشق التي لم نسرقها من أهلها .. وليس في استانبول المستوطنة العثمانية في بلاد الاغريق ..