أبحرت في كتاب سوف أقوم بالتنقل معكم على الشواطئ التي رسوت عليها
وفي نهاية الرحلة أقدم لكم التفاصيل ... خطي عربي.
نظرية كونت في الأسرة
( الأُسرة في نظر كونت هي أساس الحياة الأخلاقية الفرديّة والحياة السياسيّة في نفس الوقت ، ففي داخل الأسرة تنشأ الفضائل الاجتماعيّة ، والمجتمع الإنساني في نظره : عبارة عن أسرة كبيرة العدد ، والحركة مستمرة فيها تعتمد على
تقدّم العلوم والفنون ، ولهذا فإنّ علم الاجتماع يُقرّر حقيقة تاريخية ، وهي أنّه في كلّ مجتمع وصل إلى درجة من التقدّم توجد قوّتان جماعيّتان تتميّز كلّ منهما عن الأُخرى ... إحداهما : هي السلطة الزمنية التي تحكم وتُسيطر ، والأُخرى : هي السلطة الروحية التي توجّه وترشد ( من خلال ديانته الجديدة ديانة الإنسانيّة ) ، وهذا الازدواج هو مظهر من مظاهر الحضارة ، ولهذا يجب أن ندركه إدراكاً تامّا ، وأن نُنظّمه تنظيماً يُحقّق للمجتمع تقدّمه وسعادته ) .
ولا بدّ أن نشير إلى أنّ هناك مدارس اجتماعية متعدّدة ، منها :
1 ـ المدرسة الاجتماعية البيولوجيّة : بزعامة هربرت سبنسر ، وأفكار هذه المدرسة تقوم على الربط بين الظواهر البيولوجية والظواهر الاجتماعيّة .
2 ـ المدرسة الماديّة التاريخية : بزعامة الفيلسوف الألماني كارل ماركس ، وتعتبر الماديّة الاقتصادية بمثابة قطب الرحى في التطوّر السياسي والأخلاقي والاجتماعي ، ومِن ثَمّ ينتهي إلى أنّ العامل الاقتصادي هو العامل الوحيد الذي يشكّل شؤون المجتمع في السياسة والأخلاق والدين ، ومعنى ذلك أنّ كلّ ما يحدث في جوّ المجتمع ، وكلّ ما ينشأ فيه من ظواهر ونُظم إنّما يرجع إلى طبيعة اقتصادية .
3 ـ المدرسة الجغرافيّة : بزعامة برون ومشيليه ، وتقوم على تفسير كلّ ما يحدث في المجتمع بظواهر جغرافيّة وبصورة تعسفيه .
4 ـ المدرسة النفسية : بزعامة ( تارد وغوستاف لوبون ) تلك التي لا تعترف باستقلال علم الاجتماع ، وتقول بأنّ ظواهر علم الاجتماع إنّما تقوم على التقليد والمحاكاة الناجمين عن الإرادة الفرديّة وترتيباً على ذلك تلحق ظواهر الاجتماع بعلم النفس ، وتلك محاولة كان هدفها القضاء على شخصيّة علم
وهناك مدارس أُخرى ، منها : المدرسة الاثنولوجية ، والمدرسة الانثربولوجيا الاجتماعية أو دراسة المجتمعات المُختلفة ، والمدرسة الفرنسيّة لعلم الاجتماع بزعامة دوركايم ومعاوينه .
البناء المُستقبلي وعِلم الاجتماع
كان لطرح فكرة معرفة الطبيعة البشريّة ، واستخلاص القوانين والمبادئ التي تتحكّم في تطور المجتمعات وتقدّمها أثره الإيجابي ، وذلك من خلال معرفة الظواهر الاجتماعية في أي مجتمع كان ، والتأثيرات التي تتركها تلك الظواهر ، بالاضافة إلى المؤثّرات الحضاريّة الخارجيّة ، والانفجار العلمي الواسع الذي بدأ من خلاله طرح الأفكار والنظريّات وبقوة للتاثير على سلوكيّات الناس بإدخال طُرق حضاريّة جديدة نابعة من الحَرب الإعلاميّة والنفسية التي تقودها الدول المتقدّمة ضدّ دول العالم الثالث التي لا سبيل لها للدفاع عن فكرها ومُعتقدها وتراثها أمام الأقمار الصناعيّة والأجهزة الكومبيوتريّة المُعقّدة والانترنيت الدولي والبث الإذاعي والتلفزيوني الذي يدخل كلّ بيت وفي كلّ نقطة من العالم وفي كلّ لحظة ودون حياء أو استئذان ، كل ذلك مؤثّرات تحتاج إلى البحث والدراسة بصورة عامّة ووضع العلاج المناسب لكلّ داء ، فالشبكات والقنوات الفضائيّة التلفزيونيّة التي تحمل السموم في مضامينها ، وتوجّه بثّها إلى البلدان الأُخرى نستطيع أن نصفها بالفاسد المنافق ؛ لأنّ هدفها الأوّل إفساد المجتمع ، وحرف الناس عن معتقداتهم الدينية وقيمهم الأخلاقيّة وبالتالي طمس المعالم الحضاريّة
والتراثية وتدميرها بصورة كاملة ، في حين تُعطي صورة مُغايرة لهدفها الأصلي بأنها رسول الحريّة والتقدّم الحضاري .
وأمام هذا الغزو الثقافي فنحن نحتاج إلى عِلم الاجتماع في هذا الوقت أكثر من أيّ وقت مضى ، ذلك العلم الذي قدّمه (فيلسوف العصر) بفكره الاجتماعي الواسع لا بالنظريات الاجتماعية الأوربيّة وغيرها ، فالذي يستهوينا ويجذب قلوبنا هو تخطيط مستقبلي وفق أُسس علميّة ومنهجيّة واضحة ، وبناء حضاري وتقدّم عمراني واقتصادي وثبات سياسي واجتماعي ، ونموّ حقيقي وواقعي يعطينا الهيكلية الصحيحة لبناء المجتمع المُتماسك الذي يسوده العدل والمساواة ، وهذا يحتاج إلى الدراسة والبحث في جميع جوانب خلايا النسيج الاجتماعي ، وقد أعطى (فيلسوف العصر) صورة واضحة لذلك البناء من خلال تعاطيه كافة المشكلات بصورة علمية وموضوعية ، بحيث وضع لتحليل ودراسة الظواهر الاجتماعية أُسساً مثاليّة تستند إلى دراسة لم يسبقه أحد بها ، مستوحاة من الفكر الإسلامي العظيم ، فبالإضافة إلى معرفة كافّة الجوانب المؤثّرة في الحياة العامّة ، والطرق والأساليب الواجب اتّخاذها والنابعة من خزين عميق وخلفيّة علميّة واسعة لا يسع أحد حملها الإّ (فيلسوف العصر) نراه يعطي لكلّ جانب من جوانب مسيرة المجتمع وحركته تصوّراته المستقبليّة بصورة متوازنة ، والتي ما إن بعدت عن المسيرة حتّى انحرف المجتمع ، وحلّ الضياع الذي يتبعه الفساد الاجتماعي والإداري ، والخلل في المعاملات العامّة الاقتصادية وغيرها ، وبالتالي ينهدم كيان المجتمع ويفلت زمام الأمر من أيدي أهل السلطة وقوامها ، فا(فيلسوف العصر) يصلح في موقع الاصلاح ، ويُنبّه قبل اجتياح الفيضان وخراب المجتمع والبلدان ، ويضع لنا صورة القائد الذي يجب أن يكون في مكانه الحقيقي ، وكأن تناسق وترادف الكلمات في بياناته ورسائله خطوات مُبرمجة وواضحة المعالم يسير عليها
المهتدي إلى جادة السلام ، والتي بدورها تُعطي الملاكات الكاملة لازدهار حياة الأُمّة وإبعاد كلّ المخاطر عنها وعن مسيرة تطوّر وضع المُجتمع .
كما نعلم أنّ هناك اتصالاً وثيقاً بين العلوم الاجتماعية بأشكالها ، سواء كان في حقل التاريخ والجغرافية ، أو علم النفس وعلم الاجتماع والتربية ، أو العلوم السياسيّة والاقتصادية ، فهي العلوم التي تدرس الجوانب المتعدّدة لموضوع واحد ـ المجتمع والحياة الاجتماعية ـ فمن الطبيعي أن تتقاطع وتتماسك ويتّصل بعضها ببعض ليُكمله .
وأكثر ما تكون هذه الظاهرة بروزاً في العقود المتأخرة من قرننا الحالي ، حيث تطوّرت الحياة ، واحتاجت المجتمعات والدول إلى دراسات علمية مُعمّقة لغرض استخلاص النتائج الإيجابية لبلورة صيغة تكفّل بناء مجتمع لا نستطيع أن نقول أنّه مثالي ، بل تضمن فيه الحقوق المشروعة ، ويمنع الظلم ، وتسود العدالة والسعادة والاستقرار والرفاهية ، وبالتالي فالحاجة أصبحت ماسّة إلى صياغة سياسات اجتماعية جديدة ، ومثال واحد يكفي في توضيح مستوى الترابط الوثيق بين هذه العلوم المختلفة ، ومثالنا الذي نختاره هو مشروع تخطيط سياسة تعليمية في مجتمع ما ، فمشروع كهذا لا بد أن يبدأ بالدراسات التالية :
1 ـ دراسة ديموغرافية لذلك المجتمع .
2 ـ دراسة تاريخية للمراحل الحضاريّة التي مرّ بها هذا المجتمع وكياناته .
3 ـ الاطلاع على المراحل التي كان فيها التقدم الاجتماعي والحضاري واضح المعالم ، والآثار السياسية المنعكسة على ذلك .
4 ـ دراسة سايكولوجية أفراد كلّ منطقة من مناطق الكيان الاجتماعي ، ومعرفة الترابط والتنافر الموجود فيه .
5 ـ العقيدة الدينية التي يؤمن بها المجتمع وقوّة الإيمان لدى أفراده والتلازم
الموجود في سلوكيّة المجتمع من جرّاء ذلك ومدى الإيمان بالقيم الأخلاقيّة والروحيّة والالتزام بها .
6 ـ دراسة العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية والثقافية العامّة التي يحملها ذلك المجتمع ، واستخلاص ما كان فيها نفع ودفع وما كان منها يشلّ ويهدم .
7 ـ دراسة جغرافيّة من كافّة النواحي ( المناخ ، والطقس ، واختلاف درجات الحرارة ، والأمطار ) ، وأثر ذلك على حركة الأفراد وقوّة الإبداع لديهم ، وعلى أمزجتهم .
8 ـ البناء الاقتصادي للمجتمع ، وحجم الفواصل الطبقيّة بين الناس ، ومدى أهميّة وتأثير ذلك في حركة وتطور المُجتمع ونموّه .
9 ـ الأسرة التي تعتبر النواة الأولى في الكيان الاجتماعي ومعرفة قوّة ترابط النسيج الاجتماعي ومدى تأثير ذلك الترابط في المسيرة العامّة .
10 ـ الاطلاع على البيانات والاحصائيّات عن المتعلّمين وغير المُتعلّمين ، وأثر ذلك في الدفع المعنوي للإقبال على التعليم العام .
هذه نقاط عن الجوانب المُهمّة والأساسية التي يجب دراستها لغرض وضع سياسة تعليمية خاصة لأيّ مجتمع ، وهذا يدخل ضمن علم الاجتماع التعليمي ، وبالتالي نرجو من ذلك الحصول على نتائج إيجابية لبناء تلك السياسة حتى نحصل على النجاحات المرجوّة والمطلوبة .
وقد وضّح (فيلسوف العصر) ذلك لنا في صور مُختلفة ، وأعطانا نتائج مُثمرة جاهزة وُمتكاملة في مُختلف جوانب الحياة العامّة ، لذلك تبرز أهمية دراسة عِلم الاجتماع .
ولـ(فيلسوف العصر) ـ كما قلنا ـ أفكار رسمها ، وعلوم بثّها في مُختلف المجالات سبقت عقول أُولئك الذين ادّعوا الريادة في العلوم الاجتماعية أو غيرها ، وكما هو معلوم
من جُملة التعاريف والمعاني الموجودة لعلم التاريخ ، أنّه ( كلّ تطوّر حاصل في المجتمع ) ؛ فإذا ما علمنا أنّ (فيلسوف العصر) هو أول مَن وضع أساس الارتباط الوثيق بين حركة التاريخ وعلم الاجتماع كدعامة أساسيّة للتخطيط المستقبلي وبناء الدولة المتكاملة والمجتمع المُترّاص والوصول بالمجتمع إلى أعلى مرحلة من مراحل النضج الفكري ووضوح الرؤى ، وهذه القضايا لا تنفذ إلى المجتمع ، وتأخذ قرارها في فكر المجتمع الإنساني خلال سنة واحدة أو سنتين أو أكثر إنّما تحتاج إلى عملية بناء طويلة .
إنّنا نؤكّد أنّ (فيلسوف العصر) رجل الاجتماع الأوّل ، ورجل العدالة الاجتماعية والنظام الاجتماعي الحديث بما حوته أفكاره الدقيقة والمُشخّصة لكلّ السلبيّات والإيجابيات .
الجزء الأول من الرحلة ..... يتبع
خطي عربي.