تعزيزاً لمكانتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وأخذاً بأهمية ودور وتأثير المواقع الجيو ـ سياسية والاستراتيجية في رسم سياسات الدول، أطلق الزعيم الصيني شي جين بينغ عام 2013، مبادرة تحمل شعار «حزام واحد، طريق واحد».
في 14 أيار 2017، عقدت القمة الأولى في بكين، لإطلاق مبادرة مشروع «الحزام والطريق»، وهو أضخم مشروع اقتصادي وتجاري، يشمل إنشاء السكك الحديدية، والطرق السريعة، والمرافئ، والطاقة، حيث تتجاوز قيمة الانفاق على المشروع 1.2 ترليون دولار،
يغطي المشروع مناطق الصين وغرب ووسط آسيا وأوروبا، وصولاً إلى أفريقيا.
هذه المبادرة تهدف الى إنفاق الصين مئات المليارات من الدولارات، لاستثمارها في البنى التحتية، على امتداد طريق الحرير، داخل الصين، والذي يربطها بوسط آسيا والقارة الأوروبية. كما تهدف هذه المبادرة الاقتصادية التنموية الى التعاون والتواصل بين الصين ودول أوراسيا، والتي تتمحور حول مشروعين أساسيين كبيرين: طريق الحرير الاقتصادي البري، وطريق الحرير الاقتصادي البحري. طريق الحرير البري له ستّ ممرات داخلية تربط الصين بدول آسيوية، أما طريق الحرير البحري، فيمتدّ من سواحل الصين الجنوبية مروراً بسنغافورة والهند، وصولاً الى البحر الابيض المتوسط.
مشروع طريق الحرير، يترتب عنه إنشاء شبكات من الطرق والمرافق، والموانئ التي تربط الصين بدول عديدة في آسيا وأوروبا، لا سيما أفريقيا التي توليها الصين أهمية اقتصادية وتجارية منذ سنوات.
إن تنفيذ مشروع طريق الحرير بالنسبة للصين، هو مسألة وقت، ليس ببعيد. ولو انّ الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، قلق ولن يرتاح لهكذا مشروع، حيث ظهرت مواقف رسمية وإعلامية في دول غربية واسيوية تدور في فلك واشنطن، تتشدّد تجاه الصين وتندّد بالمشروع، وتشكك فيه.
مع مجيء الرئيس جو بايدن الى البيت الأبيض، حركت واشنطن حلفاءها للتصدي للمشروع الصيني. فما كان من رئيس وزراء أستراليا سكوت موريسون Scott Morrison إلا أن أعلن انّ طريق الحرير الجديد، يتعارض مع مصالح أستراليا الوطنية.
نيوزيلاندا من جهتها تحدثت بلهجة حادة عندما أعلنت رئيسة وزرائها جاسيندا أرديرن Jacinda Ardern، انّ الخلافات مع بكين في قضايا مهمة يصعب التوافق حولها. أما مجلس العلاقات الخارجية الأميركية، فقظ أصدر تقريراً أعرب فيه عن مخاوفه من تغيّر الولايات المتحدة في مواجهة النفوذ الجيوسياسي المتزايد للصين. ووفقاً لتقييم المجلس فـ «إنّ الولايات المتحدة، رغم اهتمامها بتعزيز البنى التحتية، والتجارة، والاتصالات في كافة أنحاء آسيا لمواجهة طريق الحرير الصيني، إلا أنها لم تؤمّن الاحتياجات المتأصلة في المنطقة، إذ كانت استثماراتها محدودة وهي آخذة في الانخفاض».
مما لا شكّ فيه، أن الصين جعلت من الاستثمارات في البنى التحتية أولوية مهمة لها. وانّ مبادرة الحزام والطريق، ستتيح لها مجال التقدّم على الولايات المتحدة في أكثر من مكان في العالم وبالذات في أفريقيا وآسيا.
وزير الخزانة الأميركي الأسبق جاك لو، رأى أنّ مبادرة الحزام والطريق «تعزز قدرة الصين على إبراز قوتها عبر المنطقة والعالم… وانّ صانعي السياسات يحتاجون الى تقديم بدائل لمبادرة الحزام والطريق حيث ما أمكن، وتثقيف البلدان الأخرى بما ينطوي عليه ذلك، والردع عند الضرورة!»
نظراً لأهمية الموضوع، ومن أجل مواجهة المشروع الصيني، سبق للرئيس الأميركي جو بايدن، أن دعا رئيس وزراء بريطانيا الأسبق بوريس جونسون، إلى إشراك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بغية إنشاء مشروعات بنيوية أساسية من طرق وموانئ وغيرها، في البلدان التي تحتاج الى مساعدة، وعدم ترك الصين أن تسير وحدها في مبادرتها إنشاء طريق الحرير، إذ انّ تركها وحدها، يعزز من نفوذها في العالم.
واشنطن لا تنفكّ عن ممارسة ضغوطها الكبيرة، في كلّ الاتجاهات لوقف تقدّم المشروع الصيني، في حين اعتبر الغرب مشروع طريق الحرير على «أنه مشروع استعماري فاسد! فيما ترى بكين على أنه أكبر مشروع تنموي في العالم، والذي يضمّ اليوم في صفوفه 139 دولة، ويغطي 60% من سكان العالم، ويحقق المكاسب لكلّ الأطراف، ويعزز من فرص التنمية والتبادلات التجارية بين الدول. إذ تمثل التجارة على طول طريق الحرير 40% من إجمالي التجارة العالمية، ويتمّ الجزء الأكبر منه عن طريق البحر.
طريق الحرير سيولّد استقطاباً جديداً بين كتلتين كبيرتين: الأولى بقيادة الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي، واليابان، وتايوان، وأستراليا، وكندا وغيرها من البلدان الحليفة لها، والثانية بقيادة الصين وروسيا والهند، حيث انضمّ العديد من الدول في أميركا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط والعالم العربي إليها، إذ أقامت الصين علاقات الشراكة الاستراتيجية القائمة على التعاون الشامل والتنمية المشتركة، مع 12 دولة عربية على صعيد ثنائي. مع الجزائر ومصر وقطر عام 2014، مع العراق والأردن والسودان عام 2015، مع المغرب عام 2016، مع جيبوتي عام 2017، مع الكويت وعمان عام 2018، ليرتفع عدد الدول العربية المشاركة في الوقت الحاضر الى عشرين دولة، ومعها الجامعة العربية.
تمدّد الصين وتوسّع مروحة نفوذها السياسي، والتجاري، والاقتصادي في العالم، قد يفسح المجال مستقبلاً أمام حرب اقتصادية ساخنة بين كتلتها، وكتلة الولايات المتحدة، حيث يريد كلّ طرف ان يعزز حضوره ونفوذه في العالم.
زيارة شي جين بينغ التاريخية للمملكة العربية السعودية، ومشاركته في القمة الصينية ـ السعودية، والقمة الصينية ـ الخليجية، والقمة الصينية ـ العربية، تشكل منعطفاً سياسياً واستراتيجياً كبيراً، لجهة علاقات الصين مع العالم العربي، لا سيما مع المملكة العربية السعودية، لما لها من أهمية ومكانة إقليمية وسياسية، واستراتيجية، وطاقوية، ومالية رفيعة، يجعل منها حجر الأساس في العلاقات الصينية ـ العربية، وهذا ما يقلق واشنطن بشكل خطير، حيث كانت ترى دائماً في منطقة الخليج مركز نفوذ تابعاً لها، لا يجوز لأيّ دولة في العالم ان تخرقها او تنافسها عليها.
المملكة العربية السعودية هي اليوم بوابة الصين الى العالم العربي، وهي ترسم في الوقت الحاضر معادلات جديدة على الخارطة السياسية العربية، والاقليمية، والدولية. وهي في خطواتها الجريئة تجاه الصين، تقول لواشنطن، انّ للممكة الحرية والحقّ في نسج علاقاتها بإرادتها مع دول العالم، بما يخدم مصالحها الوطنية، والاقتصادية والتجارية، وإنْ أغضبت من يريد أن يغضب.
العلاقات العربية ـ الصينية تتمدّد، وتتوسّع، وتتعمّق أكثر فأكثر، مما يفتح آفاقاً واسعة أمام الشعبين العربي والصيني، لتسطير تاريخ جديد في العلاقات السياسية الدولية. ولنا في الشراكة الصينية العربية كلام لاحق.
يبقى أن نقول: أمام القوة الحاكمة ـ الولايات المتحدة، والقوة الصاعدة ـ الصين، تتقدّم بكين، وتتراجع واشنطن.
لأنه في سياق هذا التطور التاريخي، يصبح تقدّم الصين واقعاً حتمياً لا مفرّ منه!