عرف العرب البحر وتعاملوا معه منذ فجر تاريخهم، فكانت مراكبهم تجوب مياه البحر الأحمر والخليج العربي وبحر العرب والمحيط الهندي شرقاً وغرباً بغرض التجارة وتبادل السلع. فلما كانت الفتوح العربية الإسلامية ووصل المد العربي الإسلامي إلى البحر المتوسط (القرن الأول الهجري/السابع الميلادي) نهج العرب في البدء سياسة بحرية دفاعية في هذا البحر بوضع حاميات قوية في المدن الساحلية المهمة من بلاد الشام ومصر، من أنطاكية شمالاً حتى برقة غربا، واهتموا بمَرَمَّة حصونها وإقامة المسالح والحرس على مناظرها واتخاذ المواقيد لها تحسباً من غارات الروم. ولكن إثر إغارة الروم على سواحل الشام ومصر سنة 25هـ، وكانت من أعنف الغارات، لم تعد السياسة البحرية الدفاعية كفيلة بالمحافظة على سلامة تلك السواحل، ووجد العرب أنفسهم مضطرين إلى الرد على غارات الروم بمهاجمة سواحلهم وقواعدهم البحرية ومتابعة الفتح بحراً، وكانت قبرص الهدف الأول، وقد توجت هذه الغزوة بالنصر وأذعن أهل قبرص بالطاعة للمسلمين وصولحوا على جزية وكان ذلك سنة 28هـ.
وفي سنة 34هـ/654م اصطدم أسطول عربي بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي سرح أمير مصر بالأسطول البيزنطي الضخم في موقعة بحرية فاصلة عند ذات الصواري بالقرب من ساحل كيليكية (جنوبي تركية) عُقد لواء النصر فيها للعرب. وكانت الاسكندرية القاعدة البحرية الأساسية التي انطلق منها الأسطول العربي آنذاك إضافة إلى موانئ الشام (عكا وصور وطرابلس) التي أبحر منها جزء من الأسطول. فلما كانت سنة 49هـ/669م شن الروم غارات عنيفة على سواحل الشام، فعمد معاوية إلى تعزيز دور صناعة السفن بالشام إلى جانب دور الصناعة بمصر، وجلب الصناع والنجارين إلى عكا من جند الأردن، وبقيت دار الصناعة الرئيسية في عكا حتى خلافة هشام بن عبد الملك الذي نقلها إلى صور، وظل التعاون والتنسيق بين مصر والشام قائماً طوال العهد الأموي، سواء فيما يتصل باستخدام الملاحين أو في استيراد الأخشاب التي تصلح لبناء السفن ونقلها.
ولما أراد حسان بن النعمان الغسَّاني والي إفريقية (73- 86هـ) إنشاء قاعدة بحرية في تونس بعد القضاء على الكاهنة وإخراج الروم من قرطاجنة، طلب من الخليفة عبد الملك بن مروان (65- 86هـ) أن يرسل إليه من يعمر دار الصناعة بتونس، ويعلم المسلمين صناعة السفن، فكتب الخليفة عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز والي مصر، أن يوجه إلى تونس ألفي قبطي برفقة أسرهم وأن يحملهم من مصر ويحسن عونهم. كذلك عمد موسى بن نصير والي إفريقية بعد حسَّان إلى توسيع دار الصناعة في تونس وأمر ببناء مئة مركب. ولقد كان من نتائج اهتمام الولاة الأمويين بدار الصناعة في تونس أن تمكن المسلمون فيما بعد من غزو صقلية في أيام زيادة الله الأول بن إبراهيم الأغلب سنة 212هـ / 827م.
ولإعطاء فكرة عن مدى التقدم الذي أحرزه الأمويون في مجال البحرية الحربية يكفي الإلماح إلى أن الأسطول العربي الذي توجه في خلافة سليمان بن عبد الملك (96- 99هـ) لدعم القوات البرية في إحكام الحصار على القسطنطينية براً وبحراً، كان يتألف من 1800 سفينة منها سفن مقاتلة وأخرى لنقل المؤن أصغر حجماً، وكان حصار المسلمين للقسطنطينية حصاراً قاسياً بسبب الثلوج في تراقية مما عرقل عملية الحصار، ومع حلول الربيع توالى وصول النجدات البرية والبحرية لدعم القوات القائمة على الحصار، فوصل أسطول من مصر مؤلف من 400 سفينة، وأسطول آخر من إفريقية (تونس) مؤلف من 360 سفينة محملة بالأسلحة والمؤن، إلا أن كثيراً من هذه السفن، كما يقول المؤرخ ثيوفانس Theophanes، دُمرت بالنار الإغريقية التي استخدمها البيزنطيون.
أما في الجناح الشرقي من الدولة العربية، فمع وفرة النشاط التجاري البحري في الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي فإن كتب التراث لا تكاد تذكر شيئاً عن وجود أسطول حربي في تلك المنطقة خلا إشارة أوردها البلاذري جاء فيها أن الحجاج بن يوسف الثقفي حين وجه محمد بن القاسم الثقفي لفتح السند سنة 89هـ وقَدِم الدَّيبُل، وافته سفن كان حمل فيها الرجال والسلاح والأداة.
أما ما يتصل بأنواع السفن الحربية وأشكالها ومعداتها في العصر الأموي فإن المصادر لا تقدم معلومات وافية عنها، وأكبر الظن أنها لم تكن تختلف كثيراً عن السفن المعروفة لدى الرومان والبيزنطيين، ويعتقد أن الأسطول العربي في معركة ذات الصواري كان يتكون في معظمه من الدرامين (جمع درمونة معرب Dromon في اليونانية)، وهي سفن حربية سريعة خفيفة بصفين من المجاديف كانت تعد عصب الأسطول البيزنطي، يضاف إليها أنواع أخرى من السفن الشراعية التي كانت معروفة في ذلك الحين، كالبوارج والزبازب (ضرب من السفن الكبيرة بشراعين أو أكثر) والطرائد (ضرب من سفن السطح معدة لنقل الخيول والحيوانات). وفي العصر العباسي ازدادت المراكب الحربية تنوعاً في أحجامها وأغراضها، كما تدل على ذلك الأسماء المختلفة التي أطلقت عليها مثل الحراقات والشواني والطرّادات والعشاريات والشلنديَات والمسطحات.
ويمكن القول إن البحرية الحربية العربية لم تصبح قوة متكاملة التنظيم إلا في عهد المتوكل، حين أغار أسطول الروم على دمياط سنة 238هـ/852م، إذ يذكر المقريزي «أنه وقع الاهتمام منذ ذلك الوقت بأمر الأسطول، وأُنشئت الشواني برسم الأسطول، وجعلت الأرزاق لغزاة البحر كما هي لغزاة البر وانتدب الأمراء له الرماة، واجتهد الناس بمصر في تعليم أولادهم الرماية وجميع أنواع المحاربة وانتخب له القوّاد العارفون بمحاربة العدو».
وقد استطاع العباسيون في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) قلب الأوضاع في البحر المتوسط، ففرضوا إشرافهم على نصفه الشرقي بأكمله، وسيطروا على جزره التي كانت للبيزنطيين فيها قواعد تحكُّم ومراقبة، وحقق العرب المسلمون في الجزء الغربي منه سيادتهم الكاملة بعد أن استولى مهاجرو الربض الأندلسيون الذين طردوا من الإسكندرية على جزيرة كريت، وأحكم الأغالبة سيطرتهم على صقلية في النصف الثاني من القرن الثالث للهجرة، واستولوا على القواعد البيزنطية في برنديزي وترنتو وباري في القسم الجنوبي من شبه الجزيرة الإيطالية، وبعد استيلاء المسلمين على مالطة، التي كانت من أهم القواعد البيزنطية، غدت سيطرة العرب على المتوسط مطلقة انطلاقاً من المغرب العربي والأندلس ومن مصر الطولونية في الشرق في عهد أحمد بن طولون (254- 270هـ / 868-884م) وخلفائه، واستمر الاهتمام بالأسطول إلى عهد محمد بن طغج الإخشيدي (323- 334هـ). وفي سنة 350هـ استولى البيزنطيون على جزيرة كريت من جديد، ووقع عبء دعم البحرية الإسلامية هذه المرة على عاتق الفاطميين، الذين أولوها اهتماماً كبيراً وبرهنت أساطيلهم البحرية على تفوقها في الحوض الغربي من البحر المتوسط حين هاجمت سردينية وكورسيكة، وجزر البليار، وغزت الساحل الجنوبي من فرنسة. وفي سنة 358هـ شارك أسطول فاطمي كبير القوات البرية الفاطمية في السيطرة على مصر.
ازدادت عناية الفاطميين بالأسطول في مصر منذ أن دخلها المعز لدين الله، الذي أمر بإنشاء 600 مركب في دار الصناعة في المَقْس، واقتدى به بنوه، فواصلوا إنشاء المراكب بالإسكندرية ودمياط وكان أسطولهم يتألف في معظمه من الشواني الحربية والشلنديات والمسطحات والطرائد والحراقات.
في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر ميلادي)، بدأت أحوال البحرية الفاطمية تتدهور. ويعزو كثير من المؤرخين انتصارات الصليبيين في بلاد الشام إلى تدهور القوى البحرية الفاطمية التي عجزت عن توفير الحماية الكافية لمعظم المدن الساحلية الشامية، ماعدا عسقلان التي صمدت حتى سنة 548هـ/1153م. فلما استولى الصليبيون عليها أصبح الساحل المصري هدفاً لغزوات أساطيل النورمان والبيزنطيين والإيطاليين.
ولما زالت الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي، وجه صلاح الدين اهتمامه للأسطول وأفرد له ديواناً عرف بديوان الأسطول. وفي سنة 578هـ نجح الأسطول الأيوبي في رد هجوم جريء شنه الفرنجة في البحر الأحمر، إلا أنه لم يستطع منع سفن البنادقة والجنوية من جلب أعداد كبيرة من المحاربين المتحمسين لاسترداد بيت المقدس من المسلمين، وإذا كانت الحملة الصليبية الثالثة قد أخفقت في استرداد بيت المقدس فإنها وجهت ضربة موجعة إلى البحرية العربية لدى محاولتها نجدة حامية عكا، التي حاصرتها قوات الفرنجة من البر والبحر (585- 587هـ/1189- 1191م).
لم يعن خلفاء السلطان صلاح الدين بالأسطول بعد وفاته سنة 589هـ، ولم يعد أحد يفكَّر في أمره إلا عند الحاجة، فإذا دعت الضرورة إلى تجهيزه طُلب له الرجال وقُبض عليهم من الطرقات وقيدوا في السلاسل نهاراً وسجنوا في الليل كي لا يهربوا، ولا يصرف لهم إلا شيء قليل من الخبز ونحوه، فصارت خدمة الأسطول عاراً يسب به الرجال، وإذا قيل لأحدهم يا «أسطولي» غضب غضباً شديداً بعدما كان خُدَّام الأسطول يُقال لهم «المجاهدون في سبيل الله».
البحرية في عهد المرابطين والموحدين
كان للمرابطين (448- 541هـ/1056- 1146م) في عهد يوسف بن تاشفين (453- 500هـ) أسطول كبير يضم عدداً من السفن المعدة لنقل الجند بين العدوتين من المغرب إلى الأندلس وبالعكس، وكان عدد هذه السفن كبيراً قياساً إلى عدد السفن الحربية، وقد ارتقى هذا الأسطول في عهد علي بن يوسف (500- 537هـ) وأظهرت وحداته نشاطاً في الحوض الغربي من البحر المتوسط، وحقق انتصارات على أساطيل الفرنجة في فتح بلنسية وجزر البليار.
ولما انتقل الحكم إلى الموحدين (524- 668هـ/1130- 1269م) ازدادت قوتهم البحرية وانتشرت دور الصناعة على طول مراسي المملكة الموحدية، في سواحل العدوة من طنجة وسبتة إلى المهدية، وفي الأندلس. وقد أنتجت دور صناعة السفن في عام 557هـ/ 1161م أسطولاً مؤلفاً من 400 قطعة، منها في سلا والمعمورة 120 قطعة، وفي مراسي طنجة وسبتة وبادس ومراسي الريف 100 قطعة، وفي مراسي إفريقية (تونس) ووهران 100 قطعة، وفي مراسي الأندلس 80 قطعة، ونقل مركز قيادة الأسطول من الأندلس إلى المغرب لتصبح سبتة منذ عهد الخليفة عبد المؤمن مركزاً دائماً للأسطول الموحدي.
ومثلما اهتم عبد المؤمن بالمصانع التي تنتج السفن الحربية وما يلزمها من آلات ومعدات. اهتم أيضاً بإعداد قادة الجيش والأسطول وتهيئتهم للحرب، فأنشأ في مراكش مدرسة يتخرج فيها رجال السياسة والقادة. واستطاع الخليفة عبد المؤمن أن يجعل من المغرب الإسلامي قوة بحرية يحسب حسابها وتستطيع مواجهة الأعداء سواء في شمالي إفريقية أو الأندلس. وقد تابع الأسطول الموحدي ازدهاره وتفوقه في زمن أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن (558-580هـ) وابنه يعقوب المنصور (580- 595هـ)، وتمتع هذا الأسطول في عهد الخليفة المنصور بتفوق وشهرة حربية دفعت صلاح الدين سنة 586هـ / 1190م إلى إرسال سفارة إلى المنصور يطلب إمداده بقطع من أسطوله لمنازلة عكا وصور وطرابلس الشام لتحريرها من أيدي الصليبيين، ولتحول سفنه دون إمداد الصليبيين من أوربة. و مع أن يعقوب المنصور استقبل السفارة استقبالاً لائقاً، فإنه لم يستجب لمطالب صلاح الدين، لأنه كان في حاجة ماسة لأسطوله لمحاربة أعدائه من فرنجة الأندلس الذين نشطوا في البحر ومن الصليبيين الذين يساندونهم، فقد استغل ألفونسو ملك قشتالة حلول سفن بموانئه تحمل فلمنكيين وألماناً متوجهين إلى فلسطين نجدة للفرنجة فيها إثر تحرير القدس على يد صلاح الدين، فاستعان بهم لاحتلال غربي الأندلس، واضطر يعقوب المنصور إلى توجيه جهوده إلى الأندلس، وقام بعدة عمليات فيها تُوِّجت بالانتصار الذي حققه في موقعة الأرك الفاصلة على ألفونسو وحلفائه من الإسبان في 9 شعبان سنة 591هـ/ 18 تموز سنة 1195م.
بعد موقعة العقاب التي انتهت بهزيمة الموحدين أمام الفرنجة عام 609هـ/ 1212م لم يعد للأسطول الموحدي شأن يذكر، وبوفاة الناصر لدين الله (595- 610هـ) حدث نزاع على العرش كان من نتائجه أن تقلصت أراضي الدولة الموحدية، فقلت دور الصناعة، وخرجت سبتة قاعدة الأسطول الموحدي من أيدي خلفاء مراكش سنة 627هـ، ولحقت بها بجاية التي ضمها الحفصيون سنة 629هـ، ويبدو أن الدولة الموحدية في عهد السعيد (640--646هـ) فقدت أسطولها نهائياً، حتى إن السعيد طلب من ملك صقلية سنة 645هـ/ 1247م أن يمده بالأساطيل ليسترد إفريقية من الحفصيين، وفي سنة 658هـ دخل القشتاليون سلا، وخرَّبوها ولم يخرجهم منها إلا المرينيون بعد قتال بري.
البحرية المملوكية
حين وصل المماليك إلى السلطة في مصر والشام كان التفوق البحري في المتوسط قد تحول إلى أوربة المسيحية، واستمر هذا التفوق طوال العهد المملوكي، ولم تستطع القوة البحرية المملوكية أن تثبت وجودها في ظل هذه الأوضاع لأنه لم يكن للمماليك أسطول دائم، وكانوا لا يعمدون إلى بناء أساطيلهم إلا للانتقام والثأر بعد أن يغزو الفرنج سواحلهم في هجوم مدمر، فكان من المستحيل في مثل هذه الأحوال وجود مستخدمين أكفياء خبيرين بأمور البحر، فتضاءلت القوة البحرية المملوكية وضعفت بمرور الزمن، وزاد في ضعفها إهمال المماليك شأن الأسلحة النارية في الحروب البحرية وقلة عنايتهم في مجاراة التطور الذي حققه الأوربيون في صناعة السفن، فازداد ضغط الفرنجة على الشواطئ الإسلامية في المتوسط، وظهر في المحيط الهندي نوع جديد من السفن البرتغالية الضخمة العابرة للمحيطات، المتفوقة بمدفعيتها، فلم تصمد لها السفن الحربية المملوكية. وقد مهد ذلك الطريق لسيطرة الأوربيين على الطرق البحرية المؤدية إلى الهند فالشرق الأقصى في القرون التالية.