لم يكن كلام مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل مجرد زلة لسان، بل كلام نابع عن بُعدٍ أيديولوجي عقائدي قيمي لدى النخبة الغربية، لتأتي أحداث عالمية، أو إقليمية، فتكشف المستور والمخبأ في عقول وقلوب هؤلاء، وكلام بوريل عن أوروبا الحديقة، وبقية العالم الذي صنفه بالأدغال، هو شيء بسيط مما يحمله هؤلاء ضد الشعوب والدول التي تناضل من أجل استقلالها الوطني وكرامتها، ومصطلح الأدغال يقصد به كل الأمم والشعوب التي تقف ضد مشروعات الهيمنة الغربية، وعقلية المستعمر التي لم تفارق هؤلاء في نظرتهم للعالم الآخر، ويمكننا أخذ عينات لأفكار الحديقة والأدغال مع بدء الحرب الأوكرانية، خذوا هذه العينات مثلاً:
-مراسل شبكة «CBS» شارلي داجاتا اعتبر أن الهجوم على أوكرانيا لا يمكن مقارنته بالحرب في العراق وأفغانستان لأن الأولى أكثر تحضراً، أي إنها أوروبية نسبياً.
– مراسلة «NBC» الأميركية كيلي كوبيلا قالت بصراحة «هؤلاء ليسوا لاجئين من سورية، هؤلاء لاجئون من أوكرانيا المجاورة».
– مراسل «BBC» قال إن الأوكرانيين «أناس أوروبيون بعيون زرقاء، وشعر أشقر يقتلون»، وهؤلاء أناس حضاريون من الطبقة الوسطى.
– هذه العينات من مراسلي كبريات وسائل الإعلام الغربية تعكس بعضاً من مفاهيم وأفكار دول الحدائق ومثلها الكثير الكثير التي يمكن الإشارة لها، وخذوا مثالاً آخر حيّاً لا نزال ندفع ثمنه حصاراً وعقاباً وتدميراً، وهو الحرب على سورية:
– دول الحدائق تؤسس غرف عمليات استخبارية، وتجلب إرهابيين من 101 دولة، من أجل نشر ديمقراطية الحدائق في مناطق الأدغال.
– دول الحدائق تصرف مئات المليارات من الدولارات عبر حلفائها لتدمير البنى التحتية والمدارس والجامعات والبنى الثقافية والاقتصادية والعمرانية، ثم تتهم الآخرين بأنهم يشكلون خطراً على أمن دول الحدائق.
– دول الحدائق تحاصر لقمة عيش مواطني دولة مستقلة ذات سيادة، وتسرق نفطها وقمحها، وتحاول تقسيمها ثم تعتبر أنها تُشكل خطراً على الأمن القومي لها.
– دول الحدائق ترسل مواد كيميائية لجماعات إرهابية، وتطلب منهم استخدامها لاتهام الآخرين بها، وإلصاق تهمة مزورة لا أساس لها من الصحة.
– دول الحدائق تحتل أراضي دول أخرى، وتدمر بنيتها العمرانية، وتنهب ثرواتها، وتشرد شعوبها، ثم تتهمها بأنها تُشكل خطراً عليها.
سجل دول الحدائق مملوء بالعار، تجاه كل شعوب الأرض، وهذا السجل يشير إلى أن دول الأدغال هم أولئك الذين يقولون ما لا يفعلون، ويصنفون البشر والأمم وفقاً لنظرتهم العنصرية المتعالية والوقحة، والإشكالية تكمن في أن كثيرين استكانوا لهذا التصنيف، ولم يقولوا «لا» كبيرة في وجه هؤلاء منذ أن اعتبروا أن أمنهم القومي هو في كل مكان من الكرة الأرضية، وأن من يقف في وجه مخططاتهم هو مستبد وطاغية، وينتمي لعالم الأدغال، لذلك فإن هؤلاء ينظرون للصينيين والروس والهنود والبرازيليين والأفارقة والآسيويين، على أنهم أمم الأدغال، وليسوا أمم الحدائق، فهل هناك عنصرية، وتفاهة أكثر من ذلك؟!
دول الحدائق هذه لا تفتح فمها عندما يتعلق الأمر بقضية فلسطين، وطريقة تعاطي المحتل الإسرائيلي مع الشعب الفلسطيني، وأسراه الذين يعدون بالآلاف، وتمارس ضدهم سياسات قبائل الأدغال الصهيونية من قتل وتعذيب وتدمير، بهدف كسر مقاومتهم ضد الاحتلال، ومع ذلك يرون المقاومة في المنطقة خطراً على حدائقهم المزعومة التي تسير نحو التدمير الذاتي حكماً.
الآن دعونا نذكر بعض فضائل دول الحدائق:
– أليسوا هم أول من ألقى قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناغازاكي، ليقتلوا مئات الآلاف من اليابانيين؟
– أليسوا هم أول من استخدم السلاح الكيميائي في حربهم في فيتنام؟
– أليسوا هم من غزوا العراق تحت حجج كاذبة، واعترفوا لاحقاً أنهم خدعوا العالم بكذبة وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول الشهيرة؟
– أليسوا هم من غزوا ليبيا، وكذبوا في ادعاءاتهم تجاه ما يحدث، وقتلوا الزعيم الليبي بطريقة وحشية تدل على سلوكيات من يعيشون في الأدغال، وليس في الحدائق؟
– أليسوا هم من يقودون منذ 11 عاماً حرباً إجرامية على سورية، وتسببوا في مقتل الآلاف، وتهجير الملايين؟
– أليسوا هم من يزورون في وسائل إعلامهم، ويغسلون وعي الشعوب، والأمم لتبرير هيمنتهم وسيطرتهم، وعقلية الأدغال على العالم؟
باختصار شديد: يبدو أن التغيير الذي يشهده العالم والتحولات المتسارعة تدفع بعض النُخب الغربية لشيطنة الآخر، أي آخر يشكل مصدر منافسة لهيمنتهم، وفوقيتهم دون احترام لخصوصيات الدول، والشعوب وحضاراتهم وثقافتهم وهوياتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وهو أمر أصبح مكشوفاً وعارياً أمام الرأي العام العالمي، ويحتاج للمزيد من تصليب المواجهة، والقول للغرب بوضوح شديد: العالم ليس حدائق وأدغالاً، وإنما حضارات تتكامل وتتلاقح، ويستفيد بعضها من بعضٍ ثقافة وأدباً، وخصوصيات لابد من احترامها، وليس اقتحامها لفرض أجندات مرفوضة الآن وغداً.
سلوكيات بعض النُخب الغربية، وتصنيفها للبشر والأمم، والدول تذكرنا بعقلية النازيين الألمان والصهاينة وغيرهم الكثير ممن ما زالوا يعتقدون أن بإمكانهم الاستمرار بهذا النمط من التفكير في عالم جديد منفتح ومتكامل، لا يمكن لأمم الحدائق ودولها المتخيلة أن تنتصر على أمم الأدغال ودولها، فالعالم «الغربي» إما أن يحترم خصوصيات الشعوب والأمم، وإما لابد من هزيمة هذه العقلية المريضة الاستعمارية والنازية التي تعكس سلوكيات الأدغال، وليس الحدائق.