بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات، كانت واشنطن تدرك أن روسيا والصين لن تتوقف كل منهما عن تطوير اقتصاد بلادها وزيادة قدراتها العسكرية ومنافستها للولايات المتحدة بمختلف الجوانب في الساحة العالمية، ولذلك كان من الطبيعي ألا تتوقف واشنطن خلال العقود الثلاثة الماضية عن زيادة بناء قدراتها العسكرية وتوسيع نفوذها لخلق السدود أمام توسع العلاقات بين روسيا وبقية دول العالم، إلى حد جعلها بموجب معلومات موثقة تزيد من عدد قواعدها العسكرية المنتشرة في العالم إلى 750 قاعدة في 81 دولة كمراكز قوة عسكرية بهدف ردع كل من القوتين العظميين عن التجرؤ على تحدي هيمنتها ونظام عالمها الأحادي القطب، وخلال تلك العقود الثلاثة قادت الإدارات الأميركية حروباً كبرى جندت لها مشاركة من دول أوروبية كثيرة حين شنت حرباً على بقايا يوغسلافيا في عام 1999، وحولتها إلى دول فرضت على عدد منها المشاركة في عضوية حلف الأطلسي، وكانت من قبل قد جندت دولاً أوروبية قادتها في حرب الخليج عام 1991، وكانت توزع الغنائم على هذه الدول المشاركة وتتقاسم النفوذ معها وتستثني من هذه المشاركة وغنائمها دولاً أخرى مثلما فعلت مع فرنسا حين احتل التحالف الغربي العراق عام 2003 ومنعها من المشاركة لكي تستأثر واشنطن وحدها بثروته النفطية وتقسيم النفوذ فيه حسب مصالحها وهو نفس ما فعلته حين جندت دولاً من حلف الأطلسي معها لاحتلال أفغانستان وليبيا.
وفي هذه الأوقات يبين بروفيسور العلوم العسكرية في أكاديمية سلاح الجو الأميركي سابقاً المقدم الطيار المتقاعد ويليام آستور في مقال نشره في مجلة «أنتي وور» الأميركية الإلكترونية في الثلاثين من أيلول الماضي أن «الحرب الأميركية في فيتنام كانت شديدة القسوة على أميركا لكننا شهدنا الضوء في نهاية نفقها المظلم جداً، في حين نشهد الآن حرباً (حرب أميركا على روسيا في أوكرانيا) من طراز غريب جداً لأن نهاية الضوء في نفقها المظلم قد يكون لهيباً في كوكب ملتهب».
يقول آستور إن جميع الإدارات الأميركية «اعتادت على الكذب والغش والخداع لشن الحروب، وبصفتي ضابطا سابقا في سلاح الجو دعوني أقول إن أي حرب يستحيل الانتصار فيها بواسطة الأكاذيب، وهذا ما أثبتته حرب أميركا في فيتنام، وحربها في أفغانستان والعراق اللتان لم تتمكن واشنطن من بناء جيش تابع لها في كل منهما».
لكن هذه الحقيقة لا بد أن تقودنا إلى حقيقة أهم كثيراً وهي أن نفق الحرب الأميركية شبه العالمية على روسيا من بوابة أوكرانيا، وعلى الصين من بوابة تايوان الصينية، قد يتحول إلى «لهيب نووي» بحسب تحذير آستور، وسيكون الثمن الذي يدفعه كوكبنا وشعوبه حينئذ لا يمكن وصفه ولن يستفيد أحد في هذا العالم بعد كشف الأكاذيب التي روجتها واشنطن وحلفاؤها لتصعيد الحرب على كل من روسيا والصين، والسير بها نحو لهيب المواجهة النووية الشاملة.
لن يكون من المستغرب أبدا أن تبدأ الإدارة الأميركية ومن تقود وراءها من دول أوروبا بشكل خاص، باستخدام كل قدراتها ضد روسيا والصين، وهذا يعني توظيف كل قواعدها العسكرية وقدرات حلفائها وحشدها في ساحة المجابهة، ومن الطبيعي أن تعد كل هذه القدرات لتحقيق واحد من هدفين إما الإصرار على الحاق الهزيمة بروسيا والصين، وهذا الخيار سيقود إلى مواجهة بأسلحة نووية وهي هزيمة للجميع وإما إلى فرض حرب باردة جديدة تشق طريقها بعد مفاوضات ووساطات واستعراض قوة ردع ينتج عنها ميزان قوى عالمي يفرض على واشنطن وحلفائها السير نحو الحل السلمي.
وما بين هذين الخيارين ستظل حسابات بقية القوى الكبرى وكذلك القوى الإقليمية ودورها مطلوبة بالضرورة لمنع واشنطن عن تصعيد الحرب على القوتين الكبريين لأن هذه الحرب لا تريد واشنطن حصرها بينها وبين القوتين الكبريين بل هي تعمل بشكل منهجي منذ شباط الماضي على اجبار دول أوروبا وغيرها، على الانضمام إلى سياسة التصعيد المتزايد لاعتقادها بأن ضم كل هذه الدول إلى نفس الموقف الأميركي سيؤدي إلى استسلام موسكو وبكين، علما أن سياسة كهذه بموجب ما يرى معظم الخبراء المختصين بتاريخ الحروب، ضيقة الأفق وستؤدي إلى حافة الصدام النووي وربما إلى الصدام النووي المباشر دون أي اكتراث أميركي برأي الحلفاء الأوروبيين طالما أن عالم ما بعد حرب نووية لن يتيح لدولة أو قوة معاقبة أخرى طالما أن الجميع سينال قسطه من كوارثها وهذا ما يحذر منه البروفيسور آستور ومعظم خبراء الحروب الأميركية الذين يتوقعون أن تكون هذه المواجهة بين واشنطن من جهة وروسيا والصين من الجهة الأخرى، آخر حروب الولايات المتحدة مهما كانت نتائجها في نهاية النفق.