أسوأ صناعة تنتجها البشرية في زمننا الراهن، هذه التي تعتبر من الأهداف السياسية للدول العظمى، والغربية منها بشكل خاص، التي تتحرك تحت الطاولة، وتخطط في الظلام، ثم تلقي بنتائجها على المشهد العام الذي يخادع البشرية، فالذي تراه في الضوء محدوداً وضئيلاً إنما هو بسبب إبهار بعضه وجذبه للأكثرية، وأيضاً بحكم تناقضه مع الموجود، ما يشكل التوتر أولاً في الاختيار، وثانياً الخوف من الاختيار، والخوف يجعل الناس بشكل دائم أكثر حذراً وأكثر طاعة وأكثر عبودية ونشره في نفوس الناس، من خلال التهويل، ورفع نسب الحذر يؤدي إلى الاستعداد لكل شيء، وأهمه الانحناء والتبعية، فلا أحد يستطيع الهيمنة عليك واعتلاء ظهرك إلا إذا انحنيت، والانحناء يحمل في طياته قمة الخوف وقمة التوتر الذي يتصاعد من خلال حملات فكرية وإعلامية تضخّها مؤسسات قوى كبرى، لا تقدر عليها أي دولة أو منظومة أو فرد، تعمل خارج نطاق تلك القوى.
أجل لقد استطاع عالم الشمال خلق التوتر في الآونة الأخيرة بين شعوبه، بعدما أُنجِز منذ زمن في عالم الجنوب، الذي أخذ يحلم بذاك العالم، ولشدة نجاح التوتر في عالم الجنوب اعتبر سكانه أوطانهم فنادق مؤقتة، ينتظرون فيها المغادرة لشدة سوء الخدمة، وهذه انعكست توتراً مضافاً لم تجد له السياسة حلاً حتى اللحظة، وأنشأ أسئلة كبرى، كيف بهذه الدول ولديها من الثروات التي تكفي لجعل شعوبها ضمن الرفاهية تبقى فقيرة وتابعة لتلك العوالم القابعة في الشمال، والتي تقتات على توترها وجهلها وتخلفها، نتاج تعلقها بالماضي ووقفها الدائم على الأطلال، وعدم قدرتها على قيادة حضورها بالشكل الذي يمنح فرص قبول التطور.
لا تقنيات في السياسة ولا أدوات مادية، لأنها أفكار لا مادية متتابعة ومتوالية خفية وزئبقية، النجاح بها يحتاج إلى الإبداع، ومعه تجد كيف يتم إخضاع البشرية بعد شن حملات من الذعر والخوف، إن كان عبر السلاح النووي أو البيولوجي الذي أنجز الأمراض الفتاكة من أنفلونزا الطيور، إلى كورونا، إلى الحروب التقليدية والصغرى والكبرى وصناعة الإرهاب. كيف يقاد العالم؟ أوَلمْ يؤمن الساسة الظاهرون على السياسة أنه يقاد من الخلف؟ أين أولئك القادة الذين يَدَعون الآخرين يعتقدون أنهم في المقدمة؟
العالم الآن وصل إلى قمة التوتر، من خلال تتابع الأحداث التي أظهرت المخاطر الجمة والأضرار النفسية والجسدية والمادية وسرعة انتشارها وهيمنتها على العقل البشري الذي بات في حالة تنافس لا شريف ولا منطقي، بدلاً من التعاون والتكامل الاقتصادي والاجتماعي.
طبعاً أتحدث هنا عن التوتر السلبي الذي يوقع الفرد أو المجتمع أو حتى الدول تحت ضغوط معينة، ويكون مزمناً، ويحدث نتاج التعرض لأمور صادمة أو مواقف صعبة، والطامة الكبرى إن لم تمتلك الإدارات مفاهيم إدارة التوتر ومعالجة أسبابه، فالتوتر يقتل التطور، ويأخذ به إلى التوهان، وعدم القدرة على التركيز يشتت الأفكار، ويرسم على الوجه معالم التعب وفقدان التركيز وضعف الإنتاج، وعدم الإبداع في التعليم يصنعه الأنا والجشع للمادة والفساد، ومؤسسات تريد فرط عقد المجتمعات، ودول ترميه من أجل فقدان الثقة بإداراتها أو بقادتها، وعندما يعمّ تجد تفككاً بالأسر وانقياداً لاهثاً خلف الخبر القادم من أي جهة، وإذا استحكم ولم يُعالج بالحكمة والحوار يتحول إلى الجريمة بكل أشكالها، فأن تأتي بمدير أو مسؤول أو قيادي لا يمتلك أحدهم الحكمة وفهم ما يراد منه وعدم قدرته على تحسين الوضع العام في دائرته أو مؤسسته أو وزارته وتكبره على مرؤوسيه وانفلاته بعيداً عن فهم ما يراد من المكانة التي وضع بها، فإنّ محيطه ينفر منه، ويغدو التعامل معه من باب الحيطة والحذر، أو يستجاب لما يريد، فيحدث الإفساد، ويزداد عدد المفسدين، ولتخفيف التوتر وإعادة الوضع الدولي والإقليمي والمحلي إلى الاستقرار فإننا نحتاج إلى اختيار إدارات وطنية تغلب فيها المصلحة العامة على المصالح الشخصية، وتحمل رؤى بناءة واقعية، لا يكون فيها خبث العمل ولا ضغائن تعمل بشفافية، وستحصد الشعوب نتائج مبهرة.
الشعوب منهكة، والإدارات غير متوافقة معها، هناك فئة ضئيلة مرتاحة، لكنها أيضاً متوترة وحذرة وخائفة من فقدان ما جنت، وهذه تعكس الصورة الخفية للجني السلبي، كيف نعيد التوازن ونربط المجتمع بإدارات أخلاقية مؤمنة ببناء أوطانها على أسس متينة؟ تظهر من خلالها العلاقة الإيجابية مع مجتمعها، هذه الكفيلة بإنهاء التوتر والتوجه للاضطلاع بالمسؤوليات، كلّ من موقعه، هذه التي تبحث عنها البشرية، وفيها يكمن الكثير من الحلول.