الرؤية التركية لحل الأزمة السياسية في ليبيا تتمثل بإقامة حوار بنّاء بين جميع الفرقاء، والجلوس إلى طاولة المفاوضات لإيجاد حل نهائي. أما مصر، فهي تميل إلى اختيارات مجلس النواب، وترى نفسها الطرف الأكثر قدرةً على إيجاد حلول للاستقرار.
تغيرت خريطة التحالفات في ليبيا بعدما تحالف المشير خليفة حفتر وفتحي باشاغا في حكومة بمباركة البرلمان في سرت، إلا أنَّ عملية إغلاق حقول النفط تسبّبت بتجميد التدفقات، ما أخلَّ بالموازين الاقتصادية، فتمّ إبرام صفقة النفط التي أدت إلى تقارب مع رئيس وزراء حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة على حساب حكومة باشاغا الذي فشل في إدارة الحكومة من طرابلس؛ مركز الثقل السياسي، بعد رفض الدبيبة تسليم السلطة مع انتهاء فترة ولايته، بذريعة تسليمها بعد الانتخابات التي لم تجرِ في موعدها في كانون الأول/ديسمبر 2021.
ورغم تجديد رئيس مجلس النواب عقيلة صالح الثقة بحكومة باشاغا، إلا أنَّها لم تستطع ممارسة مهامها. وبذلك، أصبحت أضعف بعد فقدان حاضنة القيادة العامة التي كانت تمثل جناح القوة الداعم للبرلمان، وفقدت ورقة سرت كمركز ثقل موازٍ لحكومة طرابلس. أدرك باشاغا هذا الأمر. لذلك، حاول دخول طرابلس مجدداً عسكرياً من أجل إقصاء حكومة طرابلس من خلال معركة اليوم الواحد التي أدت إلى خسائر بشرية اقتصادية وأمنية.
كان النزاع سابقاً بين خريطتي طريق؛ الأولى هي التي وضعها البرلمان في آذار/مارس الماضي، في مقابل خريطة الطريق الأممية التي أخفقت في عملية إجراء الانتخابات التي كانت مقررة في 24 كانون الأول/ديسمبر الماضي. راهنت المستشارة الأممية ستيفاني وليامز على الإبقاء على مهلة زمنية حتى 21 حزيران/يونيو 2022 لاستعادة المسار، عبر التوصل إلى القاعدة الدستورية بالتوافق ما بين مجلسى النواب والدولة، إلا أنَّ المسار السياسي فشل بعد تراجع مسار تقارب المجلسين (النواب والدولة) للوصول للقاعدة الدستورية والتوافق على المناصب السيادية.
تبدلت طبيعة التحالفات، وقامت المليشيات الموالية للدبيبة في معركة طرابلس بإدخال الطائرات المسيرة التي يفترض أن تتم قيادتها من الجانب التركي كأداة حاسمة في المعركة، ما أجبر القوات التي تنتمي إلى باشاعا على التراجع.
عكست المعركة الصراع على السلطة في ليبيا، وهو ليس جديداً في المشهد الليبي، وأكدت عمق الأزمة الليبية على كل مستوياتها وعدم إمكانية فوز إحدى القوى، بل سيتعين على كل منها الاستمرار بالاستناد إلى القتال للبقاء في موقعها، إذ أصبح الفريقان يعتبران أن القوة هي مصدر البقاء.
تركيا ومصر: هل من مواقف فاعلة؟
في ضوء المعادلات المتغيرة، تضعف حالة استقطاب القوى المحلية فرص تقارب القوى الإقليمية. كانت علاقة أنقرة مع ليبيا تقتصر سابقاً على حكومة طرابلس المعترف بها دولياً، فيما اعتمدت في الآونة الأخيرة الانفتاح على الشرق الليبي أيضاً.
تعود تركيا مجدداً إلى الساحة الليبية، ساعيةً لحل الخلافات القائمة بين الفرقاء وإيجاد توافق بشأن الأزمة السياسية التي تشهدها البلاد في ظل وجود حكومتين متصارعتين. وقد باتت تدعم الاستقرار والتوافق السياسي.
الرؤية التركية لحل الأزمة السياسية الراهنة تتمثل بإقامة حوار بنّاء بين جميع الفرقاء، والجلوس إلى طاولة المفاوضات لإيجاد حل نهائي من دون تأثيرات خارجية يمكنها أن تعرقل المحادثات الجارية بشأن القاعدة الدستورية. لدى أنقرة مصالح واتفاقيات مهمة مع طرابلس بخصوص المنطقة البحرية لن تفرط فيها.
ومن أبرز الاتفاقيات المبرمة بين الطرفين، توقيع مذكرتي تفاهم؛ الأولى حول التعاون الأمني والعسكري، والأخرى بشأن تحديد مناطق الصلاحية، وهي مستعدة لتقديم ما يلزم من أجل تشكيل حكومة من خلال انتخابات حرة ونزيهة لتحقيق الرفاه للشعب الليبي والحفاظ على مصالحها في شرق المتوسط، ولا سيما البحرية.
أما مصر، فهي تميل إلى اختيارات مجلس النواب (في إشارة إلى باشاغا)، لكن استمرار الانقسام يهدد مصالحها، كما أنها ليست الطرف الوحيد المعني بالتعاطي مع الملف الليبي، وهناك مصالح إماراتية، وهي ترى أنَّ مشكلة ليبيا تبقى في وجود الميليشيات المسلحة وغياب الحكومة المركزية القادرة على الحسم كخطوة تمهّد لإجراء الانتخابات.
يمكن لمصر اقتراح حكومة بديلة للحكومتين الحاليتين تقود الانتخابات، لكن الأمر بحاجة إلى توافق الجميع عليها. إن تجارب السنوات السابقة أثبتت لمصر أنه لا يمكن الاعتماد على أحد الأطراف في تحقيق مصالحها، ومن ثم فهي تريد الاستثمار في توافق الليبيين على المرحلة القادمة. ساندت مصر حفتر حتى استغنت عنه. ولاحقاً، اعتبرت مجلس النواب الجهة الرسمية الوحيدة التي يمكن التعويل عليها، لكن المجلس لم يحسم الموقف أيضاً، فقد كانت هناك اجتماعات مشتركة لمجلسي النواب والدولة في القاهرة، إلا أنها لم تجد الحلّ.
ترى القاهرة نفسها الطرف الأكثر قدرةً على وضع حلول للاستقرار، فأمنها من أمن ليبيا، ولها مصالح مشتركة في محاربة الإرهاب ومصالح اقتصادية؛ إذ إن لديها أكثر من مليوني عامل يعملون في كل الحقول، فعدم الاستقرار في ليبيا يفتح الباب على مصراعيه لعناصر الجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية إلى الداخل المصري، ويمكن للحكومة المصرية القيام بدور الوسيط، لكن مبادرتها لا تكفي وحدها، بل يجب أن تكون مدعومة من المجتمع الدولي، وخصوصاً الأمم المتحدة.
تخشى القاهرة تمدّد الصراع الغربي الروسي في الحرب الأوكرانية وانتقاله إلى ليبيا، فتصبح هناك استحالة لحلحلة الأزمة الليبية. وفي ضوء تشابك أبعاد الملف الليبي إقليمياً ودولياً مع أطراف كتركيا وروسيا والغرب، تخطّط القاهرة لأن تكون محايدة بين روسيا وأميركا، فالأطراف الخارجية تؤكد ضرورة إجراء الانتخابات بما يمكن أن يحقق التوافق، لكن يحتفط كل منها بأجندته السياسية.
من جهتها، تؤكد واشنطن دعم جهود الممثلة الأممية، وتتحرك كوسيط سياسي بين الحكومتين؛ الدبيبة وباشاغا، وهي في الواقع تقوم بعملية إدارة أزمة. أما روسيا، فتؤكد ضرورة تغيير الممثلة الأممية التي تنفّذ أجندة أميركية، وتحاول مصر فتح قنوات اتصال مع الدول الفاعلة على المستوى الإقليمي في الملف الليبي، ولا سّيما في ظل المحاولات الحالية في الإقليم، التي تعمل على تقريب وجهات النظر ومحاولة إبعاد أثر العوامل الخارجية في الشؤون الداخلية لدول المنطقة. وقد تعزز المشكلات الأخيرة في ليبيا التقارب المصري التركي، بحيث يصبح الملفّ الليبي نقطة التقاء بين البلدين، إذ تسعى أنقرة إلى مزيد من التقارب مع القاهرة، فهل يمكن أن تنجح؟