جاء وصول حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا مع بدايات الألفية الجديدة كجزء من إعادة رسم الخريطة في المنطقة كلها، بناءً على مشروع أميركي عنوانه «الإسلام والديمقراطية»، اشتغل عليه بحثياً خلال تسعينيات القرن الماضي، وتمت دراسة التفاصيل، ووضع الخطط بدءاً من مرحلة الانطلاق بما سُمي أحداث 11 أيلول بهدف سيطرة الولايات المتحدة، ومن خلفها الأدوات الغربية على مصادر الطاقة وطرق الإمداد، والبوابات البحرية، ولا حاجة لشرح المزيد في هذه النقطة لأنها أصبحت معروفة، وليس سراً أنهم أطلقوا على هذا المشروع تسمية «الشرق الأوسط الكبير» ثم عدلوه ليصبح «الشرق الأوسط الجديد».
رأس الحربة في هذا المشروع كان التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، حيث تم تكليف مشيخة قطر بأدواتها الإعلامية والمالية بالتنسيق مع الحزب الحاكم في تركيا، وبإدارة أميركية مباشرة مع قوى إقليمية أخرى قيادة هذا المشروع من خلال غرفتي عمليات «الموم» في تركيا، و«الموك» في الأردن، وهاتان الغرفتان كانتا تنسقان كل تفصيل يتعلق بالجماعات الإرهابية التي استخدمت لغزو سورية وتدميرها.
كتبت عن ذلك سابقاً في «الوطن» السورية، ولكن للتذكير فإن الرئيس التركي أردوغان كان قد أطلق أكثر من 34 تصريحاً موثقاً يقول فيه علناً إنه نائب رئيس مشروع الشرق الأوسط الكبير، وإن تركيا جزء أساسي من هذا المشروع، وضمن إطار الاتفاق مع تركيا كان المطلوب المساهمة في إسقاط النظام السياسي في سورية، والإتيان بنموذج عميل يسيطر عليه الإخوان الذين سيشكلون الخنجر الذي سينظفون فيه أي وجود لكلمة العروبة، وسيغيرون هوية سورية العربية، وينقلونها باتجاه الخدمة للمصلحة الأميركية الغربية، لا بل الإسرائيلية بالطبع، وستكون سورية في شكلها الجديد مجموعة كانتونات كل كانتون فيها يتبع لجهة إقليمية ودولية، والنموذج الليبي مثلاً هو شرق وغرب، في شرق ليبيا نفوذ لقوى إقليمية ودولية، وفي غربها لقوى أخرى، وأعتقد أن وضع سورية كان سيتشرذم أكثر إثنياً ودينياً، وسندخل كسوريين مرحلة اختفاء الدولة لمصلحة نفوذ قوى الأمر الواقع التي كانت ستنشأ على الأرض.
قبلت تركيا آنذاك دورها في المشروع الذي كان سينتج كانتوناً كردياً يمتد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في الشمال السوري، وكلمة «كردي» هنا وفقاً لما استخدمه مصممو المشروع، بالرغم من أن نسبة وازنة من السوريين الكرد قاتلوا مع دولتهم ضد هذا المشروع، ولكن هنا أتحدث عن أولئك الذين انخرطوا في المشروع الأميركي بما في ذلك العرب منهم، وآنذاك كان الوعد لتركيا أن هذا الكانتون سوف يكون تحت حمايتها، ويربط بها اقتصادياً تماماً كما حصل في شمال العراق مقابل أن تقوم تركيا بمنح أكرادها تمثيلاً سياسياً في البرلمان، وبلديات وحقوقاً ثقافية، وفعلاً نفذ أردوغان ما طُلب منه حتى عام 2015، وكلف آنذاك حقان فيدان رئيس استخباراته بالتفاوض مع مجموعات كردية في بعض الدول الإسكندنافية، كما تم السماح لبعض المقربين من أوجلان باللقاء معه بإشراف الاستخبارات التركية، ودعا من سجنه للتفاهم مع الحكومة، والعمل السلمي بدلاً من العمل المسلح.
حكومة أردوغان لم تكن ضد نشوء هذا الكانتون المسمى «كردياً»، ونفذت ما طُلب منها داخلياً، لكنها وبسبب ضغوط قوية من الاتجاه القومي التركي، والمؤسسة العسكرية تراجعت عن ذلك لأن بعض أطراف الدولة العميقة تبين لها أن تقسيم سورية، سيؤدي أوتوماتيكياً لتقسيم تركيا لاحقاً، وأن الوعود التي قدمت لهم لم تكن دقيقة، ما أجبر أردوغان على البدء بالتراجع عن التزاماته التي تعهد بها ضمن إطار المشروع الأميركي الكبير، والذهاب نحو المساومة مع الأميركيين حول ما التزم به وهو ما نتج عنه العمل على الإطاحة به في محاولة الانقلاب في تموز 2016، إذ كان هدف الانقلاب تعزيز نفوذ فتح الله غولين، وجلبه للسلطة، علماً أن غولين من أكثر من يدعم إنشاء الكانتونات وتقسيم دول المنطقة، وهذا لا يعني أبداً أن أردوغان لم يكن مع هذا المشروع، ولكن محاولاته مع الأميركيين عبر فتح البازارات، وتردده لأسباب داخلية دفعت بهم لمحاولة الإطاحة به.
بعد نجاته من محاولة الانقلاب 2016 بدعم الروس والإيرانيين الذين ساهموا في إنقاذه من القتل وفقاً للكثير من المصادر والمعلومات، عمل على تنويع علاقات تركيا مع روسيا والصين وإيران، مع إبقاء باب البازار مفتوحاً مع الأميركيين والأوروبيين، بهدف ابتزاز كل الأطراف.
عمل أردوغان بحجة مواجهة الكانتون الكردي المدعوم أميركيا، على إنشاء «منطقة آمنة» بعمق 30 كيلو متراً تشكل حاجزاً بشرياً له حسب اعتقاده في مقابل الكانتون الذي تدعمه الولايات المتحدة، وأسماه في مخططاته غير المعلنة «سنةستان» مقابل «كردستان»، وصولاً إلى ما وصلنا إليه الآن من عملية عسكرية محتملة تجاه منبج وتل رفعت لإكمال الشريط الذي يطمح لإقامته واحتلاله تحت عنوان مواجهة المشروع الكردي الذي كان قد تعهده في بداية التزامه بمشروع الشرق الأوسط الكبير.
يجب أن نفهم هنا أن أردوغان وحزبه لم يكونوا ضد المشروع منذ البداية، لكن عدم اتفاق المصالح، وذهابه نحو معارضة المشروع الأميركي، وبناء مشروعه الخاص وتنسيقه مع الروس على الأرض في بعض المفاصل بسبب غباء بعض قيادات ميليشيات «قسد»، أو عمالتها، أديا إلى احتلاله منطقة إثر أخرى وصولاً إلى منبج وتل رفعت.
بعد قمة طهران التي تفاءل البعض بها، وتشاءم آخرون، فإن أمام الرئيس التركي فرصة أخيرة للاستفادة من مخرجات القمة، والتي يبدو واضحاً أن الرئيس الروسي بوتين لا يريد ترك المجال واسعاً أمام أردوغان للمماطلة كثيراً كعادته، حيث دعاه للاجتماع في 5 آب القادم في سوتشي لبحث ملفات عدة سيكون من بينها سورية، كما أن بوتين الذي سيستضيف قمة أستانا القادمة في روسيا، قبل نهاية العام، لن يقبل أن يستضيف هذه القمة إلا بعد تحقيق اختراقات مهمة في الملف السوري.
الآن أمام أردوغان خياران لا ثالث لهما:
– الخيار الأول: الانتقال من مرحلة المراوغة والتسويف، والمماطلة في الملف السوري إلى مرحلة التنفيذ التدريجي على مراحل، والتنسيق الميداني مع الروس، والجيش العربي السوري لإنهاء وجود الجماعات الإرهابية في إدلب، والبدء بتنفيذ اتفاق عام 2019، مقابل التعاون أيضاً بتفكيك مشروع الكانتون «القسدي» المدعوم أميركيا، وهذا ممكن إذا صدقت النيات من الجانب التركي، وخاصة أن الانتخابات التركية على الأبواب، وهي مفصلية للغاية بالنسبة له، ويحتاج إلى إيجاد مخارج وطرح حلول لملف اللاجئين أولاً، وأيضاً البحث عن آفاق مستقبلية لأبناء المحافظات التركية المحاذية لسورية الذين قطعت أرزاقهم وجاءهم اللاجئون، ومع تردي الواقع الاقتصادي في تركيا أصبحت الأمور لا تطاق، ما يعني أنه ما لم يطرح حلولاً لهم سيصوتون لمصلحة أحزاب المعارضة، وهؤلاء تعادل أصواتهم 11 بالمئة، وهي نسبة كبيرة للغاية.
– الخيار الثاني: أن يذهب باتجاه الاستمرار بالمراوغة وعدم تنفيذ تعهداته كما اعتاد سابقاً، والقول إنني أمام انتخابات حاسمة، ولا أستطيع الانقلاب فوراً على ما بنيته خلال أكثر من عقد من الزمن من تنظيمات إرهابية، وجماعات موالية، وقد يكون ذلك بعد فوزي بالانتخابات، وهو أمر لن تقبل به كثير من الأطراف، وسيعتبر استمراراً لحبل الكذب الذي أصبح معروفاً به أردوغان وجماعاته.
لا يوجد خيار ثالث، فالزمن يدهمه بسرعة، والضغوط أصبحت كبيرة، ولا أحد سيقبل التسويف والمماطلة، وإذا أراد الفوز بالانتخابات فأعتقد أن عليه ألا يخسر الروس والإيرانيين خاصة أن أعداءه كثر، ويعملون على الإطاحة به بأي ثمن، وهذا واضح تماماً في واشنطن!
أخيراً: هناك التباس يقع به كثيرون عندما نكتب عن تركيا، إذ يفهم البعض من كلامنا أن مصلحتنا في فوز أردوغان، وأننا ندعو لذلك، وهذا ليس صحيحاً أبداً، ما يهمنا بوضوح شديد أن هناك حقيقة تاريخية ومستقبلية بالنسبة للشعبين وليس نظام الحاكم في أنقرة كائناً من كان، وهي أنه دون عودة المياه إلى خط دمشق أنقرة، وانسحاب جيش الاحتلال التركي وعودة اللاجئين، فإن المنطقة لن تستقر، وستبقى قلقة بما فيها بالطبع سورية، ما يهمنا هو الهدف وليس الأداة، سواء تحقق ذلك على يد أردوغان، الذي يشك كثيرون في نياته، ومعهم كل الحق، أو زعيم المعارضة كليتشدار أوغلو، لا فرق.
وبالرغم من تشاؤم الكثيرين في هذا الشأن، لكني لست منهم، فالتتريك يواجه بالتعريب، وبصراع الهوية والثقافة داخل تركيا التي بدأ مواطنوها يعلون أصواتهم، ومقابل حملات التتريك، هناك اتجاه لتعلم اللغة العربية يتنامى بسرعة في المناطق المحاذية لسورية لأن ديناميات الأحداث ووجود السوريين في هذه المناطق لا تسير في اتجاه واحد كما يعتقد البعض، وهذا موضوع لمقال آخر.