بات من المؤكد أن تشكيل الحكومة اللبنانية في خلال الأشهر الثلاثة المتبقية من ولاية رئيس الجمهورية، أصبح أمراً مستحيلاً، إن لم تحدث معجزة، بفعل التباين الحاد بين مختلف الأطراف حول العديد من القضايا الحساسة، وبالتالي يتجه الاهتمام حالياً إلى مصير رئاسة الجمهورية، والعوامل المؤثرة في إنجاز الاستحقاق.
وفي واقع الأمر، فإن انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان يشكل تحدياً دائماً في الحياة السياسية اللبنانية في مختلف الحقبات التي مر بها لبنان، إذ إن التدقيق في مختلف الظروف التي أحاطت بعمليات الانتخابات يثبت أن جميع الرؤساء قد مروا بمخاض عسير قبل الوصول إلى الرئاسة الأولى. وظروف اليوم تبدو أشد تعقيداً من أي ظروف مرت بها انتخابات الرئاسة سابقاً، بسبب التباين الحاد بين مختلف الأطراف حول مشروع الرئيس، وقدراته، وإمكانية إيصاله لسدة الحكم.
وثمة اتجاهات عدة تتحكم في مصير الرئاسة، وبالتالي الخيارات المطروحة من حيث المبدأ، فهناك خيار الرئيس القوي القادر على إخراج لبنان من أزماته المتلاحقة، وهو خيار صعب التحقق، أولاً لعدم قدرة أي طرف وحده، على حسم النتيجة، بفعل تشتت القوى الناخبة بين أكثريات متعددة، تحتاج إلى بعضها بعضاً لإيصال مرشح ينال ثلثي الأصوات في الدورة الأولى، وهو في الظروف الحالية أمر مستحيل، فيما الخيار الثاني، وهو الاتفاق على مرشح تسوية يحتاج لمناورات وضغوط داخلية وخارجية للتوصل لاتفاق مقبول للجميع.
إن التدقيق في تاريخ الانتخابات الرئاسية اللبنانية يثبت عدم قدرة أي طرف من الأطراف في الداخل على إيصال مرشح محدد للرئاسة إلا بعد مخاض عسير، وصل أحياناً لتفلت أمني يجبر الأطراف على القبول بتسوية ما، وعادة ما تكون برعاية خارجية. وهذا ما حصل عملياً، بعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل في عام 1982 وتسليم الحكم لحكومة عسكرية برئاسة قائد الجيش آنذاك، ميشال عون، والأمر سبق وحدث في انتخاب الرئيس الياس سركيس في عام 1976 قبل نهاية ولاية الرئيس سليمان فرنجية بستة أشهر، فيما انتخب الرئيس الياس الهراوي بعد اغتيال الرئيس رينيه معوض في عام 1991، أي بعد ترتيبات اتفاق الطائف، والأمر تكرر مع الفراغ الرئاسي بعد ولاية الرئيس إميل لحود، حيث انتخب ميشال سليمان إثر تسوية ما سمي باتفاق الدوحة، وتكررت ظاهرة الفراغ الرئاسي إلى حين التسوية التي أوصلت العماد ميشال عون إلى الرئاسة. ما يعني أن معظم الرؤساء انتخبوا في ظروف استثنائية، ونتيجة تسويات غلب عليها الطابع الخارجي، بنكهة داخلية على الطريقة اللبنانية.
ويبدو اليوم أن لا حكومة ستشكل وسط قبول غير معلن من معظم الأفرقاء باعتبارها تخدم مصالح مشتركة وتتقاطع مع رؤى ومصالح خارجية، لما يمكن أن يتيح لحالات استثمار داخلي وحتى إقليمي ودولي، في العديد من الملفات المتصلة بالواقع اللبناني. وعليه، يبدو أن الظروف تتجمع للوصول إلى الفراغ الرئاسي، وسط حكومة مستقيلة تصرف الأعمال، ورئيس حكومة مكلف غير قادر على التشكيل.
ثلاثة عهود رئاسية انتهت بفراغ رئاسي، تلتها تسويات في طبيعة النظام السياسي والدستوري، الأول بعد الرئيس أمين الجميل واتفاق الطائف، والثاني بعد الرئيس إميل لحود واتفاق الدوحة، الذي أوصل الرئيس ميشال سليمان، والفراغ الذي أدى إلى تسوية إقليمية ودولية لإيصال ميشال عون للرئاسة، فهل ان لبنان يتجه إلى فخامة الفراغ لتهيئة الظروف لتسوية ما؟ أم أن للرئيس الحالي، ميشال عون، كلام آخر في الواحد والثلاثين من أكتوبر / تشرين الأول المقبل؟ هذا ما حاول الإيحاء به في كلمته بمناسبة عيد الجيش مؤخراً.
ربما قدر لبنان أن تكون له مع كل ولاية رئاسية ظروف لم تعد استثنائية، بل متكررة، تضعه دائماً في وجه أزمات تبدأ بأزمات حكم، وتنتهي بأزمة نظام، تتخللها الكثير من المصاعب والويلات للتوصل إلى تسوية ما، ويبدو أن مجمل الظروف الحالية تتجمع لذلك، للأسف.