الإعلام .. تلك الأداة السحرية التى يمكنها توجيه الرأى العام الى شئ يريده ويبعده عن آخر لايريده ، وتحويله إلى النقيض وتعبئته وتصوير ما ليس له وجود على أنه واقع ملموس لا مفر منه.
يلعب الإعلام في هذه الأيام دورا محوريا" في صناعة الحدث وفي صناعة الهزائم والإنتصارات وفي صناعة الخطر المحدق بالشعوب، وهذا الخطر يستلزم بالضرورة التحرك سريعا" لوقفه وتقديم كل التضحيات في سبيل ذلك.
لقد تعددت النظريات والتحليلات , التي حاولت معرفة كيف يفهم الجمهور حتى نتمكن من الدخول إلى عقله والسيطرة عليه , أو التلاعب به .
لقد قال أحد القادة الإلمان في الحرب العالمية الثانية ( إننا نستهلك الكثير من القنابل لندمر بها مدفعا" واحدا" في يدي جندي , أليس الأرخص لنا أن نوجد وسيلة تسبب اضطراب الأصابع , التي تضغط على زناد المدفع في يد الجندي ) .
إن هذا مايقوم به الإعلام الغربي الاستعماري من خلال سبره لعقولنا ومعرفة ماهو الدواء الناجع للسيطرة على هذه العقول وجعلها تستجيب لأفكاره وترضى بأعماله بل وتدافع عنها بكل قوتها وهذا مالاحظناه في حرب التسع سنوات من عمر الربيع العبري , الذي لم تنته مفاعيله حتى الآن ولن تنتهي بل ستتطور مع تطور تقنيات الإعلام والحرب النفسية على شعوبنا , حيث تحول جزء من شعوبنا للعمل ضد بلدانهم تنفيذا" لما يؤمرون به بعد أن تم غسل أدمغتهم مستغلين نقطة الضعف الأساسية لديهم وهي الدين .
إن ماقام به الإعلام الغربي المعادي والإعلام العربي المأجور والمرتهن للبترودولار الأمريكي والذي يشكل 80 بالمئة من الاعلام العربي حسب المحلل الاستراتيجي أنيس النقاش, لم ينجو منه إلا ذوي الإرادة الصلبة والمناعة القوية التي لاتؤثر فيها هذه الجراثيم الوهمية المعادية , كما فيروس كورونا فينجو منه فقط أصحاب المناعة القوية والإرادة الصلبة .
لقد اهتم علماء النفس الاجتماعي منذ خمسينيات القرن الماضي بدراسة مصطلح "غسيل الدماغ" الذي يتلخص في السيطرة على العقول عن طريق عدة طرق منها على سبيل المثال التخدير النفسي، إجراءات التلقين، الاقناع الغامض، وغيرها. ومنذ ذلك التاريخ صدرالعديد من الكتب التي تشرح كيفية التلاعب بالجماهير والسيطرة على عقولها عن طريق الإعلام ومن بينها :
1- كتاب إعادة تشكيل الفكر وسيكولوجيا الشمولية"، الذي ألّفه عالم النفس روبرت جاي ليفتون وأحد أهم استنتاجاته تتلخص في "أن الشخص المغسول دماغياً يهاجَم بإحساسه لينتهي به الأمر إلى تغيير أفكاره ومعتقداته".
2- المتلاعبون بالعقول لهيربرت شيللر, الذي صدر عام 1974 في الولايات المتحدة .
يتكلم الكتاب عن التضليل الإعلامي والوعي المعلب وصناعة المعرفة في الولايات المتحدة الأميركية وكيف يتم التحكم بالرأي العام . يعتقد شيللر أن صناعة التلاعب بالعقول تتم عن طريق خمس أساطير جرى ترويجها بعناية وذكاء، حتى باتت تلك الاساطير تشكل الإطار التضليلي الذي يوهم عقولنا بادعاء الحقيقة، وتتمثل هذه الأساطير التي تسيطر على الساحة الإعلامية بوصفها حقائق هي:
• أسطورة الفردية والاختيار الشخصي
• أسطورة الحياد
• أسطورة الطبيعة الإنسانية الثابتة
• أسطورة غياب الصراع الاجتماعي
• أسطورة التعددية الإعلامية
3- كتاب السيطرة على الإعلام للكاتب الأمريكي نعوم تشوميسكي
إن الاطلاع على هذا الكتاب الذي صدر عام 2003 يكشف لنا الوجه الآخر للإعلام المتواري عنا، ويجعلنا نعي الصورة الحقيقية والمتوحشة للإعلام الأمريكي على عكس الصورة البديهية المزينة التي تبدو للغالبية منا، وحتى نزيل تلك الغشاوة التي طالما حجبت عنا جوهر الحقيقة وماهية الأمور من حولنا، وكيف أن الدعاية أو البروبغندا هي من تتحكم في زمام أمور العامة وإدارة الرأي العام، ورغم أن أمريكا تبدو في ظاهرها تلك الإمبراطورية الراعية للديمقراطية وحقوق الإنسان عبر العالم، إلا أن حقيقتها بعيدة كل البعد عن هذه الصورة المزيفة التي سوقتها اعتمادا على قوة إعلامية هائلة متحكمة في عقول الجماهير.
وهنا يعرض تشومسكي كيف أن هيئة كريل للدعاية والمكونة من كبار الشخصيات الأمريكية استطاعت في عهد الرئيس ويلسون تحويل الرأي العام الأمريكي من مناهضة الحرب ضد ألمانيا إلى الاستعداد الكامل لدخول الحرب العالمية الأولى بهستيريا وتعطش، وأورد تشومسكي في كتابه حجم النفاق الذي يقف وراء إمبراطورية الإعلام العالمي وتحديدا الإعلام الأمريكي، القادر على تغيير أنظمة وإبادة شعوب وإشعال حروب طاحنة عن طريق الترويج لأخبار كاذبة ونشر دعايات لا أساس لها من الصحة، لتشكل بها ما يشبه الصدمة الكبرى تجعل المتلقي على استعداد كامل لتصديق أي شيء يُعرض عليه.
ويسير الإعلام جنبا إلى جنب مع السياسات المتبعة للولايات المتحدة الأمريكية، بحيث يسهر على تقديم المبررات والذرائع اللازمة التي من شأنها تعزيز موقف واشنطن تجاه أي قرار اتخذته أو حرب شنتها، رغم أن هذه المبررات غالبا ما تكون واهية وصبيانية، وهذا بالضبط ما حصل مع صدام حسين إبان حرب الخليج وكذبة أسلحة الدمار الشامل ,وكيف أن الإعلام الأمريكي تمكن في فترة وجيزة جدا من تغيير صورة زعيم العراق من حليف قوي للولايات المتحدة الأمريكية إلى حاكم ديكتاتوري متمرد على قيم الديمقراطية، وما حصل في أفغانستان ويوغسلافيا ودول المعسكر الاشتراكي والجمهوريات العربية عبر الربيع العبري.
ويبدو الأمر واضحا" في تناقضات الولايات المتحدة الأمريكية في حربها على الإرهاب، في حين أنها تغمض الطرف عن جرائم ومذابح ضد الإنسانية كانت طرفا رئيسيا فيها، لتظهر نواياها المبيتة تحت غطاءِ هذا المبرر السخيف لشن حروبها على الشعوب المُخطّطِ لها مسبقا مثلما فعلت مع ألمانيا والشيوعية ومنطقتنا العربية.
وكما نقلت أمريكا الحرب إلى خارج حدودها ورمت بها في أفغانستان والعراق وسوريا، قامت أيضا بالموازاة مع ذلك بإدارة الصراع الإعلامي خارج حدودها، وذلك بالضغط على الأنظمة الموالية ليسير إعلامُها وفق الأجندات التي تُحدّدها .
ويمكن القول أن الضجة التي عرفها كتاب السيطرة على الإعلام لتشومسكي بعد صدوره لم تكن لتحدث لولا أن الشعب الأمريكي بعيد كل البعد عن مستنقع السياسة الآسن وأكثرهم لم يسمع بحرب العراق أو سوريا ولا يعرف حتى موقعهما من الخريطة.
، وقد حصل معه ما يشبه الصدمة القوية دفعته إلى طرح تساؤلات من بينها: هل تفعل الولايات المتحدة الأمريكية كل هذا دون أن نشعر؟
لقد مارست أمريكا وتمارس الكذب بشكل يشبه إلى حد بعيد شغفاً متوارثا، وهي لا تولي اهتماما كبيرا للرأي العام الداخلي الذي يعيش حالة من الترف ومن السذاجة السياسية بقدر ما يؤرقها تشبع الشعوب العربية بالفكر السياسي وإدراكها الكبير لماهية الأمور في المنطقة , التي تحاول تغييرأفكارها باستمرارعبر اعلامها الكاذب والمضلل.
إن كتاب السيطرة على الإعلام لتشومسكي عزز من فضيحة سيطرة أمريكا وهيمنتها على الإعلام الداخلي والخارجي، وأمريكا لا تلتفت لانتقادات المؤسسات الإعلامية الدولية، فلتقل ما تشاء، المهم لديها أن تسير قدُما في تفعيل مخططاتها على أرض الواقع، لتتحول صدماتها السياسية مع مرور الوقت إلى واقع معاش يتقبله الجميع.
4-التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول , الكتاب الذي ألفه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو عام 1996، الذي يتحدث عن التلفزيون وأثره في المشاهدين وفي الرأي العام، وهو يلخص الخبرة التي حصل عليها المؤلف من خلال معايشته لحركة الإضرابات التي شهدتها فرنسا وطالبت بتحسين الوضع الاقتصادي عامي 1995، و1998، حيث شارك فيها بورديو بنفسه، منتقداً الدور الذي لعبته وسائل الاعلام الفرنسية التي يسميها بالفاسدة، وكذلك تبعية المثقفين الفرنسيين لها، وينتقد الدور الخطير الذي يلعبه التلفزيون في تكريس الأوضاع والمصالح السائدة والتفريغ السياسي والتلاعب بالعقول. كما يوضح كيف يتلاعب التلفزيون والإعلام بعقول المشاهدين وكيف أن من يسيطر على الإعلام سواء الدولة أو رجال أعمال أو تحالف بينهم هو من يسيطر ويفرض رؤويته على الاخرين. وفي هذا الكتاب يدرك القارئ كيف أن الإعلام من الممكن أن يجعل شيئا عاديًا تافها" يصبح غاية في الأهمية، أو شيئًا مهمًا يصبح لا وزن له , وكيف يستطيع الإعلام أن يخلق واقعًا جديدًا، وكيف أنه قد يهتم بإذاعة أحداث متفرقة ويستخدام أخبار تثير العاطفة أو النزعة القومية أو حتى الرياضية بغرض إلهاء الناس عن الأشياء المهمة التى يجب أن تقال لهم، وكيف أنه لا يعطيك وقت للتفكير في حقيقة الأشياء التي تذاع وذلك وسط سيل الأخبار والمعلومات والبث. يدرك القارئ بشكل عام في هذا الكتاب حقيقة الإعلام التي لا يراها.
5- لكن الشيئ الأخطر الآن هوالانتشار الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي وسهولة استخدامها والوصول إليها , فقد بدأنا نشهد تأثيرها الكبير في هندسة المجتمع وتوجهات الناس حتى أذواقهم ولباسهم ومشترياتهم وأصواتهم الانتخابية ومزاجهم العام.ولربما الأجدر بنا في هذا الزمان أن نطلق على شبكات التواصل الاجتماعي مصطلح السلطة الناعمة، حيث بدأت تؤثر في حياتنا دون أن نشعر.
هذا التلاعب الخفي في مشاعر الناس فرض هندسة اجتماعية جديدة بدأنا نرى أثرها في حياتنا اليومية، فأصبحت شبكات التواصل الاجتماعي مرتعاً للأفكار الغريبة والأخبار الملفقة أو المجتزئة التي يقوم بنشرها خلايا سوداوية لها أهداف معينة تستغل الدين والمذهب وغيرها وأصبح الكثيرون حتى المثقفون منهم يتبادلون هذه الأخبار الملفقة والأفكار الغريبة دون كامل إدراك بما يفعلون.
الخطر الأكبر يكمن في التأثير على الأجيال الجديدة فهم الأكثر عرضة للتأثر بالأفكار الغريبة والمتطرفة بسبب قلة الخبرة خصوصاً في مرحلة النضج.( وسأخصص لوسائل التواصل الاجتماعي مقالا" خاصا")
إن العشرين بالمئة من الإعلام العربي وهو الإعلام المقاوم بغالبيته أمام تحديات كبيرة تفرض عليه إعادة هيكلة المنظومة الإعلامية برمتها، وتحويلها إلى إعلام خارق للفضاء العربي إلى العالمية للرد على أكاذيب وفبركات الإعلام المغرض الذي يعمل وفق الأجندة الصهيونية الأمريكية الغربية للسيطرة على هذه المنطقة من كل أبوابها, وأهمها هو امتلاك المنصات الفضائية التي تدير هذا الإعلام والذي طرحناه منذ عام 2005 .