مفاهيم منوّعة - الاحتكار المجلس الاجتماعي | مفاهيم منوّعة - الاحتكار
تاريخ النشر: 11-06-2022

بقلم: خالد رعد

يقصد بالاحتكار monopoly، في المصطلح الاقتصادي: انفراد مشروع واحد بعرض سلعة ليس لها بديل، وشرط وجود الاحتكار اختفاء المنافسة التي يَعْرِضُ بها الاحتكار السلعة.
المنظور التاريخي
سادت المنافسة الحرة أسواق أوربة، وبلغت قوة نموها أقصاها ما بين 1860 و 1880م، وذلك في ظل انتشار مذهب الاقتصاد الحر وتأكيد هذا الانتشار وحمايته مما جعل حجم المشروعات آنئذ ضئيلاً، إذ كان المشروع الواحد لا يعدو أن يكون جزءاً صغيراً جداً في وسط سوق ممتلئ بمثله أو أصغر منه أو أكبر بقليل، والواقع أنه لم يكن لأي مشروع وحده أن يؤثر في السوق، سواء دخله أول مرة أم استمر أم انسحب منه.
إلا أن هذا الوضع لم يدم طويلاً مع اكتشاف المستثمرين لمزايا المشروع الكبير وحصولهم على أرباح تفوق بكثير ما كان يتحصل لديهم منها حينما كان العرف السائد يقضي بالاكتفاء بحجم صغير معين من المشروعات، وهكذا كان النزوع نحو التركز الاقتصادي، وقد ساعد على ذلك أيضاً طابع العلاقات الدولية القائمة آنئذ.
ويمكن إرجاع نشأة الاحتكارات إلى تلك الحقبة (أي إنها ولدت من باطن سوق المنافسة الحرة) وذلك ما بين عامي 1860- 1870 حين تكرر قيام أزمات اقتصادية ابتداء من عام 1863 أدت إلى تغير في الفكر الاقتصادي السائد وشيئاً فشيئاً أصبح قيام التكتلات والاحتكارات أمراً مقبولاً وأصبح «الكارتل» منذ نهاية القرن التاسع عشر واحداً من أهم أسس الحياة الاقتصادية، وذلك في أثر الأزمة الاقتصادية التي حدثت ما بين 1900- 1903، إلى أن تحول النظام الرأسمالي إلى مرحلة متقدمة جداً سميت فيما بعد رأسمالية الدولة الاحتكارية. ولقد لوحظ أنه بالرغم من صدور قوانين تحرم التكتل أو الاحتكار في كثير من دول النظام الرأسمالي مثل قانون 17 حزيران 1891 وقانون التفرقة بين الاتفاقات الاحتكارية الحسنة والسيئة 1926 في فرنسة، وقانون شيرمان Act Sherman الذي أصدره الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت في الثاني من تموز عام 1890، وقضى بمحاربة اتفاقات قيام الاحتكارات، وذلك في بداية الحرب العالمية الأولى وقانون /1914/ الصادر عن حكومة فيمان Weiman الألمانية الذي يجيز حل كل احتكار من قبل وزير الاقتصاد الذي شكل محكمة سميت «الكارتل» وعلى الرغم من كل هذه القوانين التي انصبت على محاربة الاحتكار، تغير الحال في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فقد شجع قانون صدر في الولايات المتحدة الأمريكية في أول عهد الرئيس فرانكلين روزفلت 1933 نشوء الاحتكار، ويرى بعض الباحثين أن القانون المذكور ذهب إلى حد إنشاء الاحتكار الإجباري. وفي ألمانية تكرر الأمر بعد صعود هتلر إلى سدة الحكم 1933. وفي فرنسة شجع المشرع ما بين 1938و 1939 تكوين جماعات الاستيراد وإقامة اتفاقيات بين المنتجين.
لقد اشتدت وتيرة «التركز الاقتصادي» اشتداداً ملحوظاً في القرن العشرين وأصبحت الطابع الرئيسي للنظام الاقتصادي الرأسمالي سواء كان ذلك على صعيد الوحدات الإقليمية أم على صعيد بروز نزعة التمركز الاقتصادي على مستوى الفعاليات الاقتصادية الرأسمالية العالمية.
الاحتكار في التاريخ العربي:
فهم الاحتكار أو دراسته في التاريخ العربي مرتبط برأي الشريعة الإسلامية وفقهها، فعلى مر العصور كانت الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع وما زالت في بعض الأمصار مصدره الوحيد، وفي بعضها مصدره الأول، والاحتكار في الشريعة اشتراء طعام ونحوه وحبسه إلى الغلاء (ابن عابدين) وهو حرام في الإسلام، ولقد ورد ذكر تحريمه في أحاديث نبوية كثيرة نجدها في كتاب البيوع من صحيح البخاري وموطأ مالك وسنن الترمذي وأبي داود، وفي كتاب المساقاة من صحيح مسلم، وفي مواضع من مسند الإمام أحمد بن حنبل.
وأما حكم الاحتكار في الفقه، فقد أورد ابن القيم شرحاً واضحاً له فقال: «إن المحتكر هو الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام فيحبسه عنهم ويريد غلاءه عليهم وهو ظالم لعموم الناس ولهذا كان لولي الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل، عند ضرورة الناس إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في مخمصة مجاعة أو سلاح لا يحتاج إليه والناس يحتاجون إليه للجهاد أو غير ذلك، فإن اضطر إلى طعام غيره أخذه منه بغير اختياره بقيمة المثل،ولو امتنع من بيعه إلا بأكثر من سعره فأخذ منه بما طلب لم يجب عليه إلا قيمة مثله» .
وفي آثار الفقهاء ما يدل على أنهم لاحظوا أشكالاً من الاحتكار في غير ما يخص الأرزاق وحبسها، فأخضعوها للدرس والتمحيص وأعملوا فيها الأحكام التي أعملوها في احتكار الأموال.
قال ابن القيم: «ومن أقبح الظلم إيجار الحانوت على الطريق أو في القرية بأجرة معينة على أن لا يبيع أحدٌ غيره فهذا ظلم حرام من المؤجر والمستأجر، وهو نوع من أخذ أموال الناس قهراً أو أكلها بالباطل» .
ومنع غير واحد من العلماء (كأبي حنيفة وأصحابه) القسّامين الذين يقسمون العقار وغيره بالأجرة أن يشتركوا، فإنهم إذا اشتركوا والناس يحتاجون إليهم أغلوا الأجرة.
وأضاف ابن القيم إلى ذلك قوله «وكذلك ينبغي لوالي الحسبة أن يمنع مغسلي الموتى والحمالين لهم من الاشتراك، لما في ذلك من غلاء الأجرة عليهم، وكذلك اشتراك كل طائفة يحتاج الناس إلى منافعهم كما الشهود والدلالين وغيرهم. والمقصود أنه إذا منع القسّامون ونحوهم من الشركة لما فيه التواطؤ على إغلاء الأجرة، فَمَنْعُ البائعين الذين تواطؤوا على أن لا يبيعوا إلا بثمن مقدر أولى وأحرى». وكذلك يحرم الاحتكار عند الحنفية والشافعية والحنابلة في طعام البهائم.
بنية الأسواق وأنواعها:
يقصد بالسوق، الاتصال الذي يقوم بين البائع والمشتري وليس من المحتم في عصرنا هذا أن يكون للسوق مكان محددة، أو زمان معين، فمجرد قيام الاتصال بين البائع والمشتري (عبر وسائل الاتصال أو عبر نشاطات الوسطاء) وسيادة هذا النوع من الاتصال أو ذلك يَعْقِد السوق.
سوق المنافسة الحرة:
الأصل في السوق أن تقوم على منافسة العارضين الحرة الكاملة فيما بينهم التي تضمن حرية المبادلات التجارية، وبالتالي حرية إنتاج السلع. وفي هذا النوع من الأسواق لا يمكن قيام تفاهم واتفاق بين المتزاحمين، وينتج من ذلك عدم جواز حصول جزء من العارضين على أرباح تجارية زائدة_ من دون بقيتهم _ ويرى المدافعون عن هذا النموذج من الأسواق أنه يؤمن التنظيم العفوي للاقتصاد في ظل وفرة كبيرة من السلع تتناسب وإمكانات استيعاب السوق، بحيث تنخفض الأسعار والأرباح ويختفي العارضون الهامشيون ويصبح الطلب هو السيد المطلق في السوق. ويمكن أن تعمل المزاحمة الحرة على تحقيق الانتقاء بين المؤسسات والأسعار في مستويات متقاربة في كل فروع الإنتاج.
ولقيام سوق منافسة كاملة أركان وشروط معينة هي:
كثرة عدد البائعين والمشترين: ويعني هذا عدم تأثر العرض الكلي أو الطلب الكلي نتيجة لدخول بائع فرد إلى السوق أو خروجه منه، أو تغير حجم إنتاجه، وبالتالي عدم تأثر الثمن بحركة البائع الآنفة الذكر.
حرية دخول السوق والخروج منه وانعدام وجود اتفاق بين أطرافه: وهذا يعني عدم قيام حواجز أو موانع في وجه البائعين أو المشترين تحول بينهم وبين دخول السوق والخروج منه بحرية مطلقة سواء أكان القيد يقع على الاستهلاك أم على الإنتاج، أم كان منصباً على حجم المعروض والمطلوب منه، ويعني من جهة أخرى عدم جواز قيام اتفاق بين المشترين أو بين البائعين على اتباع سياسة معينة كتحديد الأسواق أو الأثمان أو توزيع الأرباح ويتطلب هذا حرية انتقال عوامل الإنتاج بين مختلف فروع الإنتاج.
التجانس المطلق بين وحدات السلعة: ويعني هذا قدرة وحدة ما من وحدات السلعة على أن تحل محل أية وحدة أخرى في تقديم الإشباع نفسه للحاجة نفسها، وذلك من وجهة نظر المستهلك، ويفترض، في حالة المنافسة الحرة الكاملة أن العارضين يعملون في أماكن متقاربة حتى تنعدم نفقات النقل.
العلم: ويعني معرفة البائع والمشتري المسبقة بظروف السوق، وبالشروط الأخرى الخاصة بالبيع والشراء،وبالتالي بالثمن السائد فيه.
سوق الاحتكار: إن سوق الاحتكار الكامل هو نقيض سوق المنافسة الكاملة، وهو نموذج يعقد بمعزل عن شروط انعقاد المنافسة الكاملة الآنفة الذكر.
ولما كان تحقق الشروط الأربعة المذكورة لقيام سوق المنافسة الحرة الكاملة تحققاً كاملاً حالة افتراضية يصعب تحققها في الواقع العملي فإن أمر انتفاء وجودها وتحقق الاحتكار الكامل هو أمرٌ افتراضي أيضاً. والحال إن الأسواق الواقعية هي حالات أو نماذج تقع بين الحدين السابقين:
حد المنافسة الكاملة وحد الاحتكار الكامل. ويمكن إجمالها تحت عنوان المنافسة غير الكاملة، أو المنافسة الاحتكارية.
تُعقد سوق المنافسة الاحتكارية في كل مرة ينعدم فيها شرط تجانس السلعة مع وفرة البائعين والمشترين، وعلى هذا فإن المنافسة الاحتكارية تقع في مركز وسط بين الاحتكار والمنافسة الكاملة.
والمقصود بعدم تجانس السلعة اختلاف السلعة موضوع البحث في ذهن المستهلك عن السلع الأخرى التي يعرضها الآخرون. والمنتجات المعروفة ليست متجانسة كما هو الحال في سوق المنافسة الكاملة، ولا هي بديلات بعيدة بعضها عن بعض كما في سوق الاحتكار. وهذا يعني وجود محتكرين متعددين يتنافس كل منهم مع الآخرين، ولا ينتج هؤلاء سلعاً تختلف فيما بينها اختلافاً كاملاً. والتباين بين هذه السلع في الحدود المذكورة يعود إلى بعض الشروط المتعلقة بالتصنيف والتنويع: العبوات والعلامات التجارية والشكل الخارجي وتغيرات طفيفة في التكوين الطبيعي للسلعة.
وقد يعزى عدم تجانس السلعة من وجهة نظر المستهلك إلى عاملين:
الأول: هو صفات البائع الشخصية وطريقة معاملته للزبائن وأمانته وقرابته مع المشترين وأسلوب مقاربته لهم وطريقة عرضه للسلعة وقدرته على إقناع المشترين.
والثاني: هو الصفات الموضوعية للسلعة، سواء كان ذلك فيما تحمله السلعة من بعض الفروق التي ذكرت آنفاَ، أم ما يمكن أن يحدثه البائع من فروق بين سلع متشابهة في ذهن المشتري، وأخيراً ما يمكن أن تؤدي إليه الدعاية أو الإعلان من فروق أيضاً في ذهن المشتري. إن ارتفاع الثمن في المنافسة الاحتكارية، عن النفقة المتوسطة يؤدي إلى ربح غير عادي، ويؤدي أيضاً إلى دخول مشاريع جديدة تنتج سلعاً متقاربة من سلعة المشروع الأول، مما يدفع المشتري إلى الانصراف عن سلع المشروع الأول، وإلى انخفاض الطلب على منتجاته وبالتدريج يقترب الثمن من النفقة المتوسطة، ويختفي الربح غير العادي، وتتوقف المشروعات الجديدة عن الدخول أو الإقبال على الاستثمار في مثل هذه الفروع الإنتاجية، وينتج عن ذلك أن هذا التوازن المفترض الذي يمكن أن يتم في سوق المنافسة الاحتكارية يترافق مع تبذير في الطاقة الإنتاجية، إذا ما أخذنا بالحسبان ظروف السوق العامة، التي تمنع المنتجين من الوصول إلى حدود النفقات المتناقصة، وهذا يعني وجود فائض غير مستغل من الطاقة الإنتاجية. ومن جهة أخرى فإن نفقات الدعاية والإعلان، ونفقات البيع إضافة إلى النفقة المتوسطة تجعل الثمن في سوق المنافسة الاحتكارية أعلى من مثيله السائد في سوق المنافسة الحرة. وأخيراً فإن ارتفاع الثمن في هذه السوق يخفض من الكمية الكلية التي يحصل عليها المستهلكون في سوق المنافسة الحرة، والتوازن هنا مقترن بالتقصير عن حاجة المستهلكين.
احتكار القلة: إن أشكال السوق في نموذج المنافسة الاحتكارية، تلك التي تقع بين حدي السوق، المنافسة الحرة الكاملة والاحتكار الخالص، كثيرة. ومن الأشكال المهمة السائدة في سوق المنافسة الاحتكارية احتكار القلة oligopoly وهي أضيق أنواع المنافسة الاحتكارية.
واحتكار القلة سوق تحوي عدداً صغيراً من المنتجين قد لا يتجاوز في بعض الحالات اثنين وتدعى سوق الاحتكار الثنائيduopoly. إن مشاكل سوق احتكار القلة تختلف اختلافاً واضحاً عن مشاكل أسواق المنافسة الحرة الكاملة والمنافسة الاحتكارية وسوق الاحتكار الخالص.
ففي الاحتكار الثنائي، سواء كانت السلعة مصنفة أم متنوعة أم متشابهة، يضطر المنتج الفرد إلى أن يأخذ بالحسبان الآثار غير المباشرة التي تترتب على اتخاذ قرار تغيير الثمن أو الإنتاج، فأي قرار سيتخذه المنتج أو العارض الأول سيلقى رد فعل مباشراً من المنتج الثاني، وسينعكس قراره على حالة العارض الأول. إذ إن منحنيات إيراد المنتج، في حالتي المنافسة الكاملة والاحتكار الكامل وتكلفته هي مستقلة تماما ًعن تصرفات العارض في حالة السلع غير المصنفة. والحال إن تحديد كل من حجم الإنتاج وتكلفته في احتكار القلة لا يعرف إجابة واحدة أو حلاً محدداً، بل هو خاضع لافتراضات كثيرة تمليها قرارات الطرفين، وردود الفعل المحتملة في كل مرة يَتَّخذ فيها أحدهما قرارا ًمتعلقاً بحجم إنتاجه. وبالتالي فإن على كل من المتنافسين أن يدرك_ حين اتخاذه قراراته_ أن له غريماً منافساً.
إن سيادة ثمن واحد (مع تشابه السلع وتساوي كلفة الإنتاج) في حالة الاحتكار الثنائي يمكن أن يتم نتيجة لاتفاق فعلي أو ضمني بين الطرفين، أو نتيجة لقرار يتخذه كل منهما بمعزل عن منافسه. ومن الواضح أنه لن يكون من مصلحة المتنافسين والمحتكريْن أن يحددا ثمناً يختلف عن الثمن الذي يعرضه المحتكر الفرد، وهو الثمن الذي يحقق أقصى ربح ممكن، ومن ثم فإن الأرباح المشتركة لهما ستكون في ذروتها، وإلا فإن أحدهما سيقضي على الآخر بآلية رفع الأثمان وخفضها ومن دون اتفاق. هذا الأمر نتيجة طبيعية لحرب الأسعار التي يثيرانها في ظل شروط معينة.
أما في حالة احتكار القلة في سوق تعرض فيها منتجات مصنفة أو متنوعة فإن الاتفاق الاحتكاري قد يكون أصعب منه في حالة السلع غير المصنفة أو المتنوعة، كما أن الوصول إلى اتفاق حول سياسة سعرية معينة سيكون صعباً أيضاً، إذ إِن لكل مؤسسة سلعها ومواصفاتها التي تحملها، ولها أيضاً زبائنها الذين تحرص على الإنتاج لهم، ولن يكون قرار رفع الثمن من قبل أحد العارضين سبباً في دخول حرب سعرية بين العارضين أو المنتجين (كما في الحالة الأولى)، وذلك بسبب اختلاف السلع بوجه أو بآخر، وبالتالي فإن اقتسام السوق بالتساوي بين العارضين كما في الحالة الأولى فرض بعيد الاحتمال في هذه الحالة. أما إذا قرر المنتجون الخروج من هذه الفروض والدخول في حرب الأسعار فإن النتائج ستكون قاتلة لبعض المنتجين أو ستكون سبباً في إزالة الأرباح غير العادية ثم في إقصاء مجموعة من المنتجين الذين لم يستطيعوا الصمود في حرب كهذه، ويكون التوازن في السوق مشابهاً للتوازن في سوق المنافسة الاحتكارية.
الاحتكار الكامل: يقصد بالاحتكار الكامل أو الخالص انفراد مشروع واحد أو عارض واحد بعرض سلعة ما ليس لها بديل، وهذا يعني أن هذا العارض لايصطدم بأية منافسة في السوق لا من مشروع ينتج السلعة نفسها ولا من مشروع ينتج سلعاً بديلة. وعلى ذلك فإن شرط الاحتكار الكامل هو اختفاء المنافسة تماماً من السوق، وانفراد منتج فرد أو عارض وحيد بإنتاج سلعة ليس لها بديل أو عرضها.
ويتحقق الاحتكار الكامل عندما يبلغ المنتج من القوة درجة كبيرة تمكنه من الحصول على جميع دخول المستهلكين مهما كان حجم إنتاجه، أو بتعبير آخر عندما يصل إلى درجة تمكنه من أن يرفع الثمن إلى المستوى الذي يحصل معه على كل دخول المستهلكين. وهذا يعني أن المحتكر لا يستطيع أن يحصل على أكثر من هذه الدخول في أحسن الحالات.
ويتم ذلك حينما يكون الإيراد الكلي للمشروع ثابتاً عند أي ثمن، أي حينما تكون درجة مرونة منحنى الطلب (منحنى الإيراد المتوسط) واحداً صحيحاً. وما دام المنتج في حالة الاحتكار الكامل فإنه يستطيع أن يحصل على إيراد كلي وثابت (وهو دخول المستهلكين جميعاً). وبغض النظر عن مستوى الإنتاج فإن ربحه يبلغ أقصاه - وهو ما يسعى إلى تحقيقه - حينما تكون النفقات الكلية عند أدنى حد ممكن، ولذلك فإنه يسعى، تحقيقاً لهذا الغرض، إلى خفض الإنتاج إلى أدنى درجة ممكنة - ولو إلى وحدة واحدة - وإلى رفع الثمن إلى أقصى مستوى ممكن،وهذا يعني أن المنتج أو العارض يستطيع أن يحصل في حالة الاحتكار الكامل على جميع دخول المستهلكين.
ولا يعدو الاحتكار الكامل، بالمعنى الذي سبق، والذي ينصرف إلى انعدام المنافسة انعداماً تاماً، أن يكون أكثر من حالة افتراضية، إذ لا يمكن وجود محتكر لا يقابل أية منافسة له، ذلك أن السلع تتنافس فيما بينها، ولا توجد سلعة لا بديل لها.
الاحتكار البسيط: ينصرف الاحتكار البسيط إلى انفراد منتج أو عارض واحد بعرض سلعة لها بديل قريب، مما يعني أن المحتكر الموجود في الواقع يقابل منافسة من السلع الأخرى البديلة لسلعته. ويمكن أن يعرَّف المحتكر بأنه المنتج الوحيد لسلعة ليس لها بديل قريب. ومن هنا يتضح الفرق بين الاحتكار الكامل إذ لا يقابل المحتكر فيه أية منافسة، والاحتكار البسيط إذ يقابل العارض منافسة غير شديدة. أما الإيراد فإن وضعه يختلف في هذه الحالة عن وضعه في حالة المنافسة الكاملة نتيجةً لاختلاف سلطة المنتج أو العارض الفرد عن سلطته في السوق الأخيرة. ذلك أن المحتكر يملك سلطة مجموع المنتجين في حالة المنافسة الكاملة.
سلوك الاحتكارات:
يتبين مما سبق أن من الممكن القول إن الاحتكارات العارضة تستطيع وحدها تحديد كمية ما تعرضه من السلع التي تنتجها، الأمر الذي يضمن لها سلطة تحديد الكمية المعروضة للبيع وسلطة تحديد الثمن. على أن سيطرة الاحتكار على كل عناصر السوق ليست كاملة، فهو يسيطر على العرض، ويمكنه أن يؤثر بذلك في الثمن، ولكنه لا يسيطر على الطلب وعلى هذا فإنه لا يستطيع أن يحدد الكمية المبيعة والثمن معاً، بسبب عدم سيطرته على الطلب:
فهو إما أن يحدد الكمية المبيعة وفي هذه الحالة يترك تحديد الثمن للطلب، وإما أن يحدد الثمن وفي هذه الحالة يترك تحديد الكمية المبيعة للمشترين. فإذا اختار تحديد الثمن مثلاً عليه أن يضع في حسابه مرونة الطلب ودرجته، فهو قيد على سلطة المحتكر، في تحديد الثمن، إذ أن شدة مرونة الطلب تعني عدم استجابته لرفع الثمن، بل قد يكون في مصلحة العارض خفض الثمن لكي يرتفع الطلب بنسبة كبيرة، والعكس في حال ما إذا كان الطلب غير مرن.
ويمكن القول إن المنافسة الكاملة قد تؤدي إلى وحدة الثمن، إلا أن وحدة الثمن ليست ضرورية في حال الاحتكار إذ يمكن للمحتكر أن يلجأ إلى تعدد الأثمان للسلعة المعروضة نفسها في الوقت ذاته، ويبدو أن التباين بين أثمان السلع على وجوه كما يأتي:
التمييز في الأثمان تبعاً لفئات المستهلكين:
وذلك في السوق الواحدة، كأن يعمد إلى اقتضاء ثمن مرتفع للسلعة المخصصة للاستهلاك المباشر، وآخر منخفض على ثمن تلك التي تستخدم مادة أولية في الإنتاج.
ويستند في ذلك إلى درجة مرونة الطلب لكل فئة من فئات المستهلكين، كما يتوقف نجاح سلوكه هذا على قدرته على الفصل بين هذه الفئات، إذ لا تتمكن فئة اشترت منه بثمن منخفض من أن تنوب عنه وتبيع فئة أخرى بهامش ربحي.
ـ التمييز تبعاً للكميات المشتراة فيما يتعلق بالمستهلك الواحد: وذلك تبعاً للكمية التي يشتريها إذ يطلب الاحتكار ثمناً أعلى عن الوحدات الأولى حتى حد معين، وثمناً أقل عن الوحدات التالية.
ويفسر هذا التمييز فيما يتعلق بالمستهلك الواحد «بفائض المستهلك» أو ما يعرف أيضاً «بربح المستهلك» ذلك أن الوحدات السلعية الأولى تمثل للمستهلك منفعة أكبر من تلك التي تمثلها الوحدات التالية، كما ترى المدرسة النمسوية في المنفعة الهامشية ومؤسسها كارل منجر، وهو ما يعني أن المستهلك مستعد لأن يدفع في الوحدات الأولى ثمناً أعلى مما يدفعه في الوحدات التالية.
ـ التمييز في الثمن تبعاً لطبيعة السلعة: وذلك بإدخال تعديلات على بعض وحدات السلعة المحتكرة، كتقسيم خدمات النقل إلى درجات مختلفة وهذا التمييز منتشر في حقل الخدمات، وذلك لأن الخدمة أو السلعة المعروضة بثمن منخفض لا يمكن لشاريها أن يبيعها إلى مستهلك آخر بثمن مرتفع.
ـ التمييز في الثمن تبعاً للأسواق: يلجأ المحتكر إلى التمييز في الثمن من سوق إلى أخرى حينما يكون الطلب على سلعته مرناً، بسبب وجود سلع أخرى بديلة يمكن أن تحل محل سلعته، ويحدث هذا في حالة عرض المحتكر لبضاعته في سوق أجنبية،حيث يعمد إلى عرض بضاعته بثمن يقل عن ذلك الذي يتقاضاه في سوقه الوطنية [ر. الإغراق] على أن تكون في هذه السوق بضائع أخرى يمكن أن تحل محل سلعته. ويشترط لنجاح هذا الأسلوب أن تكون الأسواق منفصلة بعضها عن بعض، وهو ما يحدث عندما تكون تكاليف النقل والرسوم الجمركية لا تقل عن الفرق بين الثمنين في السوقين، حتى لا تعود السلعة إلى السوق الوطنية ويعاد بيعها بسعر مزاحم يكسر الاحتكار، ، أو عند وجود حظر على الاستيراد في السوق الوطنية.
التركز الاقتصادي والتطور الاقتصادي
يرى المعارضون للنظام الرأسمالي أن المشروعات الرأسمالية تميل نحو التركز أو التمركز concentration من دون توقف إِذ إِنها، لاستعدادها الضخم من حيث التقنيات ورأس المال، تستبعد صغار المنافسين وتسلبهم منافذهم، وكأن المنافسة طبقاً لرأي هؤلاء المعارضين تؤدي إلى الاحتكار. ويرى الرأسماليون أن من العسير على الكثيرين أن يفهموا من الأرقام المتاحة ما إِذا كان ذلك الاتجاه قائماً باستمرار أم لا. والواقع أن هناك نزعة واضحة في العالم الصناعي ترمي إلى إِيجاد نوع من التعاون بين المشروعات الاحتكارية الضخمة والمشروعات الصغيرة، وذلك في حقل تكليف الأولى الثانية تصنيع بعض القطع التبديلية أو أجزاء معينة من السلع النهائية، وذلك للاستفادة من مزايا التخصص التقني التي تتمتع بها بعض المشروعات الصغيرة إضافة إلى تخلصها من زيادة رأس المال الثابت ومفاجآت تغيرات الفن الإنتاجي.
وبغض النظر عن وجهتي النظر السابقتين فإن التركز الاقتصادي المستمر في المشروعات يعدّ مظهراً من مظاهر التقدم المادي والنمو الاقتصادي في المجتمع، سواء أكان ذلك في ظل نظام اقتصادي رأسمالي حر أم تدخلي مخطط، وذلك لما تحققه المشروعات الكبيرة - التي تنتهي عادة إلى حالة احتكار أو شبه احتكار - من مميزات اصطلح على تسميتها بـ «الوفورات الداخلية» ، تلك الوفورات التي تعود بأصلها إلى الموارد الخاصة بالمشروع أو إِلى تنظيمه ومقدرته الإدارية والفنية، علماً بأن حركة التركز الاقتصادي في التجارة قد ظهرت متأخرة عنها في الصناعة. وتمثل المشروعات الضخمة الاحتكارية مركزاً مفصلياً في دول العالم المتقدم صناعياً، علماً بأن نمو المشروعات ووصولها إلى الحجوم السائدة في عالمنا هذا قد سار ضمن اتجاهين: اتساع حجم المشروع القائم وزيادة عدد منشآت المشروع.
ومن الممكن أن يتخذ التحول إلى المشروع الكبير شكل التركز الأفقي أو الرأسي. ويعني التركز الأفقي نماء نشاط المشروع في نوعه الإنتاجي نفسه، وذلك بزيادة عدد عماله أو رأس ماله من دون أن يغير نوع نشاطه الذي يمارسه.
أما التركز الرأسي فهو قيام المشروع بإنجاز عمليات إنتاجية متكاملة، بمعنى أن تستخدم منتجات كل فرع فيه مادةً أولية في الفرع الذي يليه من المشروع نفسه.
ولفهم علاقة التركز الاقتصادي بالتطور الاقتصادي فإنه لا بد من دراسة مزايا المشروعات الضخمة الاحتكارية أو شبه الاحتكارية.
إن من الممكن القول، في ميدان الوفورات الداخلية إِن زيادة جميع عوامل الإِنتاج تؤدي إلى تزايد الناتج الكلي وكثيراً ما يتجه هذا التزايد نحو الارتفاع سعياً وراء التوسع وللإفادة من مزايا المشروع الكبير. ويفترض في أثناء عرض مزايا المشروع الكبير ثبات مستوى الفن الإِنتاجي (التقنية الإِنتاجية) السائد في الاقتصاد القومي، إذ إِن المعالجة تنصب على آثار توسع المشروع الكبير على استيعاب أحدث التقنيات المحلية والعالمية. وتبدو الزيادة الإنتاجية في الجوانب الأربعة التالية:
الأول هو ارتفاع إِنتاجية عامل الإِنتاج المتزايد: ترتفع إِنتاجية بعض عوامل الإِنتاج إلى حد ما بزيادة عدد الوحدات المستخدمة من هذه العوامل، وذلك لأن زيادة هذه الوحدات تؤدي إلى الإفادة من نفقة عوامل الإِنتاج (وهذا هو مضمون ظاهرة الغلة المتزايدة) وتترجم هذه الظاهرة بانخفاض نفقة الإِنتاج.
والثاني هو الوفورات الفنية: وتتمثل في الإفادة من الفن الإِنتاجي المتقدم، وذلك أن اتساع مشروع يؤدي، مع افتراض ثبات مستوى الفن الإِنتاجي إِلى الأخذ بمعطيات هذا الفن القائم في الإنتاج. ففي حالة المشروع الكبير يمكن لهذا النمط أن يأخذ بتقسيم العمل وبالتنظيم العملي على نطاق واسع، وأن يستخدم متخصصين من مستوى رفيع، وأن يحصل على أحدث أنواع التقنية وأن يستوعبها، وأن يوفر لهذه التقنيات إِمكانات الاستخدام المستمر، على عكس المشروعات الصغيرة التي لا تستطيع الحصول عليها أو لا تستطيع تشغيلها تشغيلاً مستمراً. ويمكن أن يضاف إِلى ذلك قدرة المشروع الكبير على تخصيص مبالغ مهمة للبحث العلمي، بغية الوصول إلى مكتشفات علمية جديدة أو تطوير ما بين يديه، وإِدخالها في دورته الإِنتاجية.
والثالث هو الوفورات الإنتاجية: يمكن للمشروع الكبير أن يحقق وفورات كبيرة في أثمان عوامل الإِنتاج التي يشتريها بسبب ضخامة استجراراته، مستفيداً من أثمان الجملة، ويمكنه أيضاً أن ينقل بضائعه بتعرفات مخفضة ويتمتع بقدرة ملحوظة على مساومة البائعين بنسبة ضخامة مشترياته،كما يمكن أن يصل إلى حد تمتعه بمركز محتكر الشراء وبذلك تتاح له فرصة سعر الشراء الملائم له.
ومن جهة أخرى يحقق المشروع الكبير في غالب الأحوال مبيعات كبيرة بسبب قدرته على الانتشار في الأسواق بالدعاية والإِعلام، علماً بأن نفقاتهما لا تزداد بزيادة رقم المبيعات، وقد تصل في حالات أخرى إِلى مرحلة التأثير المطلق أو شبه المطلق في السوق كما في حالة الاحتكار.
يضاف إِلى هذا كله قدرة المشروع الكبير على الشراء من أسواق متعددة (حرية الاختيار) والبيع في أسواق متعددة. ويؤدي تنوع مصادر الشراء والمنافذ إلى تقليل المخاطر، علماً بأن الطابع الاحتكاري السائد في عالمنا المعاصر في أسواق البيع والشراء بدرجة أو بأخرى يقلل إلى حد بعيد من شأن هذه الميزة، وأخيراً يمكن للمشروع الكبير أن يعمد إلى سياسة البيع بأثمان منخفضة لتحقيق أرقام كبيرة في المبيعات.
أما الرابع فهو الوفورات المالية: يتمتع المشروع الكبير بثقة أطراف السوق سواء كانوا أفراداً أم مؤسسات، ويوفر له هذا فرصاً سهلة لإيجاد مقرضين له أو قروضاً بأسعار فائدة مخفضة، كما تقدم الحكومات الدعم للمشروعات الكبيرة وذلك بأشكال كثيرة سواء كان العون مباشراً أم ضماناً أم معونات تصدير أم تعويضاً.
وتسمح حجوم هذه المشروعات وقدرتها الإنتاجية والمالية بتغطية فعاليتها وتقلبات السوق بعقود تأمين مناسبة تقيها شر المخاطر، وتؤمن هذه العقود من جهة أخرى القدرة على تخفيض احتياطاتها إلى حدود دنيا تبعدها عن تفضيل السيولة لمواجهة الطوارئ.
تحتاج المشروعات الكبيرة حتى تصل إلى حجوم تتمتع بالميزات المذكورة إلى طاقة تركيز اقتصادي عالية، علماً بأنها تحاول التغلب على الصعوبات الناتجة عن حجومها الكبيرة في تقسيم هذه الحجوم إلى منشآت شبه مستقلة، مرتبطة فيما بينها بمركز تنسيق موحد، يدير مجموعة المنشآت طبقاً لاستراتيجية عمل موحدة مقسمة لآجال محدودة وإدارة المشروع الكبير تستعين في عصرنا بأحدث التقنيات الإدارية سواء على صعيد تأهيل العنصر البشري الإداري أو العامل، أو على صعيد استخدام الحواسيب المركزية التي تتناسب وحجومها وفعالياتها. إن هذه الحجوم تترافق وأعلى درجات الاحتكار، وتعمل ضمن صراع أو اتفاق فيما بينها، إلا أنها تسهم في دفع عجلة الاقتصاد الكلي في الدول،وكذلك تعمل على صعيد معطيات الثورة التقنية في العالم، بغض النظر عن طابع النظام السياسي الاقتصادي الذي تعمل في ظله.
أنواع الاحتكار:
يأخذ الاحتكار في العصر الحاضر عدة أشكال أو أنواع تتناولها الفقرات الآتية:
التروست: يعود تعبير التروست Trust في أصله القانوني إلى استعماله لدى رجال القانون الأنكلوسكسون في الحديث عن النظام الذي يدير بمقتضاه شخص موضع ثقة أموالاً لحساب غيره. أما الاستعمال الاقتصادي لهذا الاصطلاح فيعبر عن نوع من الاتحاد الاحتكاري يبدو في اندماج مشروعات بهدف تكوين مشروع واحد كبير، وذلك بغرض تحقيق حالة احتكارية أو شبه احتكارية، أو بغرض تخفيض النفقات، ورفع معدلات الأرباح. ويأخذ الاندماج عدة أشكال قانونية على الوجه التالي:
ـ ابتلاع مشروع مشروعاً آخر.
ـ انحلال عدة من الشركات بهدف تكوين شركة جديدة، على أن يمنح المساهمون القدماء أسهماً في الشركة الجديدة تعادل ما كان لهم من ملكية في شركاتهم القديمة. ويلاحظ أن هذه العملية (الانحلال والاندماج) تحمل الشركات نفقات باهظة. لذلك تعمد المشاريع التي تود إنجاز مثل هذا الاندماج إلى أسلوب الشركة القابضة holding .
ـ الشركة القابضة هي مؤسسة أو مشروع مشارك في مؤسسة أو في عدة مؤسسات إنتاجية بحيازة أسهم هذه المؤسسات بما يتيح لها الحق في مراقبة إدارتها مالياً وإنتاجياً وتجارياً وهي بوجه عام أحد الأشكال الأكثر انتشاراً في بلدان عديدة من أجل الوصول إلى وضع احتكاري أو شبه احتكاري. والشركة القابضة من جهة ثانية تتكون أصولها أو معظم أصولها من أسهم شركات أخرى مستقلة صورياً.
ـ ويمكن التفريق بين التروست الأفقي الناتج من اتحاد شركات فرع صناعي واحد، والتروست العمودي وهو الشكل الذي يقوم بين مشروعات تؤلف سلسلة متكاملة ويكوّن منْتَج كل واحد منها مادة أولية أو مساهمة رئيسية في منتج المشروع الذي يليه، والتروست في هذه الحالة إما أن يكون تجمعاً متبايناً ينتج مواد أولية ويدير مؤسسات صناعية تستخدمها، ثم ينتج منتجات نهائية وشبه نهائية وإما أن يكون متجانساً يتألف من تجمع شركات تنتج مواد أولية ومنتجات شبه نهائية، تسهم كلها في إخراج منتج نهائي واحد.
ويغلب أن تحتفظ الشركات المندمجة بشخصيتها القانونية وتبقى مستقلة من حيث الشكل إلا أنها تفقد في الواقع استقلالها الاقتصادي لتكون مشروعاً واحداً.
الكارتل: نشأ الكارتل Cartel أو اتحاد المنتجين في ألمانية أول مرة في عام 1862 حينما تأسس كارتل الحديد الأبيض، وفي عام 1906 وصل عدد هذا النوع من الاندماج الاحتكاري إلى 385 تضم 12000 مؤسسة.
والكارتل اتفاق بين عدد من المشروعات التي تنتمي إلى فرع معين من فروع الإنتاج يكون الهدف منه الحد من المنافسة فيما بينها أو منع قيام المنافسة وفي غير موضوع الاتفاق يحتفظ كل من المشروعات باستقلاله الاقتصادي والمالي والفني. وهذا يعني أن السوق تواجه عدة مشروعات، ولا تواجه مشروعاً واحداً كما في حالة التروست. والكارتل والحالة هذه، هو اتحاد تجاري مهتم باقتسام الأسواق فيما بين الأطراف المتعاقدة، أو بتحديد أسعار معينة للبيع، أو بتحديد حصص الإنتاج. ولا تعني السوق في هذه الحالة السوق الوطنية فقط، فقد تكون سوقاً قاريّة أو عالمية. ويقوم الكارتل، أخيراً بتوزيع الأرباح بعد أن تقوم الهيئة العليا بجمع أرباح المشروعات المنضمة، وبإعادة توزيعها على أساس النسب المتفق عليها.
ويشترط لنجاح الكارتل، في النظام الاقتصادي الرأسمالي شروط عدة أهمها:
ـ التزام الأطراف المتعاقدة نصوص العقد التزاماً مطلقاً.
ـ انضمام أغلب المنتجين إلى اتفاق الكارتل،وذلك لتشكيل القوة اللازمة لتنفيذ الاتفاق في السوق.
ـ قلة عد المشروعات التي تقوم بالإنتاج في الفرع الذي يراد إقامة الكارتل فيه لتكون عملية الاتفاق سهلة.
ـ تقارب درجة كفاية المشروعات الفنية التي تندمج في الكارتل وذلك في الغالب من الأحوال.
الكونسورتيوم (اتحاد شركات):
الكونسورتيوم Consortiom أو اتحاد الشركات هو تجمع يضم شركات كبيرة يقوم لمواجهة طلب كبير يفوق قدرة كل واحدة منها على حدة. ويمكن أن يكون اتفاقاً مؤقتاً أو اتفاقاً منصباً على طلب معين لمصلحة جهة حكومية أو خارجية. كما يمكن أن يكون اتفاقاًً دائماً في حالات تكتل المصدرين أو المستوردين،وهو شكل حديث من حيث الانتشار أو كثافة الفعالية وحجمها. وفي هذه الحال يحتل اتحاد الشركات مركزاً مسيطراً على أقنية العرض في حالة الطلب الخاص (أي الاتفاق المؤقت) ومركزاً مشابهاً إن لم يكن مطابقاً لهذا في الحالة الثانية (أي تجارة الاستيراد والتصدير التي تحاول أن تواجه الصراع على الأسواق، فإن هذا النوع من الاتحادات يعمل بفعالية عالية ويفلح في معظم الأحيان في السيطرة على العرض في السوق الرأسمالية وذلك في الحالتين المذكورتين.
المجموعة المالية: إن كثافة التركز الاقتصادي لرأس المال الصناعي، في القطاع المصرفي وفي فروع اقتصادية أخرى، وتطور الاحتكارات الصناعية والمصرفية، والدمج بين رأس المال الصناعي والمصرفي، إن كل ذلك أدى إلى ولادة نموذج جديد من التمركز عرف بالمجموعة المالية أو مجموعة رأس المال المالي. ويتميز هذا النموذج من سابقيه في أن فعالياته الاقتصادية متسعة جداً وتصيب مجمل الفروع الاقتصادية في الاقتصاد الوطني، بل كثيراً من المجالات الحيوية الاجتماعية السياسية في الدولة. وفي الوقت نفسه فإن تركيب هذه المجموعات يتمتع بقدرة عالية على الحركة واللامحدودية والقدرة هذه خاصة استراتيجية تتطلبها بنيته أولاً، وأهدافه البعيدة ثانياً.
ففي النظام الاقتصادي الرأسمالي، ولاسيما في أوربة الغربية وأمريكة الشمالية تقع مجاميع كبيرة من الشركات المنتجة في دائرة نفوذ المجموعات المالية، وتقوم الشركات الكبيرة جداً بدور مراكز القرارات المهمة للشركات المنضمة، وذلك فيما يخص القضايا التي تقع خارج النشاطات اليومية الجارية لها.
وتقوم المجموعة المالية بمراقبة عدد من المؤسسات المنتجة التي تسيطر عليها وتدفع بقدرتها باستمرار حتى إنها تخرج في كثير من الأحيان من السوق الوطنية إلى السوق الدولية.
وترتبط المجموعات المالية الرئيسية بروابط قوية جداً تعمل على تنسيق النشاطات والفعاليات الاقتصادية والسياسية فيما بينها. وتُهمل المجموعات المالية الرئيسية الإطار الجغرافي لحقل نشاطاتها ويزداد انفصالها عن المصالح الوطنية العليا للدولة الأم وتتجه نحو النظر إلى العالم وحدةً اقتصادية واحدة تمارس فيها فعالياتها.
وتتشكل المجموعات المالية في غالب الأحيان بالسبل التالية: تبادل الشركات الأسهم فيما بينها،وإعادة تعيين أشخاص كانوا معينين من قبل أعضاء في إدارة أكثر من شركة، الاتفاق فيما بينها وهو اتفاق يختلف عن الاتفاق في حالة الكارتل.
الاحتكارات الدولية والسيطرة الاقتصادية
في الثلث الأخير من القرن العشرين تنامى دور الاحتكارات الدولية في الاقتصاد العالمي وفي السياسة العالمية أيضاً، وقد شمل تأثيرها جميع مجالات الاقتصاد الرأسمالي العالمي من دون استثناء، وقد بلغ الصراع العالمي بين الاحتكارات العملاقة حداً لم تعرفه من قبل، ومن الملاحظ أن هذا الصراع قد ترافق مع بروز اتجاه متزايد نحو التعاون والتشاور بين احتكارات دول مختلفة.
إن الثورة التقنية العلمية وتنامي تدويل العلاقات الاقتصادية الدولية وتكثيف التمركز العالمي في الإنتاج ورأس المال، وتقليص رقعة السيطرة الإقليمية للاستعمار بتأثير حركة التحرر القومي الجارية في العالم وتخطي الحدود الوطنية من قبل الرأسمالية الاحتكارية الدولية، كل هذا لا يتطلب تكون احتكارات عالمية وتعزيز دورها في العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية فحسب،وإنما يتطلب كذلك تنويعاً في نشاطات هذه الاحتكارات وتعقيداً أكبر وأشكالاً جديدة، وطرائق أحدث من تلك التي سادت في حقبة «الاحتكارات الكلاسيكية» .
لقد أدت الاحتكارات الكلاسيكية الدور الرئيسي في الصراع على مناطق النفوذ وأسواق التصريف في بداية القرن العشرين، (التروستات العالمية، وكذلك الكونسرتات، والكارتلات) وتعدّ التروستات والكونسرتات، من الأشكال الأقل انتشاراً بالنسبة للاتحادات الدولية، إذ يجب تفريقها عن الاحتكارات الوطنية التي لها نشاطات خارجية. أما التروستات والكونسرتات الضخمة التابعة لدول رأسمالية كبرى، فإن سيطرتها تغطي أيضاً جزءاً لا يستهان به من النشاط الاقتصادي في دول كبيرة.
وعلى ذلك فإن التفريق بين الاحتكار الوطني أو الدولي يتوقف على مدى سيطرة أقطاب المال على قيادة هذا الاحتكار أو ذاك في بلد معين وتوجيهه، ويمكن تسمية احتكار ما احتكاراً عالمياً أو متعدد الجنسيات عندما يسيطر على مقدراته رأسماليون من بلدين أو أكثر، ويلاحظ أن التروستات والكونسرتات ظهرت حتى الحرب العالمية الثانية من اندماج أو انصهار شركات بلد معين بمشروعات بلد آخر، أو عن طريق تأسيس شركات جديدة مشتركة من قبل احتكارات دول مختلفة. أما بعد الحرب فإنه يصعب القول إِن هذين الشكلين كانا أكثر انتشاراً. فلقد تغير مضمون اتفاقات الكارتلات اليوم تغيراً جذرياً إِذ حلت الشركات المتحدة محل الكارتلات الدولية التقليدية أو الكارتلات الغنية.
والشركات المتحدة إنما هي اتحادات من أنواع مختلفة يتم تنظيمها وفقاً لمنطلقات إنتاجية وعلمية وتقنية، وتنفذ في الوقت نفسه مهام الكارتل التقليدي. يرمي هذا النوع من الاحتكارات إلى تطوير المواصفات وتوحيد القطع والأجزاء التي تنتجها الشركات الأعضاء من بلدان مختلفة، وإلى تبادل المعلومات العلمية والتقنية والتجارية، وإلى تنسيق النشاطات التجارية الدولية لهذه الشركات كما تقوم بإجراءت تنظيمية تتعلق بالسياسات السعرية، مستخدمة الطرائق الكلاسيكية التي كانت تستخدمها الكارتلات الدولية على نحو واسع،وعن طريق شكل هذه الاتحادات(اتحاد الشركات العاملة في فرع معين ضمن الأهداف المنوه عنها) تقوم الاحتكارات القيادية بإخضاع المتوسطة والصغيرة المنتسبة للاتحاد لسيطرتها التامة. ويتم توجيه هذه الشركات إلى القيام بالتوريدات الثانوية، أو إلى التخصص بإنتاج أنواع القطع التبديلية أو بعض أجزاء السلعة النهائية، الأمر الذي يحكم ارتباطها بالاحتكارات القيادية إحكاماً أشد.
ويلاحظ أن اتحاد الشركات يعمل كشخص اعتباري مشهور تجارياً أو صناعياً إذ يتم تسجيله شركة مساهمة في غالب الأحوال وهنا يبرز فارق كبير بينه وبين الكارتل، إذ يتيح هذا الشكل القانوني لإدارة الاتحاد إكمال النظام وتعديله واتخاذ القرارات وفقاً لتقديراته الخاصة، ومن دون أخذ موافقة جميع المشاركين، على عكس ما هو الحال في الكارتل الذي تمنع اتفاقياته اتخاذ أي إجراء بصورة منفردة.وتملك اتحادات الشركات الوطنية المنضمة إلى اتحادات الفروع الدولية، وسائل ضخمة للتأثير في حكوماتها، فهي تمارس نفوذها الواسع في التدخل في التركيب الشخصي لمختلف اللجان الاقتصادية الحكومية العليا، وتشارك مشاركة مباشرة في إعداد مشاريع القوانين المتعلقة بالسياسة التجارية وحقوق براءات الاختراع والصنع والضرائب، وتعدّ اتحادات الشركات الدولية غالباً بمنزلة مكان حتمي للاتفاق بين الاتحادات الضخمة لفروع حول التعرفة الجمركية وغيرها من القضايا الاقتصادية، ويتم فيما بعد تنفيذ اتفاقاتها عن طريق الحكومات التي تساندها أو من قبل أجهزة قارية أو عالمية مثل الأسواق المشتركة.
ولهذا يمكن عدّ اتحادات الفروع الدولية، الشكل الحديث للتنظيم الاقتصادي الرامي إلى اقتسام العالم الرأسمالي، وهو أشمل وأرقى من شكل الكارتلات الدولية وفعاليتها. ومن جهة ثانية ينسجم هذا الشكل مع المرحلة الحالية لتطور رأسمالية الدولة الاحتكارية بسبب قدرته على السيطرة على القرار الحكومي واتساع رقعة فعالياته وكثافة التركز الرأسمالي فيه، وأخيراً استخدام أعلى القدرات التقنية والإدارية الحديثة.
وفي معرض معالجة الاحتكارات والاقتصاد العالمي لا بد من ذكر ما يمكن ذكره عن الاحتكارات الوطنية التي خرجت عن حدود وطنها الأم. فلقد اتسعت حركة خروجها هذه بعد الحرب العالمية الثانية اتساعاً كبيراً، وينطبق ذلك على الاحتكارات الأمريكية خاصة. لقد ساعدت قدرة هذه الاحتكارات، وانتشار بعض الليبرالية في التجارة الدولية وتخفيف القيود المفروضة على القطع، وزيادة حجم كتلة الأموال في أسواق العملات الأوربية لقد ساعد هذا كله على إيجاد الأسس الموضوعية لتطوير فعاليات الاحتكارات بهذا الاتجاه. علماً بأن هذه الظاهرة تعممت بعد ذلك فيما سُمي بالشركات «المتعددة الجنسيات» ولم تعد مقتصرة على الاحتكارات الأمريكية. إن حصة هذه الاحتكارات الوطنية في مجمل الاقتصاد العالمي الرأسمالي - على شكل استثمارات خارجية - في نمو مستمر،وإن كثيراً من الفروع الصناعية المتقدمة غدت تخضع لسيطرة هذه الاحتكارات (أوربة الغربية) وتختار هذه الاحتكارات «المتعددة الجنسيات» الفروع التي تتميز بالتقنية المتقدمة،عن طريق استخدام المبتكرات الجديدة، وتحقيق معامل مرتفع في النمو، وتنتشر هذه الشركات في دول العالم الثالث (في الصناعات الاستخراجية والملوثة) وتسهم في الخلل الكبير والواضح في معدلات التبادلات التجارية الدولية بين هذه الكتلة وتلك الشركات. وتتسع الفجوة السعرية بين منتجات هذه الشركات النهائية وأسعار المواد الأولية المسيطر على مكامنها في العالم الثالث من قبل الشركات المتعددة الجنسيات ويمكن القول إن مركز القرار الموحد للشركة المتعددة الجنسيات هو أحد مميزاتها الرئيسية، تلك الميزة التي تؤلف تهديداً خطيراً لبلدان العالم المضيفة لها. والحال إن مركز القرار المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالبنى والمصالح الاقتصادية وميزان مدفوعات الدولة الأم، لا يمكن أن ينطلق في قراراته إلا من ظروفه المحلية المذكورة المحيطة به، كما أن كثيراً من نشاطاتها لم يخضع ولا يمكن أن يخضع لضوابط قانونية دقيقة في البلدان المضيفة،ومن ذلك قدرتها على تغيير حجم الإنتاج وحقها في بناء منشآت إنتاجية جديدة،أو إغلاق بعضها،واختيار التخصصات الإنتاجية، واختيار الموردين والمشترين والأسواق وتحويل الأرباح.
وبصور عامة ترتكز قراراتها على قاعدة جني أكبر قدر ممكن من الأرباح في صراعها الخارجي، ولا تراعي تلك الشركات المصالح الوطنية العليا للدول المضيفة بصورة متناسبة ومتوازنة،وتتجاهل أيضاً إمكانات التشغيل أو حجم التجارة الخارجية واتجاهها وإسهاماتها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية لتلك الدول. لقد دفعت نشاطات الاحتكارات الدولية بكل أنواعها - كارتل - كونسرتيوم - تروست، اتحاد شركات وطنية،اتحاد شركات فروع، شركات متعددة الجنسيات...، الاقتصاد العالمي إلى حال من اللاتوازن واللاتكافؤ، سواء كان ذلك على صعيد تشديد وتيرة نمو معدلات الأرباح على مستوى الاقتصادات الوطنية، أو على مستوى الاقتصاد العالمي، أو على صعيد الخلل في معدلات التبادل الدولية.
إن نزعة الاحتكارات الرأسمالية الواضحة إلى النظر إلى العالم كله وحدةً جغرافية اقتصادية واحدة، وانتشارها على هذا الأساس، وقيام أشكال متعددة من التنسيق بين إداراتها، فيما يتعلق بالمواجهة مع المصالح الوطنية لدول العالم الثالث،أو باقتسام الأسواق أو تنظيم السعر العالمي. إن هذه النزعة لا يمكن أن تتحقق بمعزل عن الحماية الرسمية والدعم الحكومي لحكوماتها الأم.
رأسمالية الدولة الاحتكارية
إن رأسمالية الدولة الاحتكارية أعلى طور للرأسمالية في مرحلتها السائدة في البلدان الرأسمالية المتقدمة اقتصادياً. ولقد ظهرت رأسمالية الدولة الاحتكارية من خلال التطور الرأسمالي نتيجة للتناقض بين رأس المال والعمل من جهة، وبسبب تركز رأس المال وازدياد الطابع الاجتماعي لقوى الإنتاج من جهة أخرى.
ويمكن أن يضاف إلى ذلك الظروف التي رافقت الحربين العالميتين وقيام الدول الاشتراكية، ثم ما طرأ على النظام الرأسمالي القديم، وتنامي حركات التحرر القومي.
إن رأسمالية الدولة الاحتكارية هي نمط رأسمالي جديد تتحد فيه قوة الاحتكارات الرأسمالية الكبرى وقوة الدولة في فعاليات واحدة مشتركة، بهدف حماية المؤسسات الإمبريالية وتشديد وتيرة أرباحها. وبهذا يظهر شكل جديد من احتكار المجموعات المالية للسلطتين الاقتصادية والسياسية. وتقدم الدولة في هذه المرحلة إسهامات جدية ومهمة في عمليات تطور التراكم الرأسمالي وتركز رأس المال والإنتاج على كل الصعد ومنها الصعيد الدولي. كما ترتبط العلاقات السياسية والعقائدية بعلاقات الإنتاج السائدة وتخضع لها بوجه متزايد، وتزداد روابط الاقتصاد بالسياسة، ويصبح تدخل الدولة بالاقتصاد أكثر عمقاً وتتوطد العلاقات بين جهاز الدولة والمجموعات الاحتكارية.
وفي المراحل الأولى لبلورة هذا النمط الاحتكاري برزت الدولة ممثلاً للمصالح الاقتصادية المشتركة للطبقة الرأسمالية في السياسة الخارجية. ولأن الدولة هي التي ضمنت المصالح المشتركة للطبقة الرأسمالية في السياسة الخارجية. ولأن الدولة هي التي ضمنت المصالح المشتركة لبرجوازيتها في الصراع التنافسي في الأسواق العالمية، فقد تحملت نفقات حماية النشاط التجاري وغيره من نشاطات البرجوازية الوطنية في الدول الأخرى (السفارات والقنصليات). كما جعلت الدولة، في هذه الحقبة، من النشاط العسكري (نحو الخارج) وسيلة لحماية المصالح التجارية للأمة كلها ووسيلة للحفاظ على هيبتها. أما على الصعيد الداخلي فقد أصبح تدخل الدولة لحماية شكل الإنتاج السائد عن طريق التنظيمات القانونية للعلاقة بين العمل ورأس المال من أهم وظائف الدولة.
لقد أصبح التدخل في شؤون السوق من جانب الدولة أمراً ممكناً بعد دخول الرأسمالية مرحلة الاحتكار بسبب قلة عدد العاملين في السوق وسهولة التفاوض والاتفاق معهم.
وصدرت قوانين عديدة (قوانين منع الاحتكار مثلاً) توحي بأنها تعمل على حماية المستهلك، إلا أن المستثمرين الكبار التفوا عليها واستفادوا من قوانين أخرى دفعت بالتركز الرأسمالي إلى مراحل كبيرة (مثل قانون المشاركة المتعددة بأكثر من شركة) من دون أن يكون رصيد أموالهم مرتبطاً بواحدة منها (قانون دمج الشركات) وتقديم ضمانات الدولة لقروض الشركات (قانون دعم الشركات التي تعاني من صعوبات). إن الدولة، في مرحلة رأسمالية الدولة الاحتكارية، تتصرف كمالك لجزء من الدخل القومي الذي يدخل الخزينة العامة عن طريق فرض الضرائب وطريق الأوراق المالية والرقابة على الدورة النقدية، وإذا أضيف دور الدولة (كمقرض) في مجال التسليف يتبين أنها تمارس تأثيراً فعالاً في مجمل نظام علاقات الإنتاج في مجال الإنتاج والتوزيع والاستهلاك.
وثمة مثال يمكن ذكره هنا. فقد اتضحت، في حقبة الحرب العالمية الثانية وما بعدها محدودية قدرة حركة السوق على تنظيم الاقتصاد الرأسمالي بما يتناسب وظروف الحرب، وظهر أنه لم يكن على الدولة إقامة الصناعات العسكرية فقط، بل وَجَب عليها كذلك إدخال رقابة صارمة على توزيع مصادر الإنتاج المحدودة وظهر كذلك أنه كلما ازدادت عسكرة الاقتصاد اتسع إطار ملكية الدولة في المجال الاقتصادي، الأمر الذي ارتبط منذ البدء ارتباطاً مباشراً أو غير مباشر بإنتاج الأسلحة.


جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013