مناورات “مركبات النار” التي قام بها الجيش “الإسرائيلي” واستغرقت شهراً، أريدَ منها التدرّب على مواجهات عسكرية تتعلق بأكثر من جبهة، لا سيما منها، الجبهة اللبنانية المحاذية لفلسطين المحتلة، التي تشكل أهمية قصوى وتحدياً كبيراً ومباشراً للكيان الإسرائيلي”، عند اندلاع ايّة مواجهة عسكرية مباشرة معه.
مناورات “مركبات النار” العسكرية الأضخم منذ نشوء “الكيان”، من حيث نطاق عملياتها الميدانية، ورقعتها الجغرافية، ومجالاتها وتعدادها، وجهوزيتها. إذ أنّ هدف “إسرائيل” من هذه المناورات، هو تعزيز القدرات العسكرية غير المسبوقة لجيش الاحتلال، وإطلاق بروباغندا إعلامية في الداخل، للتأكيد على الجهوزية العسكرية، ورفع معنويات المستوطنين، من خلال تسليط الضوء على إمكانات وفعالية هذه المناورات في تحقيق أهدافها.
أما على الصعيد الخارجي، فتريد “إسرائيل” أيضاً من مناوراتها، توجيه رسائل إنذارات الى المعنيين من أعدائها في المنطقة، تحذرهم فيها، من مغبة القيام بأيّ عمل عسكري يطال “إسرائيل” ويلحق الضرر بها. وانّ عليهم أن يأخذوا في الاعتبار قوّتها الضاربة العسكرية، وان يضعوا في حسابهم هذا الأمر، أكان ذلك يتعلق بلبنان او سورية او إيران أو غيرها.
لقد خصص الجيش “الإسرائيلي” الأيام الأخيرة من مناوراته، لتقوم النخبة في الفرقة 98، والتي تضمّ لواء الكوموندوس، بإجراء تدريبات عسكرية في منطقة جغرافية في قبرص، تحاكي تضاريسها الجغرافية، التضاريس الطبيعية في جنوب لبنان الى حدّ ما…
لم تخف “إسرائيل” نياتها العدوانية تجاه لبنان، من خلال قيامها بهذه المناورات في قبرص، والتي دأبت على إجرائها منذ عام 2017، تأهباً واستعداداً لأيّ عدوان تقوم به وتشنّه على لبنان، حيث شاركت معها وحدات من الجيش القبرصي.
المناورات العسكرية “الإسرائيلية” التي جرت خلال السنوات الأخيرة في قبرص، ومؤخراً مناورات “مركبات النار”، تطرح علامات استفهام، وتساؤلات مقلقة عديدة، تتعلق بالدولة القبرصية، وبصورة خاصة بالحكومة اللبنانية، لأنّ لبنان هو المستهدف الأول، ومباشرة من هذه المناورات.
كيف يمكن للحكومة القبرصيّة أن تتيح الفرصة لـ “إسرائيل” بإجراء مناورات على أرضها، تحاكي علناً، عدواناً “إسرائيلياً” على لبنان، الذي تربطه بقبرص علاقات تاريخية، وروابط ثقافية وروحية، من خلال وجود عدة آلاف من الطائفة المارونية، الذين قدموا من لبنان وتجذروا في الجزيرة منذ القرن الثامن الميلادي، يمارسون شعائرهم الدينية من خلال كنائسهم المقامة في قبرص، وأبرزها كاتدرائية سيدة النعم المارونية في نيقوسيا، وإنْ كان عدد المواطنين قد تراجع عما كان عليه بسبب الفتن، والاضطرابات، والنزاعات السياسية والدينية التي شهدتها الجزيرة خلال القرون الماضية. أضف الى ذلك، العلاقات الدبلوماسية والتجارية، والسياحية التي تربط البلدين.
من البديهي والطبيعي، أن تكون هذه العلاقات في خدمة المصالح المشتركة للبلدين الجارين، كي تعزز التعاون المشترك، والثقة المتبادلة بينهما. مع الإشارة الى أنّ قبرص تعلم علم اليقين أنّ مناورات “إسرائيل” العسكرية على الأرض القبرصية، تستهدف بالدرجة الأولى لبنان وأمنه وسيادته واستقراره ووحدة أرضه، وهذا ما أكدته سلسلة من التصريحات التي جاءت على لسان المسؤولين، السياسيين، والقادة العسكريين “الإسرائيليين”، قبل المناورات وأثناءها. وما أشارت إليه يوم 23 أيار الماضي الصحيفة الإسرائيلية “يسرائيل هيوم” التي ذكرت انّ الجيش “الإسرائيلي” يزمع من خلال مناورات “مركبات النار”، على تنفيذ محاولات إنزال في عمق الأراضي اللبنانية عبر البحر، وان الجيش “الإسرائيلي” استأجر سفناً وقوارب إنزال من اليونان وإيطاليا لاستخدامها في المناورة!
إنّ سماح قبرص بجعل أرضها مسرحاً لمناورات عسكرية “إسرائيلية”، وميدان اختبار لعمليات عدوانية ضدّ لبنان، لا يعبّر مطلقاً عن المشاعر الطيبة، ولا عن روابط الصداقة بين البلدين، ولا عن الالتزام بالاتفاقيات الدولية، أو احترام الأصول والأعراف الدبلوماسية، ومبادئ الأمم المتحدة… وبالتالي فإنّ موقف قبرص هذا، ومشاركتها في المناورات “الإسرائيلية”، مستهجن وغير ودّي، إنْ لم نقل عملاً استفزازياً، عدائياً ضدّ لبنان.
من الواضح أنّ العلاقات “الإسرائيلية” القبرصية متقدّمة ومتنامية على مختلف الصعد، سياسياً، ودبلوماسياً وعسكرياً، واقتصادياً، واستخبارياً، وإعلامياً. لكن على الرغم من ذلك، ليس هناك من مانع بتاتاً، كي يكون لقبرص موقف واضح ومسؤول، يرفض استخدام “إسرائيل” الأراضي القبرصية للقيام بمناورات عسكرية ترمي من ورائها مستقبلاً، غزو لبنان، وكيفية السيطرة عليه، واحتلاله عند أيّة مواجهة مقبلة.
هذا ما يتعلق بالجانب القبرصي. فماذا عن لبنان؟! لقد تعاطى لبنان الرسمي مع الحدث، منذ سنوات بخفّة ولا مبالاة. وكأنّ ما يجري من مناورات عسكرية في قبرص لا يعنيه، ولا يتعلق به، لا من قريب أو بعيد. بهذا الصمت اللبناني المريب، سيجعل العدو “الإسرائيلي” يتوسّع كثيراً في علاقاته مع قبرص، ويعزز بشكل خاص سياساته وخططه العسكرية في ما يتعلق بلبنان وأمنه وسيادته.
كان على الدولة اللبنانية، وكبار مسؤوليها (رئيس الجمهورية، رئيس الحكومة)، أن يتواصلوا مع أركان الدولة في قبرص، والإعراب لهم عن احتجاج لبنان على هذه المناورات العدائيّة، التي جعلت من الأراضي القبرصيّة منصة وقاعدة “إسرائيلية” لتهديد أمن وسيادة لبنان ودول المنطقة.
هل يُعقل أن تجري المناورات “الإسرائيلية” في قبرص، دون أن يكون هناك ردّ فعل لبناني؟! لا سيما أنّ هذه المناورات حملت في طياتها منذ البداية تهديدات ومواقف عدوانية “إسرائيلية” صريحة، عبّر عنها القادة العسكريون “الإسرائيليون”، تصريحات كانت قبرص وقادتها على علم مسبق بها. تهديدات ومواقف صريحة تضع قبرص أمام مسؤوليتها الأخلاقية، والدبلوماسية، وعلاقاتها الدولية. إذ أنّ تنسيق قبرص مع الكيان “الإسرائيلي”، وتقديم كافة أنواع التسهيلات له، يتعارض كلياً مع القانون الدولي، ومع مبادئ الأمم المتحدة، وبالذات مع العلاقات الثنائية بين لبنان وقبرص، نظراً لما تحمله المناورات، وتصريحات القادة الإسرائيليين من تهديدات متواصلة ومباشرة ضدّ لبنان.
إنّ التنسيق العسكري بين قبرص و”إسرائيل”، عمل غير ودّي من قبل قبرص تجاه لبنان، أياً كانت الأعذار والمبرّرات من قبل المسؤولين القبارصة. إذ تجاهلت بالكامل غاية المناورات، وتأثيرها، وأبعادها، وانعكاساتها السلبية على العلاقات بين البلدين مستقبلاً، خاصة أنّ القبارصة يعلمون جيداً، مدى العداء المستحكم بين “إسرائيل” ولبنان الذي لا يزال في حالة حرب معها، وأنّ اتفاقية الهدنة عام 1949 بين لبنان ودولة الاحتلال، لم تنه حالة الحرب.
بعد كلّ ما جرى من مناورات “إسرائيلية” على الأراضي القبرصية، ودعم المسؤولين القبارصة لها، نتساءل: لماذا لم يتحرك المسؤولون اللبنانيون تجاه هذا الأمر منذ أن قرّرت “إسرائيل” إجراء المناورات والإعلان عن أهدافها منها؟! ولماذا هذا الصمت والسكوت عن المناورات العدائية “الإسرائيلية” التي جرت في قبرص؟! ألا يكون هذا الصمت والسكوت اللبناني مشجعاً في ما بعد للقبارصة وللكيان “الإسرائيلي” للتمادي أكثر فأكثر في مناوراتهم، وعدم اكتراثهم لتأثير مناورات “مركبات النار” على العلاقات الثنائية القبرصية اللبنانية؟
السؤال الذي يُطرح أيضاً: هل ستكتفي قبرص بالمناورات “الإسرائيلية” عند هذا الحدّ، أم أنها ستذهب بعيداً في هذا الشأن، للسماح لـ “إسرائيل”، عند نشوب أيّة حرب، أو مواجهة عسكرية مستقبلاً، استخدام الأجواء، والأراضي القبرصية لتكون منصة لها عند قيامها بأيّ عدوان ضدّ لبنان؟!
هل سيأخذ المسؤولون في لبنان هذا الاحتمال على محمل الجدّ، أم أنهم سيتابعون تطور العلاقات العسكرية القبرصية “الإسرائيلية” وتأثيرها وانعكاسها الخطير مستقبلاً على لبنان وسيادته وأمنه القومي، ويرصدون المشهد من بعيد وكأن على رؤوسهم الطير، يتعاطون معه بخفة مثل باقي القضايا الحيوية للبنانيين المتعلقة بأوضاعهم المعيشية المزرية وثرواتهم البحرية وحقوقهم السيادية عليها!