الإجهاض وأوكرانيا: كيف تربط واشنطن بين مسألتين منفصلتين؟ التقارير والمقالات | الإجهاض وأوكرانيا: كيف تربط واشنطن بين مسألتين منفصلتين؟
تاريخ النشر: 16-05-2022

بقلم: الدكتور منذر سليمان والاستاذ جعفر الجعفري

تسارع سيل التسريبات الأميركية بشأن أوكرانيا، والتباهي بتقديم معلومات استخباراتية بالغة الحساسية لاستهداف ضباط وقطع عسكرية روسية، تراجعت مركزيتهما الإعلامية فجأة في الإعلام الأميركي، لتبرز مسألة حيوية بالنسبة لنحو 60% من الشعب الأميركي، ونحو 83% من اليهود لدوافع إيمانية، يؤيدون "حق المرأة في الإجهاض"، كعنصر استهلاك يومي في وسائل الإعلام المختلفة.
للوهلة الأولى يصعب على المرء رؤية الترابط بين مسألتين منفصلتين تحتلاّن المشهد السياسي؛ أوكرانيا من جهة، وتوجه المحكمة العليا إلى إلغاء حق مكتسب للمرأة من جهة أخرى، لكن التدقيق في آلية عمل المؤسسة الأميركية الحاكمة وتوجهاتها المتعددة تؤكد، ولو جزئياً، ترابطهما بشكل وثيق، وخصوصاً لناحية التوقيت، ما يسمح بالاستنتاج بأن المؤسّسة، وجناح الحزب الديموقراطي الحاكم بشكل أدق، أيقنت أن الحرب قد انتهت، وما عليها إلا حشد الرأي العام وراء "تسريب" متعمد لمسودّة قرار في المحكمة العليا، على الرغم من تدفق الأسلحة بكافة أنواعها وتخصيصها ميزانيات غير مسبوقة "لجهود الحرب" الأوكرانية، طمعاً بتعبئة مؤيديها للاقتراع بقوة في الانتخابات النصفية القادمة، التي تهدد سيطرة الحزب الديموقراطي على الكونغرس أو مجلس النواب على أقل تعديل.
من بين أهم الدلائل على ما سبق، أن المسودّة القضائية لم تكن وليدة اللحظة، بل جاءت بتاريخ 10 شباط/فبراير من العام الحالي، أي قبل نحو أسبوعين من بدء العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وهي مدرجة في جدول أعمال المحكمة اعتيادياً لاتخاذ قرار بشأنها في شهر تموز/يوليو المقبل. وقد اكبها تنامي احتقان داخل المجتمع الأميركي وغضب واسع نتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية من دون مبرر، سوى ما تفيد به السردية الرسمية بتحميل روسيا المسؤولية الأولى عن غلاء المعيشة.
وبناء عليه، باعتقاد أقطاب المؤسسة، كان ينبغي الزج بقضية تلهب عواطف أطياف المجتمع الأميركي وتحرف الأنظار عن إخفاقات الرئيس جو بايدن، وخصوصاً لعدم وفائه بحسم الديون المترتبة على طلبة المعاهد العليا وعزوف قطاع واسع من الشباب عن تأييده مجدداً.
وتحوّل المشهد الإعلامي بقفزة قوية إلى التعاطي مع "التسريب" وآثاره المستقبلية، ورحبت به أسبوعية "نيويورك" قائلة: "التسريب مفيد، حقيقة"، فيما اقتصرت ردود أفعال قادة الحزب الجمهوري على مناشدة رئيس المحكمة العليا، جون روبرتس، بإجراء تحقيق للتوقف عند هوية الفاعل/الفاعلين (مجلة "نيويورك"، 3 ايار/مايو 2022).
منبر النخبة الفكرية لليمين الأميركي، "فيدراليست سوسيتي"، اعتبر التسريب تجسيداً لتوجه اليسار من أجل تهييج المجتمع باتجاه حالة "عصيان مدني خياني يزرع الفوضى ويقوّض (استقلالية) المحكمة العليا". فيما ذهبت إحدى صحف اليمين المتطرف إلى اعتبار عملية التسريب "هزّة سياسية وربما فعلاً جرمياً"، بل بمنزلة "مفاجأة أيار/مايو القذرة من الديموقراطيين للانتخابات النصفية" (موقع "ذي فيدراليست"، 3 أيار/ مايو 2022، يومية "نيويورك بوست" 3 أيار/مايو 2022، على التوالي).
اتهامات تيارات الحزب الجمهوري "لليسار" أتت على أكثر من لسان من دون تقديم أدلّة، أبرزها السيناتور الجمهوري ماركو روبيو الذي كتب في تغريدة له: "اليسار المتطرف (قام) بتسريب مسودّة المحكمة العليا في محاولة لترهيب القضاة بشأن الإجهاض" (2 أيار/مايو 2022).
أما بشأن أوكرانيا، فقد تفاعلت النخب السياسية والفكرية المختلفة والمؤثرة في صياغة القرار السياسي الأميركي، بلفتها الأنظار إلى أن انتصار روسيا في حربها سينذر بعصر جديد، ومحذّرة مراكز القرار من تداعيات تسريباتها على المديين القصير والمتوسط، بأن "إشراك أوكرانيا في معلومات استخباراتية بشأن ضباط روس كبار يشكّل مراهنة محفوفة بالمخاطر"، وينبغي للإدارة الأميركية "استنباط آليات لوضع حد للصراع الذي يهدّد بالتطور إلى حرب نووية". بعض النخب حمّل الولايات المتحدة مسؤولية نشوب الحرب عندما "شجّع الغرب روسيا على الرد بعنف".
من أبرز القادة الأميركيين الذين أقرّوا بمسؤولية بلادهم في اندلاع الحرب كان وزير الدفاع الأسبق في عهد الرئيس بيل كلينتون، وليام بيري، الذي قال: "على مر السنوات السابقة، معظم اللوم يمكن تصويبه على قرارات اتخذها (الرئيس) بوتين. لكن في السنوات الأولى ينبغي القول إن الولايات المتحدة تتحمل قدراً كبيراً من اللوم، (وخصوصاً) عندما سعى الناتو إلى التمدد شرقاً وعلى حدود روسيا" (مقابلة أجراها عام 2017، تضمنها السجل الرسمي للكونغرس بتاريخ 10 شباط/فبراير 2022).
التحذير من الانزلاق نحو حرب مباشرة جاء رداً على عنوان أبرز الصحف الأميركية بأن "الاستخبارات الأميركية تساعد أوكرانيا على اصطياد ضباط روس، بحسب مسؤولين". وفي استعراض موازٍ، تساءلت بعض النخب الفكرية المميّزة عما سيكون رد الفعل الأميركي "في حال أقدمت دولة من العالم الثالث على تقديم المساعدة عن سبق إصرار لقتل قادة عسكريين أميركيين" (صحيفة "نيويورك تايمز"، 4 أيار/مايو 2022).
ومضت الصحيفة بتحذير واشنطن من "انجرارها إلى حرب مباشرة مع روسيا إلى مدى أبعد مما تريد"، في ظل تزايد معدلات خطورتها كلما طال أمد الحرب، خصوصاً عقب "تباهي المسؤولين الأميركيين بأداء دور في قتل الجنرالات الروس واغراق السفينة موسكوفا". اللافت في التغطية الأميركية ما أوضحته الصحيفة بأن "المسؤولين الأميركيين منكبّون على تقديم تفسير لعدم قيام الرئيس بوتين بتصعيد أكبر لوتيرة الهجوم" على أوكرانيا ("نيويورك تايمز"، 7 أيار/مايو 2022).
أما القلق الأميركي، بحسب الصحيفة المذكورة، فيتمثّل باحتفالات موسكو بعيد انتصارها على النازية الألمانية في 9 أيار/مايو الجاري، لما تنطوي عليه من "عروض عسكرية واحتفالات ببراعة الجيش الروسي، (وربما) القيام ببعض الإجراءات الاستفزازية" ضد الغرب، والإعلان عن تحقيق مكاسب كبيرة في أوكرانيا.
يشار إلى أن الترتيبات الروسية تضمنت مشاركة "77 طائرة مقاتلة وطائرة هيلوكبتر"، وفقاً لعدد السنوات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وطائرة "إل-80"، المعروفة بطائرة "يوم القيامة"، التي صمّمت لتصبح مركز قيادة طائر في حال نشوب حرب نووية.
تكهنات القلق الأميركي تشمل احتمال "إعلان روسيا حظر طيران جوي في مياه بحر البلطيق"، وما قد يرافقه من ضغوط غربية لإعلان "مناطق حظر طيران" موازية، ما يضع القواعد الأميركية في بولندا ضمن الأهداف الروسية.
أمام هذه اللوحة من تصعيد التوتر على نطاق العالم، وإقرار بعض أقطاب المؤسسة الحاكمة الأميركية بتشجيع الرئيس الأوكراني على التشدد وعدم إبرام اتفاق سلام مع روسيا، برزت بالتوازي دعوات استنهاض "الخيار النووي"، وربما توجيه ضربة استباقية لروسيا بهذا الشأن.
تجسّد ذلك في عنوان بارز لصحيفة المال والأعمال الأميركية تدعو "الولايات المتحدة إلى إثبات أن باستطاعتها الفوز في حرب نووية"، مذيّل بقلم نائب وكيل وزير سلاح البحرية الأسبق، سيث كروبسي، لإضفاء مزيد من المصداقية على توجهات القيادات العسكرية، موضّحاً أن "اقتناء السلاح النووي له هدف عسكري وآخر سياسي، وينبغي للولايات المتحدة إعادة صياغة آلية تفكيرها بما يناسب ذلك" (يومية "وول ستريت جورنال"، 27 نيسان/إبريل 2022).
مهّد الكاتب لنظريته الكارثية بالزعم أن قادة الكرملين، كما يسميهم، يعتقدون أن عزمهم على التصدي للولايات المتحدة ومقارعتها بأسلحة تقليدية تفوق مديات نظرائهم الأميركيين. وبناء عليه، بحسب منطقه، ينبغي للولايات المتحدة "التصدي بأسلحة تقليدية لروسيا، والذي من شأنه بلورة حوافز كي تستخدم روسيا أسلحتها النووية، وبالتالي استدراج رد من حلف الناتو والتصعيد إلى صراع نووي أشمل".
ومما طالب به الكاتب من إجراءات "قيام الولايات المتحدة وحلفائها بتدمير الوحدات العسكرية الروسية المنتشرة في البحر الأسود وسوريا وليبيا، وقطع كل أنابيب النفط إلى روسيا، وتسخير النفوذ الاقتصادي الناجم من أجل تهديد الصين ودول أخرى تتعامل تجارياً مع روسيا، وفرض حظر اقتصادي عليها".
التهديد بضربة نووية "استباقية" لم يأتِ من فراغ سياسي إذا أخذنا بعين الاعتبار حجم الدعم العسكري والمالي الأميركي غير المسبوق لدولة "ليست مدرجة في عضوية حلف الناتو"، وشهدت زيارات متتالية إلى كييف من قبل وزيري الخارجية والدفاع الأميركيين، وكذلك رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، وتصريح الأخيرة بإدامة الدعم الأميركي لأوكرانيا حتى النصر.
على طرف معسكر النخب الفكرية وأنصار "السياسة الواقعية"، تستمرّ التحذيرات من الإنزلاق إلى حرب مباشرة مع روسيا، ومن تداعياتها على فناء البشرية. ويطالب هؤلاء الإدارة الأميركية بـ"التحرك على عجل لطمأنة روسيا إلى أن الاستراتيجية الأميركية ترمي إلى الدفاع عن أوكرانيا، وليس إلى فرض هزيمة منكرة على روسيا والانطلاق منها إلى إضعاف الدولة الروسية أو تدميرها".
إيلاء الأولوية لـ"الخيار الديبلوماسي"، كما يطالبون، هي مقدمة ضرورية على طريق حل جملة قضايا منها "وضع شبه جزيرة القرم النهائي وإقليم الدونباس، والموافقة على وقف إطلاق النار في حال أعلنت موسكو وقف عملياتها في أوكرانيا"، بيد أن المبادرة لا تزال بيد أنصار التصعيد العسكري في المشهد الأميركي.


تنويه | المقالات المنشورة في الموقع تمثل رأي صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي أسرة الموقع

جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013