السردية التي يروّجها الغرب في المواجهة الشاملة مع روسيا مبنية على ركيزة واحدة: رأس الأفعى هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبالتالي يجب أن يرحل كما بيّنت لنا "زلّة لسان" الرئيس الأميركي جو بايدن.
الهدف الأميركي هو الإطاحة بالرئيس بوتين، وبالتالي كل شيء سينهار في روسيا. الجهل والغباء يدفعان إلى هذا النوع من التفكير الذي يتجاهل حقائق عديدة لا بد من عرضها لفهم ما يحصل في روسيا من التفاف حول رئيس الدولة والمؤسسات الروسية وبالتالي قد تكون النخب الحاكمة أكثر تصلّبا من الرئيس الروسي، فهي على درجة عالية من الكفاءة التقنية والدهاء السياسي والتخطيط الاستراتيجي في جميع القرارات التي تتخذها، ما ينفي الغرض من الإطاحة بالرئيس الروسي.
الحقيقة الأولى : هي أن الرئيس الروسي يقرأ موازين القوّى بشكل مميّز ويخطّط على المديين المتوسط والبعيد كلاعب شطرنج من الطراز الأول ويستعمل قوّة خصومه ضدّهم كلاعب جودو ماهر. هو رجل مسكون بإعادة الاعتبار إلى روسيا ودورها في العالم كما هو مسكون برفع مستوى الرفاهية لجميع الروس. فالدور العالمي ليس على حساب رفاهية الروسي العادي.. ورفاهية المواطن هي سند لإعادة مكانة روسيا في العالم. وهذا الدور العالمي هو لتحقيق التوازن في العالم ولتطوير العلاقات الدولية على قاعدة المنافع المشتركة بين جميع الدول وليس على قاعدة اللعبة الصفرية التي تتميّز بها العلاقات الدولية في الغرب. فالغرب أناني في مصالحه بينما يطرح الرئيس الروسي ومعه شريكه الصيني الشراكة الكونية لصالح الجميع. وهذا التمازج بين الرفاهية الروسية والدور العالمي يشكل نوعا جديدا من القوّة الناعمة المختلفة عن تلك التي يفرضها الغرب على العالم والتي تهدف إلى تذويب الهويات الوطنية وجعل الناس مستهلكين (بفتح اللام وكسرها!) وغير مواطنين لا حقّ لهم في المساءلة والمحاسبة. لذلك هناك من المحلّلين الروس من يضع الرئيس الروسي في مكانة بطرس الأكبر وكاترينا العظمى وستالين. هو الرابع في سلسلة الشخصيات التاريخية لروسيا، وفقا لتلك التقديرات.
معظم الروس لا ينسون مآسي حقبة التسعينيات التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي وكيف تمّ تدمير الاقتصاد الروسي وإذلال الروس على يد طغمة فاسدة تحترف اللصوصية والاجرام وتابعة للقرار الأميركي. هذه حقيقة متجذّرة في الوعي الروسي .
الحقيقة الثانية : هي أن هذه الرؤية الروسية ليست محصورة بشخص الرئيس الروسي بل مشتركة بين مروحة واسعة من النخب الحاكمة التي ربما قد تكون أكثر تصلّبا من الرئيس الروسي في تحقيق المشروعين الداخلي والخارجي. هذا يعني أن الإطاحة بشخص الرئيس قد لا تفيد في تحقيق أهداف الغرب بل ربما قد تأتي بشخصية أكثر مواجهة وأقل صبرا من الرئيس الروسي الحالي. ويتبين أن هناك من راهن في الغرب على أن القيادة الروسية منقسمة بين متشدّدين قوميين وليبراليين أطلسيين ساعين إلى الالتحاق بالغرب والعولمة النيوليبرالية. ومن بين الاطلسيين رئيس الوزراء الحالي اندري مدفيديف ومعه حاكمة المصرف المركزي الفيرا نابيولينا التي تدرّبت في صندوق النقد الدولي. لكن هذه التقديرات لم تكن في محلّها حيث الوطنية الروسية جعلت رئيس الوزراء مدفيديف من الصقور في مواجهة الأطلسي. كما أن حاكمة المصرف المركزي اتخذت الإجراءات اللازمة لمنع انهيار الروبل عندما أطلق الغرب “قنبلته النووية” الاقتصادية ـ المالية على روسيا عبر عزل معظم مصارفها عن منظومة السويفت والحظر الاقتصادي على المنتجات الروسية والاستيلاء على الاحتياط النقدي الخارجي بالعملات الصعبة، وبالتالي ساهمت إلى حد كبير في إفشال المخطط الغربي الأطلسي لقلب النظام في روسيا. هنا لا بد من الإشارة إلى ظاهرة الالتفاف الشبابي في روسيا حول القيادة الروسية ما يدحض ادعاءات الغرب حول المناهضة للنظام القائم من قبل الشباب. ولكن الأهم من كل ذلك هو تأييد الكنيسة الارثوذكسية للنظام القائم، وبالتالي لا عجب أن يحتفل البطريرك الروسي كيريل بعيد الفصح المجيد أمام القوّات المسلّحة الروسية فتصبح إشارة قوية إلى الخارج حول مدى متانة الوحدة الداخلية.
الحقيقة الثالثة : هي أن معظم الروس لا ينسون مآسي حقبة التسعينيات التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي وكيف تمّ تدمير الاقتصاد الروسي وإذلال الروس على يد طغمة فاسدة تحترف اللصوصية والاجرام وتابعة للقرار الأميركي. هذه حقيقة متجذّرة في الوعي الروسي وبالتالي كانت داعمة للإجراءات التي فرضها الرئيس بوتين تحصيناً للمصالح الوطنية ومنعاً للتمدّد الخارجي في الداخل الروسي. فالمواطن الروسي يعلم أنه مستهدف من قبل الغرب خاصة وأن العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا كشفت حقيقة وجود مناخ غربي معادٍ جذريا لروسيا. هذا ما يظهر في معظم تحليلات وتصريحات النخب الحاكمة في الغرب تجاه روسيا. والذكاء الروسي هو أنه لم يمنع وصول تلك المواقف إلى المواطن الروسي فكان ذلك أداة فاعلة لتعبئة الروس في المواجهة مع الأطلسي والغرب. هذا نموذج عن جوهر رياضة الجودو حيث استعمل الروسي قوّة الأطلسي ضدّه! وهنا لا يمكن إغفال دور القرارات الحمقاء، وهي كثيرة ولا تحصى، التي ارتكبتها النخب الحاكمة في الغرب من مواقف إذلال للكرامة الروسية عبر إطلاق حملات مقاطعة لكل ما هو روسي بما فيها “الكلاب” و”الأشجار” و”الرياضيين” وحتى كبار الأدباء والشعراء الذين يملأون بكتبهم رفوف مكاتب الجامعات في العالم.
التفوّق العسكري الروسي يكمن في نوعية التخطيط للعملية أولاً وفي النوعية المميّزة للتسليح الروسي ثانياً، وفي أداء القيادة والرتباء والعناصر في القوّات المسلّحة ثالثاً.
الحقيقة الرابعة : هي الذاكرة المتجذّرة في كل روسي ومن كل الفئات والأعمار للحرب العالمية الثانية وما آلت من مآسٍ على الروس. فالاتحاد السوفيتي آنذاك خسر أكثر من 25 مليون مواطن في مواجهة النازية ما يجعل لكل مواطن روسي فردا أو أكثر من عائلته قد قضى في تلك الحرب. الحذر الشديد كي لا نقول الكراهية للحرب تعطي قيمة أكبر للالتفاف الشعبي الكبير حول القيادة في “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا ليس فقط للدفاع عن روسيا بل لمنع تنامي ظاهرة النازية مرّة أخرى على يد الغرب. فالنازية ليست امرا يتساهل الروس معها بعد الثمن الباهظ الذي دفعوه خلال الحرب العالمية الثانية.
الحقيقة الخامسة : هي تفوّق القوّات المسلّحة الروسية على القوّات المسلّحة التابعة لحلف الأطلسي. فالجيش الاوكراني أكثر تدريبا من بين الجيوش الأطلسية لكنه هّزم منذ الأيام الأولى في حرب حقيقية مع قوّة نووية. وما يروّجه الغرب من “تعثّر” للقوّات الروسية في أوكرانيا ليس إلاّ عملية دعائية تريد إخفاء الحقائق المرّة. السردية التي سادت في وسائل الاعلام الغربية في الأيام الأولى تكلّمت عن “خسائر فادحة”، و”عدم إداء جيّد” للقوّات الروسية، وإلى إيقاف الهجوم إلخ من خرافات عكست اهتمام الغرب بالحرب الدعائية كبديل عن الحرب الفعلية. لكن بعد مرور شهرين على بدء العملية، بدأ المسؤولون الاطلسيون يتكلّمون عن احتمال خسارة الحرب كما جاء على لسان رئيس وزراء المملكة المتحدة بوريس جونسون خلال زيارته الأخيرة لنيودلهي أو إلى تصريح وزير الدفاع الأميركي لويد اوستن ورئيس هيئة الأركان المشتركة مارك ميلي في قاعدة رامستين في المانيا امام مجمع من ممثلي 40 دولة على ضرورة الوضع في الحسبان أن الأمور في أوكرانيا لا تسير وفقا للتصوّرات الأميركية. وقد بدأ الاعلام المهيمن في الدول الغربية تحضير الرأي العام تدريجيا لتقبل فكرة “خسارة” الحرب برغم استمرار بعض التصريحات العنترية لوزيرة الدفاع البريطانية ليندا تراس أو رئيسة اللجنة العليا للاتحاد الأوروبي اورسولا فون ليدن. فالتفوّق العسكري الروسي يكمن في نوعية التخطيط للعملية أولاً وفي النوعية المميّزة للتسليح الروسي ثانياً، وفي أداء القيادة والرتباء والعناصر في القوّات المسلّحة ثالثاً. ويشير الخبير الروسي المقيم في الولايات المتحدة اندري مرتيانوف أن الجيش الروسي خاض حروباً فعلية بينما جيوش الأطلسي بما فيهم الجيش الاوكراني لم يخوضوا حروبا فعلية مع خصوم يحصلون على حد مقبول من الكفاءة العسكرية والتخطيط والعتاد العسكري. فلا احتلال أفغانستان ولا احتلال العراق (شاركت أوكرانيا فيه بـ 2500 عنصر) يشكّلان سابقة “تجربة” حقيقية لماهية الحرب.
الحقيقة السادسة : تعود إلى قوّة أو “ضعف” الاقتصاد الروسي. فالسردية الشائعة في الغرب قبل وخلال العملية العسكرية في أوكرانيا تتحدّث عن ضعف الاقتصاد الروسي في مواجهة العقوبات الصارمة التي فرضها الأطلسي والاتحاد الأوروبي وبعض الدول كاليابان على روسيا. الحقيقة مخالفة لذلك بشكل أساسي. صحيح أنه في الأيام الأولى من فرض رزمة العقوبات (منها تجميد الاحتياطي النقدي الموجود خارج روسيا بما يوازي 300 مليار دولار) تراجع سعر صرف الروبل تجاه الدولار من حوالي 85 روبل إلى 140 ولكن بعد إجراءات المصرف المركزي برفع الفائدة إلى 20 بالمائة استقر سعر الصرف ثم عاد إلى الارتفاع. وبسبب ارتفاع سعر الغاز والنفط بعد الإجراءات الحمقاء الغربية فإن سعر صرف الروبل تجاوز في الارتفاع حوالي 65 روبل للدولار. والميزان التجاري وميزان المدفوعات الروسي يسجّلان في الربع الأول من 2022 فائضاً بسبب تحسّن سعر الصادرات الغازية والنفطية.
الصين تدرك أنه سيأتي دورها في مواجهة الأطلسي من بعد روسيا، وبالتالي لا مفرّ من الالتحام مع روسيا حيث اعتبر الرئيس الصيني أن العلاقة مع روسيا أكثر من تحالف.
من جهة أخرى، سجّل الناتج الداخلي الروسي نمواً كبيراً في الربع الأول لسنة 2022 بنسبة 3.4 بالمائة بينما سجّل الناتج الداخلي في الولايات المتحدة تراجعا بنسبة 1.4 بالمائة، أي هناك تقدّم في الناتج الداخلي الروسي وانكماش في الناتج الداخلي الأميركي ليس في نسبة النمو بل في النمو بحدّ ذاته! ولا يغيب عن البال أن روسيا من أكبر مصدّري الحبوب إضافة إلى الغاز والنفط والمعادن الثمينة والنادرة.. وأن القيادة الروسية تخطّط لمواجهة الغرب منذ فترة طويلة وخاصة بعد الانقلاب الذي أعدّته الولايات المتحدة في أوكرانيا في 2014 التي أطاحت بالرئيس الاوكراني المنتخب ديمقراطيا فيكتور يانوكوفيتش. فروسيا أدركت آنذاك أن المواجهة مع الأطلسي لا مفرّ منها وبدأت تخطط للمواجهة الاقتصادية إضافة إلى المواجهة العسكرية. ولذلك نلاحظ تسارع وتكثيف التشاور مع الحليف الصيني حول إقامة منظومة مدفوعات غير مرتبطة بالدولار تجعل روسيا والكتلة الاوراسية بمنأى عن التحكّم الأميركي بمنظومة المدفوعات المالية. فالصين تدرك أنه سيأتي دورها في مواجهة الأطلسي من بعد روسيا، وبالتالي لا مفرّ من الالتحام مع روسيا حيث اعتبر الرئيس الصيني أن العلاقة مع روسيا أكثر من تحالف!
وهنا تكمن الحقيقة السابعة : وهي متانة التحالفات الروسية مع الصين والعديد من الدول الاسيوية. العلاقة مع الصين تختلف في النوع والعمق عن التحالفات الأخرى حيث نرى تزاوجا بين أكبر قوّة اقتصادية ومالية في العالم أي الصين مع أكبر قوّة عسكرية نووية في العالم وهي الولايات المتحدة. البعض ما زال يعتبر الولايات المتحدة أكبر دولة اقتصادية وعسكرية في العالم بل هي الدولة العظمى الوحيدة في العالم. الحقائق الميدانية والسياسية والاقتصادية والثقافية تشير إلى عكس ذلك كم شرحناه في العديد من الأبحاث والمقالات خلال العشرين سنة الماضية.