إذا كان هذا حال وواقع هذه الأمة المتخلفة ثقافياً وسياسياً وإجتماعياً وإقتصادياً ودينياً والمتجرحة عقلياً وفكرياً وروحياً ومعنوياً...فلما إذن إختارها الله سبحانه وتعالی دوناً عن أمم وشعوب الأرض وإختصها بأهم وأشمل وخاتم رسالاته...وهو الإسلام...ولما إختارها هی بالذات لينزل عليها وفيها أخر وأهم وأعظم كتبه وهو القرءان الكريم؟ لما لم يختر الله أمة أكثر تحضراً وتمديناً ورخاء فتكون المهمة أسهل والأمة أقدر؟ الأمم الصينية في شرق أسيا مثلا ً أو الأمم الهندية في جنوب ووسط أسيا أو الأمم الفارسية في وسط وشرق أسيا...أو الأمم الروسية في شمال أسيا...أو الأمم الأوربية البيضاء...أو الأمم الأفريقية السوداء...أو أمم البحر الأبيض المتوسط...وكلها أمم كانت أقدر وأصلح بالمقاييس البشرية لتحمل هذه المهمة المقدسة وأليق لهذا الشرف العظيم...فلما إذن تركت كل تلك الأمم وإختار الله تعالی أقل الأمم شأناً من كافة النواحي لهذا التشريف وتلك الكرامة؟
وبعد البحث والتفكر والتأمل...نستطيع أن نوجز الردّ علی هذا التساؤل الذي ما زال يحير العقول حتی الأن كما حير عقول المستشرقين والباحثين والدارسين في الماضي فيما يلي والله الموفق ونسأله العون في تلمس الحقيقة ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور:
أولا ً: إننا لن نستطيع ومهما حاولنا الإحاطة بحكمة الله في إختياره لأمة العرب لتكون موضع أخر رسالته ومهبط وحيه وقرءانه...ولا نحن نملك الحق أساساً في طرح مثل هذا التساؤل ، فنحن نسأل عما نفعل ولكن الله تعالی لا يُسأل عما يفعل...وهو يعلم أين يضع رسالته وهو فعال لما يريد...وهذا في حد ذاته إمتحان وفتنة من الله لنا...فأن نعرف حدنا ومتی نقف وأن نتأدب مع ربنا فهذا كله فتنة وإمتحان من الله...لن نختاره إلا إذا سلمنا بعدم أحقيتا أساساً في طرح السؤال تسليماً لله العظيم وتعظيماً وتنزيها وتسبيحاً له عما كل ما هو ليس له أهل...وإستسلاما ً لمشيئته وحكمته التي يستحيل أن نحيط بها أو نتفهمها ولكن لا بأس ولا مانع أن نتفكر فيها ونعمل عقولنا ربما نتفهم بعض جوانبها وأوجه العظمة والحكمة فيها.
ثانياً: والأمة إذا إشتهرت بمساوئها وتخلفها ولكنها بالدين وبالرسالة وبالقرءان فقط أنصلح حالها وأنقلب أمرها لتصبح من أفضل الأمم في زمانها...فعلما يدل هذا؟ إنها تكون معجزة تشهد علی عظمة هذا الدين وحكمة هذا الكتاب الذي صنع تلك المعجزة وأنشأ هذا الكيان من لا شئ ورفع تلك الأمة من هذا الإنحطاط والضياع.
ثالثاً: ومما لا شك فيه أن الأمة الخام الجافة المفرغة ينتشر فيها الإصلاح أكثر وأشد وأسرع بكثير من من الأمم الأخری...ويكون تأثيره أقوی وأفعل...فالأمة الأمية تتلقی الدعوة للعمل بصورة أكبر وتنتشر فيها بصورة أشد من الأمة المتعلمة أو النصف متعلمة...فهی تكون متعطشة له ومتلهفة...والدعوة للرفق واللين تنتشر أكثر في الأمة العفظة القاسية...تماماً كما وإن النور ينتشر أكثر وأسرع في الغرفة المظلمة منه في الغرفة المضيئة وكلما إزداد جفاف الحطب كلما إزداد إشتعالا ً.
رابعاً: والأمة التي لا يسبق لها الحضارة ولم تتأثر بعد بالثقافات الإنسانية المختلفة التي هی في كثير من الأحيان منحرفة لإنها من صنع الإنسان...هی بلا شك الأرض الصالحة لتلقی حضارة الإسلام وثقافة السماء الأثية من عند الله مباشرة...فالصفحة البيضاء الخالية هی أصلح الصفحات للكتابة عليها دون تشويش من كتابات سابقة أو أثار من خطوط ممحية أو مندثرة...والأرض التي لم تزرع من قبل...هی من أحضب الأراضي حتی وإن كانت في ظاهرها أرض بور لأنها تكون خالية من بذور النباتات الخبيثة والطغيلة التي تشارك البنتة الجيدة المرغوبة في غذائها وتحرمها من نموها الطبيعي ولأنها تكون غنية ومحتفظة بخصوبتها الطبيعية في تربتها لم تستهلك ولم تستنفذ من كثرة ما زرع فيها من قبل.
خامساً: والإسلام كرسالة والقرءان ككتاب جاء ليتحدی إستكبار وجبروت وعنصرية ومادية الإنسان ونوازع الشر فيه ويلقی في وجهها القفاز ويصارعها ليغلبها وينتصر عليها ومن ثم يظهر ضعفها وقلة شأنها وإن تظاهرة بالقوة والبطش والطغيان. وهذا المظاهر الإنسانية السيئة القبيحة تجلت كلها في أوضح صورة في هذه الأمة العربية الجاهلية...وتجلت بشكلها البدائي البري الخطير والغير محكوم والغير مستأنس...فطبيعي جداً إذن أن يتوجه الإسلام لهذه المظاهر الشريرة في هذا المكان وتلك الأمة ليتحداها ويظهر قوها عليها وضعفها أمامك فلا شك أنك ستنتقي أقوی البشر بدناً وجسماً وأشرسهم لتطلب منازلته...فإذا قهرته بكون قهرك له وقتها قهر لكل من هو أضعف منه جسداً وأقل منه شراسة دون شك.
سادساً: وهذا الأمة العربية الجاهلية إشتهرت بالشجاعة والإقدام وحب القتال وعدم الخوف منه نظراً لطبعية وظروف حياتها...والإسلام رسالة عالمية خاتمة موجهة لكل الناس في كل زمان ومكان وبديهي أنها ستواجه بعداوات لا حصر ولا عدلها من كل مكان وبالتالي فها ستحتاج في مواجهة هؤلاء الأعداس الكثيرين إلی شجاعة وإقدام من يحملها وأن يكون مستعداً للقتال وغير هياباله أو خائفاً منه فطبيعي إذن أن نجد الرسالة تتوجه لهؤلاء الأقوام من العرب لأنها ستجد فيهم هذه الصفة التي ستمكنهم من مقارعة أعداء الرسالة وحملها إلی كافة بقاع الأرض رغم أنوفهم.
سابعاً: والعرب كان لديهم علی مساوؤهم العديدة...مجموعة من الثوابت الأخلاقية الحميدة والجيدة مثل الوفاء بالعهد وبالكلمة والكرم وقوة الشخصية والثقة بالنفس...والإعتزاز والإنتماء والولاء وصلة الرحم...والفروسية والنبل والحرص علی الشرف والعرض والكرامة...وهذه الثوابت الأخلاقية هی جزء من دعوة الرسالة...وهی بنفس الوقت ضرورية لعملية تقبل الرسالة والأخذ بها وإلتزامنها وضرورية لتكتيكات نشر الرسالة وإنتشارها ولذا فطبيعي إذن أن تستفيد الرسالة من توفر هذه الإخلاقيات الكريمة لدی القوم فتنزل فيهم وتتنزل عليهم.
ثامناً: وإن صعوبة المادة الخام المتمثلة في هؤلاء الأعراب وبداوتهم وبداءتهم وفظاظهم وقسوتهم ومقاوماتهم لكل تغيير وإستكبارهم وعنادهم وتعصبهم وماديتهم وشدة العداء المتوقعة من أمثالهم تجاه الرسالة السماء الخاتمة الخالدة كل هذا يخلق جواً ملتهباً شديد الحرارة كأفران صهر المعادن...ويُمحص ويبتلي ويُصهر ويُثقل وييُنقی ويطهر حتی يُخرج في النهاية خير وأفضل أمة أخرجت للناس...ويظهر بهذا عظمته وروعة الدين الخاتم والكتاب الكريم والخالق العظيم.
تاسعاً: والله سبحانه وتعالی يختار دائماً أنبياءه ورسله وأوصيائه وأوليائه من البسطاء والفقراء والمقهورين فمن لا يظن أنهم يصلحوا لأن يختاروا لهذه الأدوار العظيمة ولكنها حكمة الله التي تبتلي وتمتحن فهی تصنع رسالتها ووظائفها وتشريفها دائماً علی عاتق من تزدريهم أمين القوم وتستخف بهم وتستهين بشئنهم فتنة وإبتلاء لهم لتری هل سيؤمنون بالرسالة لأ،ها رسالة إلهية عظيمة فقط أم أن إيمانهم سيشوبه خلط بشخصية الرسول والوحي والولي ، فهم سيأخذون بالرسالة إن كان حاملها مرموقاً محترماً لديهم ويستركونها إن هيناً ضعيفاً عندهم...فهم بالتالي إذن لا يبالون بالرسالة نفسها بقدر ما يبالون بأشياء أخری لا علاقة لها لا بالإيمان ولا بالرسالة وهذا ما لا يحبه الله ويريد أن يمتحن ويبتلي فيه وبالمثل أيضاً فإن الله تعالی عندما ينزل رسالته الخاتمة يبتلي الناس...فينزلها علی أقل الأمم شأناً وأهونهم علی الناس...ليبتلي هل سيتبع الناس في كل زمان ومكان الرسالة الخاتمة لمحتواها وصدقها إمتثالا ً ولأمر منزلها وخالقها...أم أنهم سيرفضونها لمجرد أنها أنزلت في أمة متخلفة ضعيف؟؟؟ الشأن والوزن بين الأمم ، لا حضارة لها ولا تاريخ ولا إسم...ولقد حدث هذا فعلا ً ورفضت الرسالة من شعوب وأمم علی مر التاريخ لمجرد أنها أنزلت في أمة يردفها وحتی الأن متخلفة همجية لا شأن لها ولا وزن بين الأمم ذلك دون ما نظر إلی محتوی الرسالة أو ما جاءت به أو ما دعت إليه أو من نزلت بأمره وإذنه وهی خالقها ومنزلها.
عاشراً: ولو علمنا أن الله إصطنع هذه الأمة بقدر ومشيئة إلهية بدءت يوم أن أوحی الله إلی خليله ونبيه إبراهيم (ع) أن يأخذ زوجته هاجر وإبنه الرضيع إسماعيل إلی أرض شبه الجزيرة العربية الصحراء الجرداء التي لم يكن يسكنها في هذا الوقت أحد من البشر أو الجان ولم تكن هناك أمة ولا غيره...وتدور أحداث القصة المعروفة التي قدرها الله تعالی وأخرجها الله تعالی لينشأ من وراء هذه القصة تلك الأمة العربية التي تكونت حول هاجر وإبنها وبيت الله الحرام الذي بناه إبراهيم وإسماعيل بأمر وإذن الله رب العالمين...ولو لم تكن تلك القصة القدرية التي بدأت يوحی الله بأمر غريب جداً وقتها لا تفهمه العقول...لما نشأت هذه الأمة...إذن فالله إصطنع هذه الأمة لحكمة عليا كما إصطنع موسی لنفسه من قبل...فإذا جاءت بعد ذلك الرسالة الإلهية الخاتمة الشاملة وتنزلت علی في تلك الأمة وكلفت بحملها...فهل تبقی غرابة بعد ذلك؟ وهل تبقی الحكمة الإلهية من إنشاء هذه الأمة من عدم إذن غامضة مبهمة وغير مفهومة؟
أحد عشر: وبعض المكونات السياسية والإقتصادية والإجتماعية في الأمة العربية الجاهلية التي تحدثنا عنها أنفالإ...كانت تساعد وتسهل بل وأحياناً ضرورية لإنتشار الدعوة ونشرها...فالنظام السياسي القبلي يضمن مركزية السلطة وهذا ضروري في مراحل الدعوة الأولی...وصفر قظر الدائرة السياسية يضمن ويسهل وصول الدعوة إلی الكل بلا إستثناء. ومعرفة الكل بالكل يضمن دقة إدارة الصراع بين الدعوة وأعدائها وتحديد هذا الصراع وتحجيمه...وولاء أفراد القبيلة المطلق لما يقرره شيوخها وكبرائها كان ذو فائدة عظيمة فيكفي لإحتواء القبيلة كلها وضمان ولائها التركيز علی شيوخها ووجهائها وكبرائها فإن أمن هؤلاء وتقبلوا الرسالة أمن الجمهور من وراءهم من أبناء القبيلة بالتالي ولذا فلا حاجة لأن نجري بالدعوة والرسالة وراء كل فرد من القبيلة واحداً أو واحداً طلباً لإيمانه وولائه وهذا بلا شك سهل المهمة كثيراً جداً...والدارس لتاريخ الإسلام ونشؤه سيدرك فوراً عظم هذه الفائدة التي إستفاد منها الرسول الأعظم (ص) بحكمته وحنكته أعظم إستفادة وكانت تأتيه القبائل بكاملها مؤمنة مسلمة مجرد أن يؤمن سادتها وكبرائها ووفودها علی يديه الكريمتين...وهذا ما جعله يوماً قبل الهجرة يركز في الدعوة علی سادة قريش ووجهائها وكبرائها لعلمه أن بإسلامهم سيسلم قومهم وأتباعهم طائعين مختارين...وهذا خلق في لحظة مشكلة الأعمی عبد الله بن أم مكتوم التي عاتب الله فيها نبيه (ص) وما كان غرض النبي إلا الإستفادة من ولاء القبائل المطلقة لسادتها هذا في نشر الدعوة وشيوع الإسلامز وتمتع الفرد في القبيلة بقدر كبير من الحرية والشخصية المحترمة ساعد في أن يتصدی الأفراد المؤمنين القليليون في القبيلة لسادتهم وكبرائهم وعشيرتهم دون التعرض للبطش أو الإرهاب نظراً لتلك الحرية التي كان يتمتع بها الفرد في القبيلة...ونظام التحالفات والإلتزام بها ساعد الإسلام في التكتيكات السياسية الضرورية للتغلب في الصراع ضد الأعداء بالذات في السنوات العشر ما بعد الهجرة...وعدم وجود كيان سياسي واحد يجمع العرب وعدم وجود أي تنظيمات سياسية لهم خلق فراغاً سياسياً كبيراً ملاءة الإسلام فوراً حينما جمع العرب جميعاً وأنشأ لهم دولة وكيان ومؤسسات سياسية لأول مرة في تاريخهم ولو كان هناك كيان سياسي وتنظيمات للعرب قبل الإسلام كما كان للفروس والرومان والصيني والإحباشي والمصريين لكمانت مهمة الإسلام ستكون أصعب فعلية ازاحة السلطة الراسخة الموجودة أولا ً ومؤسساتها ثانياً قبل أن يقوم هو...ولكن الفراغ سهل المهمة.
والفقر والضعف الإقتصادي سهل قبول الدعوة لدی الفقراء والمحرومين وشعورهم بالأمل معها بعد سنين الفقر والحرمان...وأنفش أمال القوم بالرخاء الإقتصادي بإنشاء الدولة الإسلامية ونقلها للأخرين...وتوسط القوم بين الإمداطوريات والحضارات صهل لهم غزوها والإنقضاص عليها من قلبها ووسطها ولو كانوا في الأطراف لكان الأمر أصعب وأعقد ورحلات التجارة سهلت للعرب نقل الدعوة للشام واليمن والعراق حتی قبل قيام الدولة الإسلامية وكسبت مؤيدين لها ساعدوا فيما بعد في فتح تلك البلدان أمام الإسلام..وتفاوت الطبقات داخل القبيلة وحرمان السواد الأعظم الفقير من النفوذ السياسي ساعد في تقلبهم للإسلام ورؤيتهم فيه فرصة ليناولوا ما حرموا منه علی يد أغنيائهم وكبرائهم من مشاركة سياسية وإقتصادية في الثروات...وإرتباط العربي بصحراءه وجباله وناقته وامنامه والطبيعة من حوله سهل له تفهم وتقبل الأيات القرءانية التي أنزلها الله لهدايته وجعلته يتأثر بها ويتجذب إليها ثم يؤمن بها ويتقبلها...وقد ساعد وقت الفراغ الطويلة الموجود لديهم في أن يركزوا إنتباههم وتفكيرهم في الدعوة الجديدة ولا ينشغلوا عنها بهموم الحياة اليومية كما نری الأن وساعد الفراغ الديني الموجود لديهم وعدم وجود دين واضح مفهوم لديهم ساعد هذا بلا شك علی إنتشار الإسلام كدين وتقلبهم له...ولو أُنزل الإسلام على أمة مسيحية أو يهودية أو ماجوسسية ، لصَعُلبَ جداً على القوم تقبل دين جديد وترك دين قديم متمكن واضح راسخ لديهم وهذا ما حدث عندما أرسل عيسى (ع) في اليهود فقد رفضوه وكذبوه وحاولوا قتله ولم ينتشر ديانته فيهم أبداً حتى يومنا هذا. ولكن الأمر لدى العرب كان مختلفاً فالفراغ الديني كان ضرورياً لدخول الأمة كلها في دين الله أفواجاً ومن ثم بناء الدولة الإسلامية. وإرتباط الفرد بأُسرته وعشيرته سهل للدعوة التغلغل داخل الأسرة من خلال من أمن منها ومن ثَم إنتشار الإسلام في الأسرة كلها. ولو كان القوم مفككين قاطعي أرحام لما أمكن هذا ولتقوقع من أسلم وقاطع أسرته وبالتالي لنحصر المد الإسلامي ، ولَما إنتشر بين أفراد الأسرة بمثل هذه السهولة التي إنتشر بها نتيجة حرص القوم على صلتهم بأسرهم وأرحامهم. وإعتزاز افقوم بأسرهم وأقوامهم وقبائلهم جعلهم يتسابقون لحمل شرف نقل الإسلام إلى الأخرين ونصرة وحمل لواء وفتح الطريق أمامه وهم يرون في هذا شرف لهم ولقبائلهم وأسماء أباءهم وأجدادهم. وكان الإسلام وهو المستفيدين من ذلك بلا أدنى شك. وحرمان القوم وماديتهم حملتهم على فتح بالبلدان للتمتع بخيراتها بعد سنين الحرمان الطويلة. ومن خلال فتوحاتهم ورحلاتهم وإنتقالاتهم مدعوفين بحرمانهم وماديتهم ، وحملوا الإسلام معهم إلى كافة أقطار الأرض وبلاد الدنيا...ولو كانوا قوماً ذوي رخاء مزارغين تمتلئ بلادهم بالخيرات لتقوقعوا فيها ولَما خرجوا منها وبالتالي لَما خرج الإسلام معهم إلى بلاد الدنيا. ووفاء الرجل بكلمته وحرصه على سُمعته سهل للإسلام مهمة إدارة الصراع بينه وبين أعدائه وأخذ زمام المبادرة ، وتأصل بعض الأخلاقيات الكريمة لدى القوم شجعهم على الدخول في الإسلام لِما رأوه بدعوهم ويحثهم على تلك الأخلاقيات الكريمة التي يحبونها ويشعرون أنها جزء منهم ولا يحرمهم منها. وتمجيد وتعظيم الإسلام للكعبة ودعوته للحج وتعظيم شعائره حببه إلى القوم وجعلهم يشعرون أنه دينُ قريب منهم يحترم مقدساتهم ممثلة في الكعبة بيت الله الحرام ولا يحرمهم منها. ثم وجود أهل الكتاب من يهود ونصارى بينهم ومعرفتهم بأن هؤلاء أدرى وأعرف بشئون الأديان السماوية ثم رؤيتهم لهؤلاء اليهود والنصارى يتراجعون أمام الإسلام ويقرون بصوته وموافقته لما هو في كتبهم ودخول بعضهم في الإسلام وإعتناقه كل هذا سهل لهؤلاء الأعراب تقبل الدين الجديد لما رأوا علماء بني إسرائيل يشهدون على صدقه أمام أعينهم. وفي نفس الوقت فإن وجود أهل الكتاب من يهود ونصارى بين ظهراني العرب كأصحاب ديانات سماوية محترمة يفاخرون بها ويترفعون بها عليهم. كان يتحدى كبرياء وغرور هؤلاء العرب ويشعرهم بالنقص والضعف أمام هؤلاء. فلَما أتاهم الدين السماوي الخاتم من الله وجدوا فيه الفرصة ليستكملوا نقيصتهم ويتخلصوا من ضعفهم ويصبحوا هم أيضاً أصحاب دين ورسالة سماوية مثلهم مثل اليهود والنصارى ، فلا ميزة للأخرين عليهم الأن. وهذا بلا شك أرضى كبريائهم وغرورهم. خاصة وأن دينهم هو الدين الخام الملزم للجميع بإتباعة سواء كانوا يهوداً أم نصارى أم غيرهم.
إثنى عشر: لغة القوم وهى اللغة العربية هى أفضل اللغات بلا شك وهى المناسبة على الإطلاق للإعجاز والجمال للقرءان الكريم ، ومن كل ما سبق نستطيع أن نتبين ونعرف الأن بعض أوجه الحكمة في إختيار الله سبحانة وتعالى لتلك الأمة العربية الجاهلية المتخلفة الفقيرة الكثيرة العلل ولكي تكون موكن وموضع خاتم رسالته وخاتم رسله (ص) ومهبط وحيه وخاتم كتبه. ولن نستطيع أبداً أن نحيط بكامل حكمة الله ولكن الله يؤتى ملكه من يشاء والأرض له يورثها من يشاء من عباده ، يرفع من يشاء ويضع من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء وهو على كل شئ قدير ، لا يُسئل عما يفعل وهُم يُسألون.
وبعد هذه البداية التي كان لا بد منها...وبعد أن اتضحت الصورة وعُرف مسرح الأحداث وعرفت المكونات السياسية والإقتصادية والإجتماعية بإختصار التي كان عليها المجتمع العربي الجاهلي وقت أن بُعث محمداً خاتماً للأنبياء والمرسلين وبعد أن بدت صورة هذا المجتمع واضحة أمام أعيننا على كافة جوانبها بشكل عام دون ما الدخول في تفاصيل جانبية قد لا تفيد. وعلى القارئ العزيز أن يعيد قرءاة هذه البداية مرة أخرى أن حتى يستحضر الصورة أكثر ويقترب منها أكثر وأكثر حتى وكأنه يراها أو يعيش فيها ويتخطى حدود الزمن ويرجع للوراء أربعة عشر قرناً من الزمان ويتصور نفسه واحداً من هؤلاء العرب في زمانهم ومكانهم وظروف حياتهم التي مر فيها . وهذا مُهِم جداً قبل أن نبدأ تأ ملاتنا كما ذكرنا حتى ترتبط في وجداننا وعقلنا الزمان والمكان والأشخاص وشكل المجتمع والحياة بالأيات الكريمات التي ستبدأ في النزول على هذا المجتمع ، فجاءة ودون سابق إنذار في ساعة الصفر التي حددها الله تعالى يوم خلق السموات والأرض...حددها لتكون في ليلة من ليالي شهر رمضان في العشر الأواخر منها في ساعة متأخرة في الهجع الأخير من الليل والناس نيام....لأربعين عاماً خلت بعد عام الفيل الشهير ولثلاثة عشرة عاماًً قبل الهجرة ، وحوالي سنة ٥٦٧ على التقريب والله أعلم. إختار الله الزمان وإختار المكان في غار أو كهف صغير في أحد الجبال المحيطة بمكة...وإختار الشخص الذي أحبه دون خلقة وراءه أهلاً لهذا التشريف والتكريم...ليلة كأي ليلة والهدوء والبساطة تعُم كل شئ...ثم بدءت أبواب السماء تفتح فجاءة...وبدء النور الإلهي ينزل على الأرض بإذن الله في ساعة الصفر تحمله ملائكة كرام على راسهم الروح الأمين على وحي الله جبريل عليهم السلام ، ولم تصبح هذه الليلة من وقتها ليلة ككل ليلة ، بل أصبحت ليلة قدر خير من ألف شهر!