عندما تم تغييب إيران عن جنيف 2 بشأن سوريا، كانت حاضرة على طاولة المفاوضات ليس فقط بوجود روسيا والصين، بل لأن المفاوضات بحدِّ ذاتها شهدت سجالات حول قوَّة تأثير إيران في هذا الملف، ووجوب مشاركتها في أية مؤتمرات لاحقة، وتبيَّن أنه لا فائدة من استبعادها لأن المكابرة السعودية بشخص وزير الخارجية الراحل سعود الفيصل، لم تستطع المساس بحجمها، سيما وأنها كانت في نفس الأسبوع على طاولة فيينا للتوقيع على المسوَّدة النهائية للإتفاق النووي الذي جاء صفعة لكلٍّ من السعودية وإسرائيل.
وفيينا السوري لم يكن أقل قساوة على السعودية من فيينا النووي، لأنه رغم راديكالية النظام الوهابي في العداء لإيران ومحاولات تحجيمها عبر محاولات تغييبها، إلا أنها حضرت وكان حضورها صاعقاً، لا بل قلبت طاولة فيينا على كافة المتحاورين، وكانت الصفعة الثانية هذه المرة لعادل الجبير خليفة الفيصل في الخارجية السعودية، وكانت اللاءات الإيرانية للإملاءات السعودية التي تسوِّق لترحيل الأسد.
وبراعة الغياب لدى إيران، تأتي ضمن نظرية الغائب الحاضر، وتجلَّت من خلال وزنها الخليجي ضمن دول مجلس التعاون، سواء عبر العلاقات المميزة مع الجارة عُمَان التي كانت عراب النووي الإيراني بامتياز، ومن خلال الإتفاقات الإقتصادية والإستثمارية بين البلدين وعلاقات حسن الجوار عبر إقرار بناء جسر يربط بينهما لتسهيل تنقُّل المواطنين وتسريع التبادل التجاري، وصولاً لما حصل مؤخراً بين روسيا والكويت يوم 10 نوفمبر/ تشرين الثاني، ليس فقط من خلال الزيارة التي قام بها أمير الكويت الى موسكو وتوقيع عدد من اتفاقيات التعاون بين البلدين في قطاعات النقل والنفط والاستثمار والثقافة، بل في ما سبق هذه الزيارة من إتفاق روسي إيراني لتزويد الكويت بالغاز الروسي عبر الأراضي الإيرانية، واستفادة إيران من هذه الإتفاقية وتزويدها بالغاز الروسي عبر الأنابيب العابرة لأراضيها نحو الكويت.
الأسئلة التي شغلت المحلِّلين في الخطوة الكويتية، تمحورت حول تجاهل الكويت للغاز القطري المجاور لها، والذهاب بعيداً نحو روسيا للتزوُّد بالغاز عبر الأراضي الإيرانية، وهي رسالة كويتية واضحة للسعودية من جهة، وخرقاً جديداً لسياسة العداء الخليجي لإيران من جهة أخرى، إضافة الى التداعيات السلبية على مستقبل وحدة مجلس التعاون الذي حاولت السعودية دفعه نحو الوحدة السياسية، فجاءها الرفض الفوري من سلطان عُمان ورئيس دولة الإمارات ولاحقاً من أمير الكويت، وجاء تطوُّر العلاقات الروسية الكويتية "العابر" أراضي إيران، ليؤكد على لسان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف "تقارب مواقف البلدين حيال قضايا الشرق الأوسط"، إضافة الى مذكرة تفاهم بين شركة "روس أوبورون أكسبورت" التي تدير 85% من صادرات روسيا من الأسلحة والمعدات العسكرية ووزارة الدفاع الكويتية، لتطوير التعاون العسكري التقني بين البلدين، ووفقا لبعض الخبراء العسكرين، فإن الكويت مهتمة بشراء كميات كبيرة من الأسلحة المتطورة سواء من طائرات "سو 35" أو صواريخ "س 300" ومروحيات ومعدات عسكرية حديثة أخرى.
هذا على مستوى الإقليم، أما على مستوى العالم، وأمام تداعيات هجمات باريس، وما لحِقها من تهديدات أمنية قصوى في بروكسل، أطلقت بلجيكا حملة انتقادات غير مسبوقة تطال مباشرة دور السعودية، بحيث أن وسائل إعلام بلجيكية وسياسيون ونواب، يركزون الآن على الربط بين "الوهابية" ونشر الإسلام المتشدّد في أوروبا، مروراً بالحديث عن الدور المباشر الذي يعتبرون أن المملكة تلعبه في تمويل الإرهاب، وبدأت التداعيات الأوروبية من بلجيكا، عبر إلغاء اتفاقية الإعفاء الضريبي مع الرياض، فيما التصويب جارٍ الآن على إغلاق المسجد الكبير والمركز الإسلامي الموصوفين بكونهما من المعاقل الوهابية.
قوَّة الحملة البلجيكية على النظام السعودي تكمُن في أن بلجيكا دولة مسالمة آمنة كما سويسرا، وأنها احتضنت المسلمين ومنحتهم حقوقهم، وسياستها الخارجية منزَّهة عن التدخلات التي تتَّصف بها سياسات فرنسا وبريطانيا على سبيل المثال، وهذا ما يُعطي حملات محطات التلفزة البلجيكية مصداقية وشرعية وقبولاً لدى الرأي العام الأوروبي والعالمي، وهذه مقتطفات مما ورد على هذه المحطات :
"منذ عقود والسعودية تنتهك حقوق الإنسان بطريقة فاضحة، كما أن دور هذا البلد المتعلق بالإرهاب الدولي شبه واضح".
"هذه المملكة مشهورة بالمذهب الوهابي المحافظ جداً، إضافة لكونها مشهورة بقطع الرؤوس، وكذلك بانعدام حقوق النساء".
"السعودية تموّل وتروّج للإسلام المتشدّد عبر استثمارات بالمليارات في جوامع حول العالم وفي أوروبا".
واستُكملت الحملة البلجيكية على النظام السعودي عبر النائب الاشتراكي ديرك فان ديرمالن، الذي وجَّه انتقادات حادة للإتفاقية الضرائبية مع السعودية: "إكمال الاتفاق الضريبي يعني أن البلجيكيين المقيمين في السعودية سيدفعون ضرائبهم هناك، ونحن نعرف أن دولارات البترول هذه تُستخدم لزرع الكراهية في عقول الشباب عندنا عبر أئمة متشدّدين وجوامع، ومن الغباء التوقيع على اتفاقية ".
وفي المحصِّلة، ومع تنامي دور إيران في محاربة الإرهاب وإرساء السلم على مستوى الإقليم، ها هي حاضرة على رؤوس الأشهاد في العراق بمواجهة مملكة خبيثة صنعت الإرهاب من مخلَّفات صدَّام حسين في قلب الأنبار العراقية، وها هي إيران حاضرة في سوريا بتحالفٍ صادقٍ مع روسيا لمواجهة التكفير، وحاضرة في لبنان خلف المقاومة في مواجهة الصهاينة، وحاضرة في فلسطين عبر الدعم المُعلن للإنتفاضات الفلسطينية بوجه الإحتلال، وحاضرة في اليمن لتحجيم الغطرسة السعودية وإفشال جموح السيطرة لدى آل سعود على بلدٍ مُسالم، وحاضرة في سلطنة عُمان بعلاقات ممتازة، وبعلاقاتٍ حسنة مع الإمارات التي أعلن وزير خارجيتها أمس عدم جدوى وجدِّية التحالف مع أميركا في سوريا، وأشاد بالعمليات الروسية الفعَّالة واستعداد بلاده لإرسال قوات برِّية لمكافحة المتشدِّدين على الأرض السورية بالتحالف مع روسيا، وخلف كل ذلك إيران حاضرة، كإحدى الدول المتقدِّمة في مجال الفيزياء النووية واستغلال اليورانيوم عنصر قوَّة لصنع السلام، فيما مملكة الكبتاغون تتداعى وسُمعتها السيئة عبر العالم لم تعُد تُخفيها الرمال ولا كل مليارات الدولارات المرصودة لصناعة الموت وتدمير الكيانات وإنشاء "الإسرائيليات"...