كان لافتاً الاتهام الَّذي وجّهه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى الغرب بتغذية الخوف والهلع من حرب روسية على بلاده، ما أضرّ بالاقتصاد الأوكراني، وكلّف بلاده مئات ملايين الدولارات، وجعل العملة الأوكرانية تهبط بمعدل 8% مقابل الدولار منذ بدء الأزمة في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.
وأكَّد زيلينسكي أنَّ الحشود الروسيّة على الحدود مع أوكرانيا ليست جديدة، وأن التهديد الذي يتحدث عنه الغرب ليس طارئاً، ولم يطرأ أيّ تغيير عسكري يستدعي هذا الهلع وسحب البعثات الدبلوماسية، فأوكرانيا ليست “تايتانك”.
وعلى الرغم من كلِّ التصريحات والتهديدات الغربية، وخصوصاً الأميركية، من أن الروس سيجتاحون أوكرانيا، وأنَّ بوتين ينتظر تجمّد البحيرات للغزو، فقد أعلن الروس مراراً عدم وجود نية لديهم باجتياحها، وأبدوا تخوّفهم من أن يدفع الغرب أوكرانيا إلى هجوم على الإقليمين الانفصاليين في الدونباس، ما يحتّم الرد الروسي الذي يمكن أن يسوّقه الغرب على أنه هجوم روسي على أوكرانيا لتبرير العقوبات أو التوتر العسكري مع روسيا، علماً أنّه، وباستثناء السيناريو أعلاه الذي يدرجه الروس، والذي يحتّم عليهم الدفاع عن النفس (بحسب قولهم)، لا يحتاج بوتين إلى اجتياح عسكري مكلف جداً (عسكرياً واقتصادياً وبشرياً) في أوكرانيا لتحقيق تغيير سياسي في كييف يحقّق له مصالحه، فهناك العديد من أدوات الحروب الهجينة وحرب المعلومات وتدبير “ثورة ملونة” في الداخل وغيرها من الأدوات التي يتقنها الروس جيداً، علماً أنَّ الاحتلال الروسي لمناطق غرب أوكرانيا ليس أمراً مرغوباً فيه في ظلِّ وجود غالبية أوكرانية تتطلّع إلى العلاقة مع الغرب في تلك المناطق، ولا تحبّذ العلاقة مع روسيا، ما يعني أنَّ كلفة استقرار القوات الروسية واحتلالها تلك المناطق عالية جداً.
في كلِّ الأحوال، منذ إعلان الغرب أنَّ الروس يتحضرون لاجتياح أوكرانيا، يبدو أنَّ الأخيرين يربحون من مسار تطور الأمور قبل أن تحصل الحرب، وذلك على الشكل التالي:
1- إضعاف الموقف الأوكرانيّ:
إنَّ تراجع مؤشرات الاقتصاد الأوكراني بسبب التخويف من حرب محتملة، جعل أوكرانيا أقل رغبة في تحدّي الروس، وهو ما أعلنه الرئيس الأوكراني، الذي اعتبر أنَّ الاقتصاد الأوكراني يحتاج إلى حوالى 10 مليارات دولار للتعافي، وأن الحلول الدبلوماسية تبقى الأساس، وهو مستعد لمقابلة الرئيس بوتين لحلّ الأزمة.
وقال مسؤول أوكراني كبير لشبكة “CNN” إنَّ المكالمة الهاتفية بين الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي “لم تسر على ما يرام”، وسط خلافات على “مستويات مخاطر” هجوم روسي. واعتبر زيلينسكي أنه يعرف ما في بلاده أكثر من الرئيس بايدن.
2- بثّ الخلاف بين أعضاء حلف الناتو:
بدفع من الأميركيين، بدأ أعضاء في حلف الناتو بنشر سفن وطائرات مقاتلة في أوروبا الشرقية، وهي خطوة يقول مسؤولو الناتو إنها تهدف إلى “تعزيز ردع الحلفاء”، لكن، كما بات واضحاً، هناك خلافات جوهرية بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين بشأن الرد على العدوان الروسي (المفترض) على أوكرانيا، إذ تتباين مصالح دول الناتو ونظرتهم إلى الصراع في منطقة أوروبا الشرقية وعلاقاتهم مع الروس.
– يدفع الأميركيون والبريطانيون، ومعهم بولندا، على سبيل المثال، إلى مزيد من الاشتباك مع الروس، وتشديد العقوبات عليهم، ومساعدة أوكرانيا عسكرياً. من جهة الأميركيين والبريطانيين، هي معركة رابحة في جميع المقاييس، إذ إنَّ الموقع الجغرافي لكل من بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية يجعلهما بمنأى عن أي تداعيات للحرب.
أما الموقف البولندي، فهو يعكس توجهات البولنديين القومية وعودة الروايات التاريخية التي تتحدَّث عن أن الغرب الأوكراني كان جزءًا من بولندا تاريخياً. وبالنسبة إلى بايدن، إنَّ إشغال العالم بالحديث عن اقتراب حرب عالمية كبرى، قد يلهي مواطني الولايات المتحدة الأميركية عن التفكير في سياساته الاقتصادية الفاشلة، ويظهره رئيساً قوياً استطاع أن يتصدّى لبوتين ويهدّده.
– أما ألمانيا وفرنسا، ومعهما العديد من دول أوروبا التي ترتبط بمصالح اقتصادية مع موسكو، فهي تعتقد أنَّ التفاهم مع الروس وإعطاءهم أحقية في حماية أمنهم القومي، يقيان أوروبا مآسي ونزاعات وتوترات هي بغنى عنها. ويعتبر هؤلاء أنَّ الولايات المتحدة الأميركية تدفع الأمور إلى تصعيد بعيد عنها، ولا يحتاج إلى انخراط جنودها فيها، ما يعني ربحاً كاملاً للأميركيين، على أن يتكبَد الأوروبيون الخسائر.
3- انقسامات في الاتحاد الأوروبي:
أعلن العديد من مسؤولي الاتحاد الأوروبي خيبتهم لتهميشهم في اتخاذ قرارات مهمة بشأن أوكرانيا، إذ قال رئيس السياسة الخارجية في الاتحاد، جوزيب بوريل، إنّ “أيّ نقاش حول الأمن الأوروبي يجب أن يشمل الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا”.
– انقسامات حول طبيعة الردّ العسكري:
اعتبر الرئيس الفرنسي الذين لطالما دعا إلى استقلالية القرار الأوروبي عن الولايات المتحدة الأميركية، أنَّ التفاوض هو السبيل الأنسب للحل. وقال ماكرون، في حديثه إلى أعضاء البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، إنَّ خطّة الأمن والاستقرار “يجب أن تُبنى أولاً بين الأوروبيين، ومن ثم يتمّ تقاسمها مع الحلفاء في الناتو”.
وتتباين دول الاتحاد في نظرتها إلى روسيا، فدول أوروبا الشرقية التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفياتي السابق، تدعو إلى سياسات أكثر تشدداً مع الروس، وتفضل اللجوء إلى الحلول العسكرية، معتبرةً أن لا شيء يردع الروس سوى القوة، بينما تعتبر دول أخرى أن أوروبا لديها مصالح مشتركة اقتصادية وطاقوية وتجارية معهم يجب الحفاظ عليها، وأنَّ من غير المفيد للغرب دفع روسيا إلى التقارب أكثر مع الصين.
– انقسامات بالنسبة إلى خيار العقوبات:
تتباين رؤية دول الاتحاد حول طبيعة العقوبات التي يمكن فرضها على الروس وشدتها، ما سيعقّد القدرة على فرضها، فالعقوبات تحتاج إلى إجماع 27 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، ويجب مناقشتها مع الولايات المتحدة وحلفاء غربيين آخرين.
إن فرض العقوبات على الشركات الروسية، وإخراج روسيا من نظام سويفت، كما هدد بايدن، يعني أن العديد من دول الاتحاد وشركاته سيتضرر نتيجة هذه العقوبات، وسيتعذر على الأوروبيين شراء الطاقة من الروس، ما سيؤدي إلى ارتفاع أسعارها وارتفاع أسعار السلع والنقل وسواها.
يقلق العديد من الدول الأوروبية، كما الحكومات – وخصوصاً بعد سنتين من الإغلاق نتيجة جائحة كورونا – من تأثير العقوبات على الروس في الاقتصاد الأوروبي، علماً أن العديد من دول الاتحاد يتجه إلى انتخابات مفصلية في العام 2022، وستتأثر طبعاً الحظوظ الانتخابية في ظلّ التضخّم الاقتصادي وارتفاع أسعار الطاقة.