يبدو معنى «الأمة» nation واضحاً في ظاهره للوهلة الأولى. لكنه في الحقيقة، موضع خلاف عميق، فمن النادر أن تجد كلمة بين المفردات الاجتماعية والسياسية المعاصرة تحمل من الالتباس ما تحمله هذه الكلمة. وإذا كانت الملاحظة المباشرة فرضت على الجميع التسليم بأن البشرية موزعة بين عدد من الأمم المتمايزة، فإن كل ماعدا هذا مختلف فيه من بعد.
إن الأمة ظاهرة تبدو جلية في العواطف التي يكنها أفرادها لها والمواقف التي تستثيرها، وهي معنى في أذهان الأفراد، يتصورونه عن الوجود الجمعي الذي يكونونه، ويقوم بالضرورة على أسس موضوعية راسخة، كما يقوم على عوامل ذاتية أيديولوجية لا تقل شأناً عن تلك الأسس. فلا عجب، والحال هذه، ألا يكون للأمة تعريف واحد جامع مانع، بل تعريفات كثيرة ومختلفة باختلاف آراء المفكرين.
الأمة بالمعنى اللغوي
الأمة من الأَمّ، وهو القصد، وأمة الرجل قومه، والجماعة من الناس أو الحيوان. والأُمة أيضا الشِّرعة والسنّة والدّين، كما في نص الآيتين الكريمتين:إنا وجدنا آباءنا على أُمّة (الزخرف 23)، وكان الناس أمّة واحدة فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين (البقرة 213)، أي كانوا على دين واحد، وبهذا المعنى يقال «أُمُّة محمد»، أي الذين على دين محمد، ويقال «الأمّة الإسلامية» أي الذين يعتنقون الإسلام ديناً.
إن تحليل المعنى اللغوي للأمة يبرز عدداً من العناصر، أولها أن الأمة جماعة، وثانيهما أن هذه الجماعة تجمعها جامعة معينة هي صلة القربى، فكأن أبناء الأمة إخوة ينحدرون من أصل واحد، أو أن نسبهم واحد.
وليست الأمة في اللغات الأخرى بعيدة عن هذا المعنى: فكلمة nation الفرنسية والإنكليزية أصلها اللاتيني natio وهو اسم مشتق من الفعل اللاتيني nascere، ومعناه أنجب أو ولد. وهذا يدل بوضوح على أن الأمة في الذهن اللاتيني جماعة متحدرة من أصل واحد.
مفهوم الأمة وما يقاربه
تكاد تعريفات الأمة تساوي عدد المفكرين الذين تناولوا موضوعها، ومن أهمها ما جاء في موسوعة ديدرو الفرنسية وهو: «الأمة اسم جنس يدل على مجموعة كبيرة من الناس، يعيشون على قطعة من الأرض، داخل حدود معينة، ويخضعون لحكومة واحدة» ولا يختلف جوهر تعريف الدولة[ر] في تلك الموسوعة عن تعريف «الأمة»، ونَصُّه: «الدولة اسم جنس يدل على جماعة من الناس، يعيشون معاً، في ظل حكومة واحدة، في سعادة أو شقاء».
أما تعريف الأكاديمية الفرنسية لعام 1694، فنصه: «الأمة هي مجموع سكان دولة واحدة، ووطن واحد، يعيشون في ظل قوانين واحدة، ويتكلمون بلسان واحد». ومن أشهر من حاول تعريف الأمة من المفكرين وعلماء الاجتماع والسياسة الفيلسوف الألماني فيخته (1762- 1814) Fichte والمؤرخ الفرنسي إرنست رينان Ernest Renan (1823- 1892) وعالم الأجناس الفرنسي مارسيل موس Marcel Mauss ورجل الدولة النمساوي أوتو باور (1882 - 1938) وكذلك ماركس ولينين وستالين. ولكل من هؤلاء وجهة نظر مختلفة حول تعريف الأمة وهي تعريفات تكاد لا تتفق في مضمونها إلا في نقطتين، هما أن الأمة جماعة، وأن للأمة جامعة أو أكثر تربطها فيما بينها، وهذا ما كان قد ذهب إليه «كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي في تعريفه للأمة، إذ يقرر أن «الأمة جمع، لهم جامع من دين أو زمان أو مكان أو غير ذلك». كما تشير هذه التعريفات إلى أن معنى الأمة لم يثبت على حال، وإنما كان يتطور بمرور الأزمان، ويرقى من المعنى العرقي إلى معنى الإرادة وحرية تقرير المصير، وكان يتغير بحسب مقتضى الحال من أمة إلى أخرى.
تطور معنى الأمة
إذا كان معنى الأمة اللغوي هو المعنى الأصلي القديم للأمة، فإن المفهوم الذي اكتسبه هذا المعنى لم يبق متفقاً مع المصطلح المعاصر، ذلك لأن مصطلح الأمة تطور تطوراً كبيراً، حتى غدا المعنى القديم مرفوضاً بل وموصوماً بالرجعية. والحق أن الاتفاق قائم بين الجميع على نقطة أولية هي أن الأمة جماعة، ولكن الخلاف يبدأ عند تحديد الجوامع التي تربط هذه الجماعة من الداخل، وتشدّ أواصرها، وتجعل منها وجوداً موحداً، وقد كان هذا الاختلاف في تعيين الروابط سبباً في تطور معنى الأمة وتحميله مضامين مختلفة باختلاف الأحوال، وإذا كان «العرق» نقطة البداية في هذا التطور، وهو جامعة موضوعية، غير ذاتية، لا مجال فيها لحرية الاختيار، فإن التطور اتجه نحو جعل حرية الانتماء ومشيئة العيش المشترك الجامعة الفضلى التي تكون الأمة.
الأمة وجامعة العرق: يبدو العرق أول وهلة عنصراً ثابتاً يمكن أن يبنى عليه كيان الأمة. وقد سبق أن معنى «الأمة» اللغوي لا يخلو من مضمون قريب من مفهوم العرق. ولكن فكرة العرق فكرة غامضة. زد على ذلك أن القول بأن الأمم قامت على أساس رابطة العرق الواحد ليس له أساس علمي. ولا يغير من واقع الأمر شيئاً إذا استبدل بلفظة «العرق» ألفاظٌ أخرى للتلطيف من وقعها، مثل الجنس أو السلالة أو الأصل أو صلة القربى أو النسب. والحق أن العرق، بعد أن كان في العصور السالفة ذا أهمية أولى، أخذ يفقد مع الزمن شيئاً من أهميته. ولو افترض أنه كان للعرق أهميته عند القبيلة أوالمدينة اليونانية القديمة، فإنه فقد مكانته في تكوين الأمم المعاصرة. فالأمة الفرنسية تتألف من أصول سلتية وإيبرية وجرمانية، وتتألف الأمة الألمانية من أصول جرمانية وسلتية وسلافية. أما إيطالية فهي مثال على اختلاط العروق، ففيها الغاليون والبيلاجيون والإتروسكيون واليونانيون وغيرهم. وسكان الجزر البريطانية خليط من السلتيين والجرمان. وهكذا تبرز الحقيقة الساطعة وهي أن «أعرق» الأمم الأوربية الحديثة هي أكثرها اختلاط عروق. فالعرق في المفهوم الحديث ليس من مقومات الأمة، لأن الأمم الحديثة نتاج تمازج بين قبائل وشعوب مختلفة، ولا يوجد عرق نقيّ صاف، وأن القول بالعرق الصافي وهم خطير حمل النازيون لواء الدعوة إليه والدفاع عنه، وقد أميط اللثام عما في هذه الفكرة من خطر على الإنسانية وما فيه من عدوانية. غير أن هذا كله لا ينفي أن «الاعتقاد» بوحدة الأصل يظل ذا أثر مهم في تكوين الشعور بالانتماء القومي.
الأمة وجامعة الدين: قد يكون الدين في بعض الحالات عاملاً إيجابياً يساعد على تأكيد وحدة الأمة، غير أن وحدة العقيدة الدينية لدى أبناء الأمة لا تعدُّ شرطاً لازماً لوحدة الأمة، لأن اختلاف العقائد والمذاهب الدينية لا يحول دون وحدة الأمة، كما هي الحال في أمريكة وفي فرنسة وفي ألمانية، والحق أن تأثير العامل الديني يختلف من أمة إلى أخرى، فقد يكون ذا أثر إيجابي في أمة معينة، ويكون ذا أثر سلبي في أمة أخرى عندما تؤدي النزاعات الدينية إلى تصدع في كيان تلك الأمة. وإذا كان الإسلام من أسباب توحيد كلمة العرب ونقلهم من طور القبائل المتناحرة إلى طور «الأمة»، فقد كان للدين في أحوال أخرى أثر معاكس؛ فقد شقت حركات الإصلاح الديني الغرب ومزقت الامبراطورية الرومانية المقدسة إلى دول قومية أو أمم مستقلة. ولعل تلك كانت آخر محاولة للإبقاء على دين واحد للدولة. ويصف رينان هذه المحاولة بأنها كانت «خطأ، وجريمة، وحماقة حقيقية، لأنه لم تعد هناك جماهير لأمة واحدة تؤمن إيماناً موحداً» وإنما غدا الدين شأناً فردياً، أي إن معنى الأمة ابتعد عن المعنى الديني وأصبح بالتدريج معنى اجتماعياً وسياسياً وإرادياً. ومن أبرز المفكرين العرب الذين أبعدوا «الأمة» عن المعنى الديني الفارابي والمسعودي وابن خلدون، فاقتربوا بذلك من معنى «الأمة» المعاصر.
ومع ذلك تبقى هناك حالة خاصة لا مثيل لها ولا نظير، هي الصلة الوثيقة بين الأمة العربية والإسلام، وهي صلة عميقة قد يؤدي عدم إيضاحها بدقة إلى بعض الالتباسات. فالإسلام وحد القبائل العربية وأقام للعرب دولة واحدة، وهو دين العرب القومي، ورسالتهم التي حملوها إلى العالم، وهو يشغل الحيز الأعظم من تاريخ الأمة العربية وتراثها وحضارتها وثقافتها، أي إنه عنصر داخلي من ماضي الأمة العربية لا ينفصل عنه، فهو عنصر قومي بالمعنى عينه الذي يقال عن التراث التاريخي العربي وعن الثقافة العربية الإسلامية. ومن جهة أخرى فالإسلام دين إنساني (أو أممي) وليس حكراً على العرب، وإنما جاء للعالم كافة، واعتنقته أمم وشعوب أخرى كثيرة ظل فيها معتقدات وشعائر وحسب.
وأخيراً يجدر هنا التفريق بين «الأمة العربية» وأمة الإسلام، فالأمة العربية تشتمل على معنى قومي، أما «الأمة الإسلامية» فلا تتضمن، وينبغي ألا تتضمن، أي معنى قومي، وإنما تنصرف إلى معناها اللغوي، أي الدين والشرعة.
الأمة وجامعة اللغة: يذهب عدد كبير من المفكرين إلى الإعلاء من شأن اللغة ودورها في تكوين الأمة، ويأتي في طليعة هؤلاء: المفكرون الألمان من أمثال هيردر وفيختة وماكس نورداو، وقد نسج على منوالهم المفكران العربيان زكي الأرسوزي[ر] وساطع الحصري[ر]. وإذا كانت هناك فروق في التفاصيل بين هؤلاء المفكرين جميعاً، فإنهم يتفقون على أن اللغة تشكل فاصلاً أو حداً يفرق بين أمة وأخرى، وأن اللغة وعاء فكر الأمة في رأي بعضهم وفكر الأمة ذاته في رأي آخرين، فهي التعبير الحقيقي عن روح الأمة وشخصيتها العميقة المتميزة. ويرى بعض هؤلاء المفكرين أن اللغة شرط لازمٌ وكاف وحده لتكوينها، في حين يرى آخرون أنها شرط لازم بين شروط أخرى لتكوين الأمة. ومما يذكر في هذا المجال ملاحظة إرنست رينان الذي ذهب إلى أن اللغة تشجع على الوحدة غير أنها لا تقسر عليها، فالعالَم الذي يتكلم اللغة الإسبانية يشمل إسبانية وقسماً كبيراً من أمريكة اللاتينية، وهي أمم شتى، والعالم الذي ينطق باللغة الإنكليزية يشمل الولايات المتحدة وبريطانية وأسترالية وكندا وغيرها، وهي أمم منفصلة. أي أن اللغة ليست شرطاً كافياً لتكوين أمة واحدة. ولرينان ملاحظة أخرى يشير فيها إلى أن سويسرة قامت على التراضي، مع أن سكانها يتكلمون أربع لغات أساسية، وهو دليل على أن اللغة ليست شرطاً لازماً لتكوين الأمة. غير أن هاتين الملاحظتين لا تكفيان لنفي الدور المهم الذي تقوم به اللغة في تكوين أمم كثيرة وفي وحدتها، وليستا أكثر من دليل على أن عوامل تكوين الأمم تختلف من أمة إلى أخرى. والحق أن اللغة عند كثير من المفكرين القوميين تبقى أبرز العوامل الموضوعية التي تكون الأمة أو تسهم في تكوينها، وتظل أصلب القواعد التي تقوم عليها وأرسخها.
الأمة وجامعة الأرض: تؤلف جامعة الأرض مرحلة مهمة في مراحل تطور معنى الأمة، فهي تتوافق مع انتقال البشر من مرحلة البداوة إلى مرحلة الزراعة. ومن هنا جاء مصطلح «الوطن» بمعناه الذي يميز الأمة من القبيلة، وكذلك معنى «الوطنية»، وهي تعلُّقُ أبناء الأمة بوطنهم واستعدادهم للدفاع عن أرض أمتهم. فالأرض شرط لابد منه لقيام الدولة، وفي الدولة القومية يكون هناك تطابق بين أراضي الدولة بحدودها الطبيعية وبين حدود الوطن القومي أو وطن الأمة، وتتعين حدود الوطن القومي في أغلب الحالات بفواصل طبيعية جغرافية كالجبال والأنهار.
غير أن رينان يلاحظ أن الجبال والأنهار لا تقيم الحدود دائماً، فإذا كانت الجبال تفصل بين الأمم، فإن الأنهار تزيد الصلات بين الشعوب وتجمع بين الحضارات. زد على ذلك أن الجبال في داخل الدولة الواحدة لا تعد فاصلاً بين أجزائها. ومن أبرز المعترضين على جامعة الأرض أوتو باور، وهو داعية منح الحكم الذاتي للقوميات الصغيرة في ظل امبراطورية النمسة والمجر، حتى لو كان أبناؤها مشتتين أو موزعين في بقاع مختلفة.
ومع هذه الاختلافات التفصيلية بشأن الأرض أو «الوطن»، فليس ثمة خلاف على أن الأمة «وجود في مكان»، أي «وجود على الأرض». ولو افترضنا جدلاً عدم الاتفاق على «الأرض» من حيث هي شرط لازم للأمة، فلا يمكن أن تكون «الأرض» موضع جدل من حيث هي شرط لازم لبناء الدولة.
الأمة وجامعة المصلحة الاقتصادية: الماركسيون هم أبرز من ألَحَّ على أهمية هذه الجامعة، حتى إنهم ربطوا بين نشوء الأمة ونشوء السوق القومية، وأكدوا قيام النظام الرأسمالي على أنقاض النظام الإقطاعي. وعلى ما في هذه الفكرة من وجاهة، فإن من المؤكد أيضاً أن العامل الاقتصادي وحده لا يكوّن أمة، كما أن النطاق الجمركي لا ينشئ وطناً، ذلك لأن في الجامعة القومية عنصراً عاطفياً معنوياً غير مادي لا يمكن تفسيره بالمنفعة الاقتصادية من دون سواها.
الأمة والجوامع الأخرى: هناك جوامع أخرى كثيرة إلى جانب الجوامع السابق تفصيلها أبرزها المفكرون والباحثون، كجامعة إرادة العيش المشترك، وجامعة التاريخ، أو الماضي المشترك، أو التراث، وجامعة العادات والتقاليد، والثقافة، وغيرها.
معنى «الأمة» الحديث: اختفت من معنى «الأمة» الحديث آثار العرق أو الجنس أو السلالة أو الأصل أو صلة القربى، وتحولت هذه العوامل، التي كان يفترض أنها موضوعية، إلى عامل ذاتي يطلق عليه اسم «الانتماء» أو «الشعور بالانتماء». وفي أحيان أخرى حلت اللغة محل العرق أو أكدته. وإذا كانت التقسيمات اللغوية قد أُلبست أحياناً دلالة عرقية، فإنها تطورت بدورها لتتخفف من هذه الدلالة، باتجاه إسباغ الدلالة الثقافية والفكرية عليها. ويتجه معنى الأمة اتجاهاً متزايداً إلى الاستقرار على أساس إرادة الجماعة للعيش المشترك (وهي عامل ذاتي) على أرض معينة. والسبيل الذي يأخذ به العصر الحديث للكشف عن إرادة العيش المشترك، هو الاستفتاء بمقتضى حق تقرير المصير.
الأمة والمعاني القريبة منها
يتداخل معنى الأمة مع بعض المعاني تداخلاً كبيراً حتى ليتوهم كثيرون وجود تطابق بينها. وأبرز هذه المعاني «الدولة» و«القومية».
الأمة والدولة: أرجح الظن أن الالتباس بين هذين المعنيين لا يرجع في الأصل إلى اللغة العربية، وإنما منشؤه من اللغات الأجنبية ومن الترجمة عن هذه اللغات. فكلمة nation في اللغات ذات الأصل اللاتيني معناها «الأمة» و«دولة، أو دولة قومية» في الوقت نفسه. مثال ذلك «منظمة الأمم المتحدة» - وقبلها «عصبة الأمم» - مع أنها تتألف من «دول» لا من «أمم»، وكلمة «الأمم» هنا ترجمة لكلمة nations المستخدمة في الاسم الأجنبي، وهي قد تدل على المعنيين كليهما. وقد يكون الالتباس ناجماً عن شكل واحد من أشكال الدولة هو الدولة القومية، وهذه هي الحالة المثالية، التي تتطابق فيها حدود الدولة مع حدود الأمة. بيد أن عدم قيام الدولة القومية لا ينفي وجود الأمة. فالدولة واقع سياسي لا يتطابق مع الأمة بالضرورة. وعندما لا يتحقق هذا التطابق تكون الدولة امبراطورية أو اتحادية متعددة القوميات، أو تكون بالعكس قطرية إقليمية تشكل جزءاً من أمة كاملة. وكل أمة تنزع عادة إلى إقامة دولتها القومية، لأن وجودها يظل ناقصاً بلا دولة، ولا يتطور إلا بها. فالدولة الفرنسية هي التي بلورت شخصية الأمة الفرنسية، ونقلتها من «القول» إلى «الفعل»، بعد أن صهرت مختلف العناصر القومية في شمالي فرنسة وجنوبيها، مع أنها في الحقيقة اسم لا تنطوي تحته إلا أقلية ضئيلة من الفرنجة. غير أن أثر الدولة في تكوين الأمة لا يكون على هذا الغرار دائماً، ففي حين نجح التاج الفرنسي في هذا المضمار، أخفقت امبراطورية النمسة والمجر في صهر رعاياها ذوي الانتماءات القومية المختلفة ودمجهم في انتماء قومي واحد.
الأمة والقومية: تستخدم كلمة «القومية» بمعان متعددة. فالقومية بمعناها الأول الذي يقابل كلمة nationalism، هي حركة تاريخية تعبر بها الأمة عن طموحها وآمالها في مرحلة معينة، وتفضي بها إلى اتباع طرائق ووسائل مختلفة لتحقيق غاياتها، بصرف النظر عما إذا كانت تلك الغايات والوسائل عدوانية توسعية، أو مناهضة للعدوان والتوسع. فالقومية، بهذا المعنى، من مجال الفكر أو الأيديولوجية، في حين أن الأمة من مجال الوجود. والقومية بالمعنى الثاني الذي يقابل كلمة nationalité لها أكثر من مفهوم، فقد يقصد بها جماعة مترابطة بروابط داخلية ومتميزة من غيرها من الجماعات. وبهذا المعنى يقال إن في الاتحاد السوفييتي السابق أو في الاتحاد اليوغسلافي السابق قوميات متعددة، لا قومية واحدة. أي إن القومية هنا تعبر عن وجود جماعي خاص، ويكاد معناها يتطابق مع معنى الأمة، حتى إنه يصعب التمييز بين هذين المعنيين. ولعل الفرق بينهما يتمثل في أن القومية nationalité تدل بوجه العموم على جماعة قومية أصغر نسبياً من الأمة، فلا تطمح إلى أكثر من الحكم الذاتي.
النظريات المختلفة حول الأمة
كان معنى الأمة دائماً مدار خلاف عميق بين المفكرين مع اتفاقهم على وجودها، لأن أكثرهم ينظرون إليها نظرة أيديولوجية ويختلفون في تحديد العامل المرجعي في تشكلها، مما ولّد عدة تصورات حولها اصطلح على تسميتها نظريات:
نظرية اللغة: وهي نظرية قال بها عدد من المفكرين الألمان فعرفت بالنظرية الألمانية، وفي طليعة هؤلاء هيردر Herder وفيخته Fichte. ومحور تلك النظرية أن وحدة اللغة أساس لقيام الأمة. فقد بحث هيردر في علاقة اللغة بشخصية الأمة، ورأى أن اللغة هي الوعاء الذي تتكون فيه أفكار الشعب، وتحفظ فيه ويتناقلها الناس، وأن اللغة بصرف النظر عن منشئها، تحدد الأطر الموجهة لوحدة الفكر، وأنها تمثل روح الشعب ونبضه، وإن روح الشعب تكمن في لغة الآباء والأجداد. لذا على كل أمة أن تتمسك بلغتها الخاصة تمسكها بحياتها. أما فيخته فقد رأى أن «الفوارق بين أهالي بروسية وسائر الألمان ليست إلا فوارق عارضة وسطحية مادامت اللغة تجمع بينهم، أما الفوارق التي تميز الألمان من سائر الشعوب الأوروبية، فأساسية وطبيعية، واللغة التي يشترك فيها جميع الألمان تميزهم من جميع الأمم الأخرى تمييزاً جوهرياً». وقد صرح فيخته في خطبه التي ألقاها على الشبيبة الألمانية في برلين عشية معركة يينا Jena واحتلال نابليون ألمانية، بأنه يوجه خطابه إلى «جميع الذين يتكلمون اللغة الألمانية» لأنهم في رأيه «أمة واحدة». فاللغة والأمة عنده أمران متلازمان ومتعادلان وأن الروابط التي توجدها اللغة بين متكلميها لا تقبل الانفصال.
لقد أثارت هذه النظرية فزع الفرنسيين، لأن سكان مقاطعتي الألزاس واللورين الفرنسيتين يتكلمون الألمانية وهذا يعني أنه يجب أن تضما إلى الأمة الألمانية، لهذا انبرى المفكر الفرنسي إرنست رينان لتفنيد هذه النظرية، فقال إن الاعتماد على اللغة وحدها والإفراط في هذا الاعتماد، له أخطاره، وعبر عن خشيته من أن تكون الأهمية السياسية التي تضفى على اللغة نابعة من النظر إليها على أنها ذات دلالة عرقية، وقال إن تقسيم اللغات إلى لغات سامية ولغات هندية - أوربية على أساس فقه اللغة المقارن لا يتوافق مع تقسيمات الأنتروبولوجية[ر]، ولا دلالة عرقية في اللغة. ويبدو أن انتقادات رينان هذه، علاوة على ملاحظاته التي سلفت في نقد جامعة اللغة، نابعة من دوافع ظرفية، وإذا كان صحيحاً أن اللغة «وحدها» لا تكفي لتكوين الأمة، فإن النظرية الألمانية لها فضل السبق إلى إبراز أهمية اللغة، التي أصبحت في العصر الحاضر أحد الأسس الموضوعية لتكوين الأمة وتمييزها من غيرها من الأمم.
نظرية المشيئة المشتركة: تنسب هذه النظرية إلى المفكرين الفرنسيين، ولذلك يطلق عليها أيضاً «النظرية الفرنسية»، ولعل أهم منظريها إرنست رينان. يرى رينان أن الأمة مفهوم حديث في التاريخ، وأن التاريخ صهر الأجناس التي تتألف منها الأمم، وأن التاريخ استخدم في عملية الصهر هذه التفاعل الحضاري مع الكثير من الأعمال اللاإنسانية كالإبادة والإرهاب، ولكنه أوجد في خاتمة المطاف أسساً مشتركة فحواها أن من مصلحة الجميع نسيان الماضي والتوقف عن نبش مآسيه. فأوربة لم تتوزع أمماً متمايزة إلا بعد تفسخ امبراطورية شارلمان وتفككها. وأن الغزو الجرماني هو الذي أوجد المبدأ الأساس لوجود القوميات، إذ فرض أرستقراطيات عسكريةً أُسَراً حاكمة، ثم اعتنق الغزاة دين المهزومين، ونسوا لغتهم الأصلية، فنشأت الدول من اندماج السكان، وظلت تحمل أسماء أسرها الحاكمة. الأمة إذن محصلة تاريخية، وإن النبش في التاريخ وإبراز عوامل الدمج القسري والإذلال تكون خطراً أحياناً على التلاحم القومي، لأنه من قبيل نبش الماضي. وإذا كان جوهر الأمة يتمثل في وجود كثير من الأمور المشتركة بين الأفراد جميعهم، فإنه لأمر جوهري أيضاً أن ينسى هؤلاء كثيراً من الأمور الماضية. ومن مصلحة الجميع أن يعرفوا كيف ينسون. وينتقد رينان وحدة اللغة ويضع الإرادة والمشيئة في مرتبة أسمى منها، كما يرى أنه لم يعد للدين علاقة بالدولة.
وإذا كانت المشيئة الحرة في اختيار العيش المشترك أكثر توافقاً مع مقتضيات عصرنا الحاضر، فإن هذه «المشيئة» قد لا تتمتع إلا بقدر قليل من الثبات. وهي على وجاهة ما تطرحه إضافة إلى بريقها الديمقراطي تبدو خيارا حراً في الظاهر ولكنها ليست كذلك في واقع الأمر، لأنها استجابة لما هو ممكن وللمصلحة العامة المقنعة بقناع فكري أو روحي ومرهونة بالجذر النفعي للمشيئة المشتركة، فإذا ما تغيرت المصالح والمنافع انتهى الأمر إلى زعزعة كيان الأمة القائم على المشيئة المشتركة. زد على ذلك أن «المشيئة» قد تفسر قيام الدول أكثر مما تفسر نشوء الأمم، وتعبر عن نفسها بالاستفتاء وحق تقرير المصير، في حين لم يحدث أن استفتي فرنسي، على سبيل المثال، في أن يكون فرنسياً، أو ألماني في أن يكون ألمانياً.
النظرية الماركسية: يلتقي المفكرون الماركسيون وبعض الاشتراكيين على أن الأمة ظاهرة تاريخية نشأت بنشوء النظام الرأسمالي على أنقاض النظام الإقطاعي، وتوطدت بصعود الرأسمالية، ويلتقون على حتمية زوالها في مرحلة متقدمة من تطور المجتمعات البشرية، غير أن بينهم فروقاً مهمة في التفاصيل؛ فلم يضع ماركس نظرية في الأمة مثل فيخته، بل وضع نظرية في الدولة على غرار هيغل. وهو يرى أن الأمة الحديثة تتكون بتكامل عدد كبير من الناس على مساحة واسعة من الأرض، واشتراكهم في سوق قومية، ويتحقق هذا التكامل بصناعة قوية ووسائل نقل ومواصلات متطورة. وهذا الرأي لا ينطبق إلا على إنكلترة وفرنسة وألمانية والولايات المتحدة وروسية. وقد حاول ماركس التوفيق بين الأمة من حيث هي واقع وبين نظريته حول الصراع الطبقي، فأعاد تحديد المفاهيم القومية بتعابير اشتراكية، مثل إطلاقه اسم «الطبقة القومية» على طبقة البروليتارية. غير أن اعتراف ماركس بالأمم والقوميات حقائقَ واقعةً، لم يمنعه من القول إنه يمكن أن يضحي بحقوق بعض الأمم والقوميات لمصلحة النضال البروليتاري، التي يمكن أن تتطابق مع مصلحة أمم وقوميات أخرى. وفي سنة 1848 وقف موقفاً مناهضاً لحركة التحرر القومي لدى التشيك والكروات، لأن روسية الرجعية (في عصره) قد تستغل هذه الحركة لتحول دون تحرر المجر، وهو أمر مهم لمستقبل نضال البروليتارية. وفي سنة 1882 عارض أنغلز بدوره انتفاضة دلماسية القومية على الاضطهاد النمساوي، لأن التحرر القومي يجب أن يصبر حتى تتحرر البروليتارية.
أما لينين فقد كتب أكثر من مرة أن ثمة «نظريتين ماركسيتين في المسألة القومية»، الأولى نظرية باور، والثانية نظرية كاوتسكي، ولم يعترف بأي نظرية ثالثة. أما هو فقد سجل آراءه على هدي فكر ماركس في مناسبات مختلفة. وقد تحدث لينين عرضاً، قبل انتصار الثورة البلشفية، عن حق الأمة في تقرير مصيرها بحرية، وقال بوجوب تطبيقه في الدولة الاشتراكية المقبلة بعد قيامها، فيحدث تقارب متسارع بين القوميات في تلك الدولة إلى حد الاندماج. وعارض لينين دعوة أوتو باور إلى الاستقلال الذاتي القومي غير الإقليمي وعد ذلك دعوة خاطئة. لكنه اعترف أن من حق القوميات أن تطلب الاستقلال الذاتي أو الاستقلال التام، وكان يقدر، على النقيض من روزا لكسمبورغ، أن مطالب القوميات غير الروسية يمكن أن تشكل قوة ثورية كبرى في الامبراطورية الروسية. غير أن الحق القومي نسبي ومشروط عند لينين، إذ لا يجب دعم الحق القومي إلا إذا تطابق مع مصلحة البروليتارية، «لأن حق الطلاق لا يعني لزوم الطلاق». وعارض لينين تنظيم الحزب على شكل اتحاد مؤلف من فروع قومية، وأصر على تنظيمه حزباً مركزياً موحداً ذا فروع إقليمية جغرافية.
وكان أوتو باور قد ناقش في عام 1907 المسألة القومية في كتابه الضخم «مسألة القوميات والاشتراكية» ونادى بالاستقلال الذاتي الثقافي غير الإقليمي، ووصف الأمة في كتابه بأنها «مجموع الناس الذين يربط بينهم مصيرهم التاريخي وخصائصهم القومية». فالطابع القومي عنده هو خلاصة مجمل تاريخ الأمة، ونضال الأجداد لأجل العيش في ظل القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج السائدة. أما كاوتسكي فقد عرض عام 1917 رأيه في الأمة في كراس بعنوان «تحرير الأمم» وانتقد نظرية باور. وهو يرى أن معيار الأمة هو اللغة وحدها، فالثقافة غير المرتبطة باللغة ارتباطاً وثيقاً، لا ترتبط بالأمة بالضرورة. ويرى أن «الطابع القومي» لا يوجد إلا في الأمم القليلة العدد الصغيرة الرقعة والخاضعة لشروط شديدة التماثل. وهذه الشروط المتماثلة هي التي توجد ثقافة واحدة لدى شعبين يتكلمان لغتين مختلفتين: فالتشيكيون «ألمان يتكلمون اللغة التشيكية». والعمال لكثرة نزوحهم وتنقلهم يصبحون من ذوي لغتين أو ثلاث لغات، ومن يتكلم عدة لغات لا يبقى متعلقا بالأمة التي ولد فيها، ويمكن أن يبدل أمته وفق مشيئته. أما ستالين فقد عرض رأيه في مسألة الأمة في مقالة نشرها عام 1913 وفيها أن الأمة ظاهرة تاريخية تكونت على أساس جوامع محددة هي: اللغة، والأرض، والحياة الاقتصادية المشتركة والثقافة المشتركة، وأن الأمة في رأيه خاضعة لقوانين التطور كأي ظاهرة تاريخية، ولها بداية ونهاية في التاريخ، أي أنها تمثل مرحلة تاريخية زائلة، وأن توافر تلك العناصر كلها مجتمعة هو الذي يوجد الأمة ومن الضروري التأكيد أن أياً من العناصر المذكورة لاتكفي بمفردها لتعريف الأمة.
الأمة العربية ومقوماتها:
يتبين من عرض النظريات السابقة أن الأمة، مثلها مثل أي ظاهرة اجتماعية وإنسانية، لا يمكن أن ترد إلى عامل واحد، وأن للتجربة التاريخية تفردها، وهي تخص أمة بعينها، وليس من الضروري أن تتكرر في أمة أخرى. ومع أن العوامل المؤثرة في تكوين الأمة قد تتوافر كلها أو بعضها في واقع ما، فإنها تفقد فاعليتها إذا لم يتمثلها الأفراد في وعيهم وسلوكهم. والأمة العربية، مثلها مثل الأمم الأخرى، تتمتع بمجموعة من الخصائص تميزها من غيرها، وقد كان للغة والدين والتاريخ، كما ذكر، أثر بارز في تكوينها. و ثمة نظريات وآراء كثيرة حول الأمة العربية طرحها وناقشها مفكرون عرب وغير عرب على غرار نظائرها في العالم، لعل من أهمها:
الأمة العربية في فكر ساطع الحصري: لخص ساطع الحصري رأيه في الأمة العربية بقوله: «إن أسّ الأساس في تكوين الأمة هو وحدة اللغة ووحدة التاريخ، لأن الوحدة في هذين الميدانين هي التي تؤدي إلى وحدة المشاعر والمنازع، ووحدة الآلام والآمال، ووحدة الثقافة، فيشعر الناس أنهم أبناء أمة واحدة، متميزة من الأمم الأخرى. ولكن لا الدين، ولا الدولة، ولا الحياة الاقتصادية من مقومات الأمة الأساسية». كما أنه يخرج الأرض من عداد هذه المقومات، لأن الأرض تتوسع وتتقلص، ولأن الأمة تنتقل من أرض إلى أرض، كما أن الأرض الواحدة قد تضم أمماً مختلفة. وهو يرفض دور الإرادة أو المشيئة في هذا المجال، فالعربي عنده «عربيٌ شاء أم أبى، اعترف هو بذلك أم لم يعترف في الحالة الحاضرة، إنه عربي جاهل، أو غافل، أو عاق، ولكنه عربي فاقد الوعي والشعور، وربما كان في الوقت نفسه فاقد الضمير». ولا يعترف الحصري إلا بعاملين موضوعيين، هما اللغة التي «تكون روح الأمة وحياتها»، والتاريخ الذي «يكوّن ذاكرة الأمّة وشعورها».
ولم يكن الحصري منظّرا فحسب بل كان رجل عمل أيضا أدرك أهمية التربية في إيقاظ الوعي القومي فصرف القسط الأكبر من حياته في وضع منهج تربوي يضمن، في رأس أولوياته، تجذير اللغة العربية والتاريخ المشترك في وعي الناشئة.
الأمة العربية في فكر زكي الأرسوزي: تعد آراء الأرسوزي في الأمة جزءاً لا يتجزأ من تأملاته الفلسفية العامة ولا يمكن فصلها عن نظريته في اللغة (أو اللسان). فالأمة والأُم عند الأرسوزي من مصدر واحد، وهو الأَمٌّ أي القصد. ولهذا يتوجه أبناء الأمة إلى أمتهم توجه الفرع إلى الأصل. إنهم أخوة في أسرة واحدة. شأنهم شأن الكلمة في أسرتها، وهم يتعاونون في الكشف عن معنى وجودهم ويشتركون في تحقيقه، كما تتعاون الكلمات المشتقة من مصدر واحد على التعبير عن الحدس المضمر في ذلك المصدر المشترك. وكل فرد ينفصم عن أمته ويتنكر لها يموت، لأنه ضل أو تاه عن المصدر الذي يعطي معنى لوجوده، شأنه في ذلك شأن الكلمة التي تتحول إلى مصطلح، فتنقطع أو تبتعد عن مجموعتها، ويغيب معناها الأصلي. والأمة عند الأرسوزي ليست حادثة تاريخية، بل هي مخطط ينبثق مباشرة من الملأ الأعلى ويندرج في المكان والزمان، أي في الواقع التاريخي، ويستمر إلى الأبد. وينتقل هذا المخطط عبر الزمن عن طريق الأصالة (الوراثة)، ولكنه قد يغيم ويغيب عن بصائر أبناء الأمة، إذ تُضلُّهم «الهُجنة» عنه، فتنحرف خطاهم عنه، ولا سبيل إلى درء هذا الخطر إلا بالعودة إلى «اللسان العربي» وهو تجل «بَدِيء» (أي أصيل وعفوي) يعبر عن مخطط الأمة، لأنه ظل لساناً اشتقاقياً، فحافظ على بنيان الأمة وحدسها ومواقفها لاستجلاء معنى وجودها الأصيل. وإذا كان كل عربي يحمل سمات أمته في مورّثاته، التي ولدت معه، فإنه لا يستطيع تحقيق وجوده إلا إذا كان، مثل العربي في الجاهلية، حراً سيداً على قدَره ومصيره. ومن هنا كانت دعوة الأرسوزي إلى الحرية وإلى الديمقراطية، التي هي النظام الأمثل لتحقيق شخصية الأمة العربية.
ويرى الأرسوزي أن المبدأ هو الذي يعين الواقع لا العكس، لذلك يجب البحث عما هو بدئي ليتم إرساء كل وجود وفكر عليه، وفي ضوء ذلك يرى الأرسوزي أن مبدأ الأمة هو الأم، وكما أن الموجودات من الوجود والكلمات من المصدر والجنين من رحم الأم، فإن العلاقة بين الأمة وأبنائها علاقة عضوية هي صلة القربى أو علاقة الرحم. وإن اختلاف الأمم عائد إلى اختلاف صلات الرحم بينها، والأفراد لا معنى لهم بغير الأمة، فهم فيضها، وكل منهم يجب أن يرى الأمة في ذاته، وآية ذلك في الأمة العربية أن يتمثل الفرد العفوية المطلقة التي تحرره من الخوف ومن التأمل في العواقب، فتتحرر البطولة من كوابحها وتتألق في الفرد وفي الأمة. وانتماء الفرد إلى الأمة ليس قراراً عقلياً أو مجرد رغبة إرادية، إنه قدر الأفراد كما هو قدر الأمة، واستحضار الأمة في الفرد قوامه الحدس بلسانها.
ولا يقلل الأرسوزي من شأن الإسلام في تأصيل الأمة العربية، فبالإسلام تحولت أخلاق العرب إلى رسالة، وتحولت الجذوة الملهمة للبطولة من طلب المجد والتفاخر إلى ثواب الآخرة، وأما السبيل إلى استرجاع هذه الجذوة وعودة العربي ليكون سيد قراره فهو سيادة الحرية والديمقراطية..
الأمة العربية في نظرية حزب البعث العربي الاشتراكي: حزب البعث حزب قومي، يعتقد أن الأمة العربية وجود خالد وليست حادثة تاريخية، أو مرحلة عابرة تزول بزوال عوامل تكونها. وهو ينطلق من مسلمة أولى هي أن «العرب أمة واحدة» لها الحق الطبيعي في أن تحيا في دولة واحدة، وأن تكون حرة في توجيه مقدراتها. وللأمة العربية شخصية متميزة من غيرها من الأمم بمزايا متجلية في نهضاتها المتعاقبة، وهي «تتسم بخصب الحيوية والإبداع، وقابلية التجدد والانبعاث، ويتناسب انبعاثها دوماً مع نمو حرية الفرد، ومدى التوافق بين تطوره وبين المصلحة القومية».كما أن «الأمة العربية ذات رسالة خالدة، تظهر بأشكال متجددة متكاملة في مراحل التاريخ، وترمي (هذه الرسالة) إلى تجديد القيم الإنسانية وحفز التقدم البشري وتنمية الانسجام والتعاون بين الأمم». والجوامع التي تكوّن الأمة العربية ثلاث، هي اللغة والأرض والشعور بالانتماء إلى العرب. وتتضح هذه الجوامع من تعريف العربي بأنه «من كانت لغته العربية، وعاش في الأرض العربية أو تطلع إلى الحياة فيها، وآمن بانتسابه إلى الأمة العربية». أما الأرض العربية فهي «الوطن العربي» الذي يشكل وحدة سياسية اقتصادية لا تتجزأ وهو هذه البقعة من الأرض التي تسكنها الأمة العربية، والتي تمتد ما بين جبال طوروس وجبال بشتكوه وخليج البصرة والبحر العربي وجبال الحبشة والصحراء الكبرى والمحيط الأطلسي والبحر المتوسط، والذي يحق للعرب أن يقيموا عليه دولتهم القومية الحرة المستقلة، لأن الوطن العربي للعرب، ولهم وحدهم حق التصرف بشؤونه وثرواته وتوجيه مقدراته.