تزامنت زيارة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريس إلى لبنان، مع العديد من المؤشرات والوقائع التي تتقاطع مع معطيات إقليمية ودولية تعطي دفعاً نوعياً لكيفية الإسهام في حل الأزمة اللبنانية وطرق ووسائل التدخل بشكل فعال فيها.
وبشكل عام، لا يخصص الأمين العام للأمم المتحدة زيارة خاصة لدولة أو منطقة محددة بعينها، إلا إذ كانت طبيعة المهمة أو الزيارة لها صلة بأزمة تهدد الأمن والسلم الدوليين، ومن هذا المنطلق ، ربما تجمعت معطيات محددة دفعت بالأمين العام جوتيريس وطبعاً بالقوى الكبرى لرسم مسار تحرك لزيارته لبنان.
المؤشر الأول زيارة الموفد الأمريكي الخاص بالمفاوضات اللبنانية الإسرائيلية المتصلة بترسيم الحدود البحرية، والمؤشر الثاني انسداد الأفق السياسي في الداخل اللبناني وتأزم الأمور وسط انكفاء وعدم قدرة الأطراف الدوليين التقليديين على التدخل لتحريك مشاريع حلول في لبنان، علاوة على استمرار ربط الوضع اللبناني بمفاوضات الملف النووي الإيراني، إضافة إلى ظهور مطالبات عديدة وواضحة ومباشرة لتدخل الأمم المتحدة في الأزمة اللبنانية.
أعقد هذه الملفات ملف ترسيم الحدود اللبنانية الإسرائيلية وخصوصاً ما يتعلق بالحدود البحرية؛ حيث توجد كمية كبيرة من الغاز تفوق عائداتها المئة مليار دولار على أقل تقدير، وهذا ما جعل لبنان متمسكاً بأن يحصل على كامل حقوقه في مياهه البحرية.
إن تتبع لقاءات الأمين العام مع المسؤولين اللبنانيين والتدقيق في تصريحاته تؤشر إلى سياقات تشي بدور ما للأمم المتحدة لاحقاً، سيما ما يتعلق بالانتخابات النيابية المزمع إجراؤها في الربيع القادم وبالتحديد في الخامس عشر من أيار/مايو، إضافة إلى ما سيستتبعها في حال حصولها من انتخابات رئاسية، ما يعني أن ثمة نية ما ستضع الأمم المتحدة في صلب المشاريع اللبنانية لاحقاً.
إن التدقيق في وسائل عمل الأمم المتحدة في العقدين الماضيين، يظهر تثبيت أعراف وقواعد جدية اعتمدتها ومضت فيها في العديد من الدول، لجهة المساعدة في إجراء عمليات الانتخاب وإعادة تكوين السلطة وصولاً إلى الإسهام في إيجاد صيغ سياسية اجتماعية للنظم السياسية المستهدفة، وتمكنت في الكثير من الحالات من إنجاز ملفات معقدة، توصلت من خلالها إلى بناء نظم سياسية مستقرة بعد عقود من عدم الاستقرار والغرق في حروب داخلية بمظاهر عنفية قاسية، كمثال تيمور الشرقية وهاييتي وغيرهما.
وفي لبنان، ثمة إشارات واضحة أدلى بها الأمين العام جوتيريس لجهة إمكانية مساعدة لبنان على إعادة صياغة النظام بعد الانتخابات المقررة، سيما وأن ثمة إشارات أخرى تتصل بإعادة صياغة عقد سياسي اجتماعي يلبي طموحات اللبنانيين، بعد أكثر من ثلاثة عقود من تعثر تطبيق اتفاق الطائف، الذي تم التوصل إليه، بعد حروب داخلية طاحنة، وقد تم الاتفاق على ذلك بمشاركة أممية ودولية وعربية قادتها المملكة العربية السعودية آنذاك.
ويبدو أن لبنان اليوم بحاجة ماسة لحوار جدّي وجديد بين الأطراف السياسية لإعادة تركيب وترتيب النظام والسلطة بعد متغيرات كثيرة حصلت وتبين حجم الثُّغَر والمتغيرات التي تستدعي إعادة النظر في التركيبة السياسية القائمة. ثمة اليوم حقائق ووقائع تثبت حالة الاهتراء والتحلل التي وصل إليها لبنان الذي يعيش شعبه وضعاً مأساوياً لم يسجله التاريخ من قبل، وهو مؤشر واضح أيضاً على خطورة المس بالكيانية اللبنانية التي أنجزت على عجل قبل مئة عام والتي تحتاج اليوم إلى إعادة نظر دقيقة قبل فوات الأوان.
ربما الأكثر إلحاحاً كما يبدو اليوم، تحديد موقع لبنان ووظيفته ودوره في منطقة هي الأشد حساسية في العالم، والأكثر استعداداً للتغير والتبدل، في وقت لم تعد أسس النظام القائم موجودة أو مطبقة وبخاصة في السياسات الخارجية علاوة على الداخلية. لقد حدد اتفاق الطائف الذي تمت على أساسه التعديلات الدستورية، المتصلة بهويته ودوره، من ذي وجه عربي، إلى عربي الهوية، فيما قسم من اللبنانيين يعتبرون أن ثمة خروجاً كبيراً على السياسات المتفق عليها والتي تستدعي إعادة تقييم وتقويم، مع الإشارة إلى أن أحد أهم بنود اتفاق الطائف لم يتم تنفيذه وهو إلغاء الطائفية السياسية وإنشاء مجلس شيوخ على أساس طائفي إلى جانب مجلس النواب.
السؤال هو، هل سيكون للأمم المتحدة دور مؤثر ومفترض لاحقاً في نسج حلول للأزمة اللبنانية؟.
كان للأمم المتحدة أدوار لافتة في العديد من الأزمات الدولية ذات الطابع الداخلي الممتد، فهل ستُعطى هذا الدور لأزمة تعتبر من أشد الأزمات الإقليمية المعقدة والممتدة؟.
الأمور مرهونة برضى وشروط الدول الكبرى المؤثرة في سير عمل الأمم المتحدة أصلاً وفصلاً، في وقت ما زال شعب لبنان يبحث عن المعجزات لحل أزمته غير المسبوقة.